الكاتب المبدع (جمال محمد أحمد) و لُغته المُورقة

 


 

 


abdallashiglini@hotmail.com


{1}
يقف الطلّ ، ويحيه الغمام .منذ مؤتمر الخريجين كان سهماً ناصعاً.من أوائل من أغرتهم ثقافة العمق الأفريقي فينا .فكتب ،وفارق جيله الذي لا يكتُب .أسهم بجراحة غائرة في الكتابة العربية . ونظرها بعين واجدة ، وأدخل عليها من التعديل في المبنى وفي المعنى ما أكسبه ميزة على كُتاب العربية ، وتقدم فرسه عليهم .
{2}
لو قرأت وصفه لمحة من طفولته حين يعتلي ظهر بَغلٍ ، و يُمسِك شقيقه محجوب بخاصرته رديفاً عند غدُوهما والرواح إلى المدرسة الأولية من قريتهما ( سرة شرق ) في شمال السودان القصي ، لعلمت كيف تستنبِت البوادي والأرياف عندنا من نُطفة تكورت في رحم أنثى ، حين تنمو وتُفرد لنا من بعد شجرة باذخة الظلال . حُلو ثمرها ، تتخطى أقواس العُمر برشاقة عبقرية أديب يكتُب بأزميل نحّات و يرسم لُغة مُتجددة الإبداع و مُتفردة الهوى . لن نُغالي أبداإن حسبنا قلمه مدرسة في ترفيع العربية وتغذية شرايينها من الآداب المُعاصرة.
{3}
تمهل سيدي وأنت تقرأ .
الكاتب المبدع  الراحل "جمال محمد أحمد " ( 1915 – 1985 ). هرمٌ من أهراماتنا الأدبية والدبلوماسية  والسياسية . وهو كذلك عندما كان العمل العام يستقطب المُبدعين . تأهيلهم يُجبر أي حاكم مرَّ على وطننا أن يستنير بنيران ثقافتهم المُتأججة . هو معلم  أستاذ جامعي وكاتب وأديب  وحُجة في مجمع اللغة العربية و دبلوماسي تدرج في السلم حتى منصب وزير الخارجية كفاءة وليست مِنحة حاكم . كان الراحل بوابة أطل منها كثيرون من داخل الوطن وخارجه على الأدب الأفريقي في بواكير النهضة الأفريقية  وهي تنبو من من نير الاستعمار . كاتباً مُميز اللغة والأسلوب . خير تعبير شائع يصفه هو  أنه كان مدرسة ، وأكاد أزعم أنه قد طور الكتابة العربية وقفز بها سماوات عالية  منذ بدأ يكتُب . غادرنا في رحلة غياب أبدي في ثمانينات القرن الماضي ، وبقيت أحرفه تُنير دروب لم نـزل نستطلع آثارها ، في الاكتشاف الأول. درر من  رحيق الأدب . فخم جزل العبارة . قريب من مستويات المتعددة في التلقي . رغم أنه لم يكن مُقلاً في الكتابة فقد سرقت عمره الدنيا فجأة . من شمال الوطن منبته وسقى نبعه وطننا وأوطانا مُجاورة كانت تحلم . نثـر لنا العذب من المكتوب . حريٌ بنا أن ننقل لكم بعض  من نصوصه عندما استدرجته مجلة الدوحة القطرية في السبعينات من القرن الماضي    :
{4}
اقرأ معي كيف استفتح مقالة له دعاها ( مشاهد من هارفارد ) حين استكتبه الأديب الراحل ( علي المك ) لمجلة الدوحة القطرية في السبعينات عندما كان مراسلا من الخرطوم :
*
{ بيوت الناس مرايا الناس . ظلها . سيد هذا البيت هو الأستاذ روبرت فتزجرالد ، أستاذ الدراسات الإغريقية والرومانية في هارفارد . ما أتيح لي أن أراه ، و لا عرفت على التحقيق إن كان واحداً ممن في الصور الفوتوغرافية الصغيرة الثلاث في المكتبة . هذا بيت لا يسكنه غير رجل يحيا طمأنينة مُبدعة . كل ما في البيت سلام ، وبعيد ألا يكون هذا السلام إلا من صنع صاحبه . كل ما في البيت زاهد ، لكنه زهد من عرف كيف يجد السكينة داخله .}
*
{ في الشقة رقم 34 من الطابق الثالث والأخير من عمارة تُمسِك باثنتين أخريين عن يمين ويَسار . تُطل كلها على بستانها الخاص وأشجارها الطوال حولها ، قضيت فترتي الدراسية في هارفارد بدءاً بأول الشتاء ختماً بأوائل الصيف ...}

حين يُمسِك الأديب الراحل بيدك ويُدخلك مسكنه كضيف وقارئ ، تتخطى معه العتبات . يُلبِسكَ جُلبابه وتتجول أنت معه كأنك سيد الدار ، بضَمير لُغة يتقمص فيها القارئ روحه كرفيق عُمر !. كرمٌ لُغوي لا تُدانيه ضيافة ، حين يكتب :
*
{ تدخُل تجِدَكَ توّاً فيه . قُبالَتك خِزانة المعاطِف ، للبرد وللحر ، ومشاجِب للطواقي صُنِعت لتحمي الرأس والأذنين ، وقُبعات خفيف بعضها للرذاذ ثقيل بعضها لحمأة الشمس ، ...وفراغاً لغير هذه من واقيات الحر والبرد ، .. خزانة الصيف والشتاء هذه داخل الحائط في الصالون ، حيث مجلِس أضيافك ومجلسك . خطوات قليلة عبر هذا الصالون يسار مدخلك فتحة لدهليز عرضه متر طوله أمتار   معدودة }
أو حين يكتُب :
*
{ ..خطوات من بعد قبالتكَ ، باب آخر يقود لمطبخك أعدّ ليخدُم من يخدُم نفسه.. على اليسار فتحة أخرى كفتحة المدخل على دهليز تقود للمكتبة ، أفسح غرف البيت ، اقتعدت فيها طاولة الكتابة والقراءة مكاناً وسطاً ...}
أو حين يكتب :
*
{ إن اضطررت ليوم تقضيه داخل البيت لن توحَش . النافذتان على يسارك عيناك لهذه الرئة الخضراء للطوابق الثلاث هُنا وأخواتها هناك عبر الطريق . تخضر الأشجار ويخضر العُشب في الربيع ، وتُزهر الشجيرات فتؤنس ، أول الصيف يذوي الورق تسمعه يتساقط ..}
أو حين يكتُب :
*
{ في الذي رأيت حولي من كُتب ومن متاع . هذه فئة من الناس كبُرت على الطموح نفسه ، سكونها كان داخلها عُلواً على صخب حروب المذهب والسلطان ، يستحيل لغير كبير على السلطان والجاه والمال والرفاه ، أن يغني كما فعل ( أوفيد ) في إيكولوجي أغانيه التي جمعها عشاق الحياة ، ما كان يدرِك وهو يُغني بأنّا نهتز لها نحن اليوم ألفا سنة من بعد ،..}
{5}
تتمهل أنتَ حين تقرأ للأديب (جمال محمد أحمد ) ، تحس ألفة ومحبة تشعّ من أحرُفه التي بها يكتُب . يتخطى التُراث في الكتابة العربية بخطو العارِف ، الناهِل من حلاوة الإيجاز البليغ والسينمائية التي تأتيك بالدهشة من حيث تدري و لا تدري . تتلمس حليات القص وفخامته وأنت تقرأ . يتبدى لك الدفين الذي هضَمته ثقافته الباذخة ، واطلاعه العميق على آداب الدُنيا . يُزاوج فيها حُراً كما يشاء ، خاتماً لنا بَصمَته عند كل مُنعطف برقة وسلاسة . عسير على من أراد تقليده أن يمتطي فرساً لُغوياً نافراً ،وهو عند صاحبه الخلُوق رفيق درب لا مُستعبداً يُركَبُ ظهره ! .
{6}
ساقتني قدماي ذات صُدفة مطلع الثمانينات . حضرت لزيارة بعض الصحاب الدارسين بمعهد الدراسات الأفريقية والأسيوية بجامعة الخرطوم . تحت ظل شجرة في فُسحة مُمكنة جلست في مقعد مع آخرين جواري في الهواء الطلق . كُنا بضعاً وعشرين فردا لسماع مُحاضرة يُلقيها هو علينا عن القرار ( 242 ) الذي أصدره مجلس الأمن قبيل وقف إطلاق النار أيام
حرب السادس من يونيو 1967م
جلست مستَمِعاً تُدهشني اللغة والبلاغة والمنطق والتحليل والدقة والسرد الباهر . ينهمر سلسبيل المعرفة بمائه الثقيل من أثر الموسوعة الثقافية والأدبية والسياسية المٌترَفة لسيدنا . تسمع حفيف حركات الأغصان بأوراقها مع الريح كموسيقى تُصور لك الأحداث الجِسام التي تخطت العقلية الدُبلوماسية العربية ، وهي تُقبِل على موافقتها لنص تلك الوثيقة الماكرة . تبدو النصوص كجرَّة تنضح ندىً يحسبها الظمآن مورداً يُطفئ عطشه .. ولكن !؟
لا أعرف كيف أصف لكم مشهداً لن يُنسى من صفحة العُمر كأن بيني وبينه يوم وليلة ! . صوت الكاتب السامق ( جمال ) يُبعثر اللُغة و كنوزها الأدبية و خطوط القانون الصارمة التي خطتها أصابع ماهرة من الطرف الأقوى ، وغفلة تاريخية من الطرف الغض من المُعادلة المُجحِفة ،لم تزل تأخذ بدُنيا المُستضعفين حيثما حلُّوا .
أفقت من الذهول عند الخاتِمة وأسئلة الحضور تتقاطر ، فأعماق الردود وخُلق سيدنا ، وتواضعه الجّم حين يُمسك بطِفل السؤال و براءته ، ليُجلسه معه في مقعد الدبلوماسية الفخيم . تجد نفسكَ أمام خيارات أمة وقفت عارية و تداعت مصائرها في جملة لُغوية ، ارتضاها من لا يُدرك أبعادها أو أجبرته حوامض الدهر أن يرضى ، فأضحت نصاً يشخص له طلاب الدبلوماسية في كل زمان عند مفاصل التَعلُم : كيف تُفسِح للنص أن يُرضي المُتنازعَين ، كل يُفسِر وفق هواه ، ويُفلِت المُحتل من سيف العدل !.
{7}
لن تفِ الكاتب المبدع و الدُبلوماسي الراحل (جمال محمد أحمد ) صفحة مقال أو نثر كتاب ، فالسماوات تضيق على سعتها بالحديث عن سيرة ذاك الطود الشامِخ الذي سرقته منّا دُنيا الثمانينات من القرن الماضي . أسفاره الروائية و دراساته في الأدب الأفريقي وأسفاره المكتوبة والمُمارسة في الدبلوماسية و الترجمة والتدريس الجامعي ، أو حين الجلوس لمآدب التفاوض المُضني أو من وراء كواليس صياغة وثائق المُنظمات الإقليمية ، عندما كان أصحاب القرار من وراء قيادات الأمم الأفريقية والعربية الناهضة من أطواق الاستعمار القديم لا تُميِّز الأثداء التي تأخذ منها
وجبات حليب التغذية !
لم يزل الوطن يتسربل بالخسائر الفادحة ، إلا إن الأعمار ومصائر الأجساد لها السُقوف ، وهي سُنة الحياة . لم يتركنا الراحل فقراء على أبواب التسول ، بل ترك لنا الثراء المكتُوب ..
{8}
بدأ من "سرة شرق" ثم المدرسة الوسطى ، ثانوية غردون التذكارية ، بخت الرضا ، جامعة " أكستر "( 1943- 1946 ) بالمملكة المتحدة ، جامعة أكسفورد ( 1952-1954) ونال الأستاذية في الآداب عن أصول اللبراليين في مصر . عمل بالمدارس الثانوية ،ثم مشرفاً على شئون الطلاب بجامعة الخرطوم أيام الاستعمار . عمل سفيراً في فجر الاستقلال في بغداد ، وأثيوبيا ، ثم مندوباً للسودان في هيئة الأمم المتحدة . من مؤسسي مجلة الصبيان (أول مجلة  سودانية للأطفال) مستشار ثقافي لمجلة حوار.عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة .عضو هيئة تحرير مكتب النشر بالسودان .رئيساً لاتحاد الكتاب السودانيين 1985.
{9}
من مؤلفاته:
مطالعات فى الشئون الإفريقية 1986م .الدبلوماسية السودانية 1985م
.وجدان إفريقيا  1972م.عرب وأفارقة 1977م .المسرحية الأفريقية 1971م .سالى فو حمر عام 1970م .حكايات من سرة شرق .أساطير سرة شرق .الأصول الثقافية للقومية المصرية ( بالانجليزية ) .كتب مقدمة لديوان أسرار " تمبتكو" القديمة.
ترجماته:
الدولة الاتحادية.إفريقيا تحت أضواء جديدة.العنصر الإنساني في التطور الإفريقي.مما قيل عنه:قال عنه القاص الطيب صالح: "كان المرحوم جمال محمد أحمد شخصاً معروفاً مرموقاً في دنيا العرب فقد كان مفكراً كبيراً وأديباً صاحب رؤية طريفة وأسلوب لا يشبه أسلوب أحد من الكُتاب".قال عنه "عثمان محمد الحسن": لقد كان جمال باختصار معلماً ودبلوماسياً وكاتباً وناقداً و مفكراً . وقف حياته الفكرية لخدمة أغراض عظمى وهي تبصير الناس بأمور حياتهم وفكرهم".
الجوائز:
نال جائزة مسابقة الكتابة بالعربية من كلية غردون 1934م.نال جائزة من حاكم السودان عام 1974م.الجائزة التقديرية للآداب والفنون عام 1982م.
الدكتوراه الفخرية في الآداب من جامعة الخرطوم عام 1983م.وسام من المكتبة القبطية تقديراً للنشاط الأدبي والعمل العام.
رحمه المولى ورَطب مرقده وأفسح له في أفنان الرياض الموعودة .
سنكتُب عنه حين تأذن سانِحة أخرى.

عبد الله الشقليني
23/2/2006

 

آراء