الطريق إلى التغيير “3” .. انكسار الرافعة وتزيف الطبقة الوسطى وهجرة العقول. بقلم: فايز الشيخ السليك
faizalsilaik@gmail.com
كنت أُلاحظ قبل انتفاضة 16 يونيو 2011 في معظم حواراتي المباشرة، والشخصية مع عدد من الشباب الحالمين بالتغيير؛ من الذين يتواصلون معي عبر مواقع التواصل الإجتماعي " الفيس بوك" سيادة روح الإحباط وسط هؤلاء الشباب، وأحُّس بأنّ بعضهم مصاب بالعجز التام، واليأس، والشلل ، وهو أمرٌ يعكس ما وصلنا إليه من حالة من الاستسلام والامبالاة بسبب القهر والتسلط الأسلاموي لقرابة ربع قرن من الزمان، ولعجز المعارضة المنظمة في اشعال شعلة ضوء، ولو في آخر النفق، ولكن حالما تنقشع ظلمة " الإحباط" مع اندلاع مظاهرة صغيرة، أو حتى معزولة، فحين تندلع "مظاهرات" في الخرطوم مثلاً، يتمنى كثيرون منا سقوط الحكومة في هبة واحدة، فيسارع الكثيرون، لكن نفس هؤلاء قد لا يشاركون هم بأنفسهم في "مثل هذا النشاط"، فهم يريدون من آخرين صنع انجاز اسقاط النظام نيابةً عنهم، في وقت لا يتوانون فيه عن تحذير أقاربهم من المشاركة في مثل هذه الأعمال، ويشددون عليهم بضرورة "المشي جنب الحيط"،فقد لازمت الشعوب السودانية؛ لا سيما في المركز حالةً صعبةً من الاستسلام، بسبب غياب ثقافة التضحية، وايثار الغير، على الذات، والخاص على العام، والجهة على الوطن، والقبيلة على الشعب، وهي مرحلة يمكننا وصفها من غير ما تردد بانها مرحلة " الانحطاط العام" وليس غريباً؛ فالسودان في ظل حكم الإنقاذ، وزواج الإسلامويين مع العسكرتاريا بلغ أعلى مراحل انحطاطه،" وخلال هذه المرحلة التي تمتد فترات طويلة نسبياً ، يشعر الفرد بصعوبة التغيير، وعدم جدوى ضياع الوقت في مقاومة السلطة الباطشة، و يرى الدكتور مصطفى حجازي في كتابه " سيكلوجية الإنسان المقهور أن زمن الرضوخ والاستكانة "يشكل الفترة المظلمة من تاريخ المجتمع، عصر الإنحطاط، وتكون قوى التسلط الداخلي والخارجي في أوج سطوتها، وحالة الرضوخ في أشد درجاتها .. عملية انهيار قيمة الانسان المقهور وطغيان أنوية المتسلط تأخذ أبرز أشكالها وضوحاً وصراحةً، وتكون الجماهير في حالة قصور واضح في درجة التعبئة التي تؤهلها للرد والمقاومة ، فيبدو وكأن الاستكانة والمهانة هي الطبيعة الأزلية لهذه الجماهير، وهذا ما تحاول قوى التسلط على كال حال غرسه في نفسيتها، في حملة تيئسية منظمة تقطع السبل أمام أي انتفاضة أو أمل في انتفاضة ، سكون الموت المخيم لا يقطعه سوى فقاعات تمرد فردي، لا تلبث أن تغيب، مخلفة وراءها مزيداً من القناعة في استحالة الخلاص من خلال المجابهة، نظراً لما تقبل به من ردود فعل عنيفة ، تأخذ شكل البطش الذي تمارسه الفئة المتسلطة ".
إلا ان مرحلة الرضوخ لا محالة سوف تنتهي، وستعقبها مرحلة التململ، ومن ثم التمرد، وقد مثلت " هبة يونيو / يوليو هذه المرحلة، بعد أن انكسر حاجز الخوف، وبات في الأفق بصيص أمل في التحرك، واتضح لنا أن " النظام لا يعدو ان يكون سوى نمر من ورق"، وهنا يأتي دور " المثقفين العضويين"، والقوى المنظمة، والطاقات الشبابية، وهي التي تستمر في المقاومة، وتعمل على تنظيم الجماهير، وحشدها وتعبئتها، دونما كلل أو ملل، وكنت قد طرحت في الحلقة الثانية من حلقات مقال " الطريق إلى التغيير" بعض التساؤلات حول انعدام " رافعة التغيير" في السودان، أي الطبقة الوسطى، والتي شهدت أبشع المجازر خلال سنوات الأنقاذ، والتي جاءت في سياق سياسة كاملة يمكن أن نسميها بسياسات فصل الذاكرة، هي تفريغها من تاريخها، وإرثها الحضاري، عبر استهداف التاريخ ورموزه، والاعتداء المنظم والممنهج على المتاحف والتماثيل، واللغات ، والأسماء، والأحداث، وسياسات الإبادة الجماعية، والترحيل القسري، والاحلال والأبدال بهدف تغيير " ديموغرافيا" المنطقة المعنية.
أما سياسات كسر رافعة التغيير، فهي مرتبطة بذاكرة الحاضر والمستقبل، وهي عملية تجريف متعمد للبلاد، وافراغها من عناصر الطبقة الوسطى، والمتعلمين ، والمثقفين، والعاملين في أجهزة الخدمة المدنية والعسكرية، بغرض افراغ البلاد من كفاءاتها العلمية والوطنية، والغاء دور الطبقة الوسطى ، وما تحمله من جذور وطنية، وجذوة تتقد من حينٍ إلى آخر، تهفو للحرية والديمقراطية، فاستخدم البدويون الجدد معاول الهدم، عبر سياسة "الفصل للصالح العام"، و" التمكين" فقامت بعمليات إبدال وإحلال أفقدت البلاد ما تبقى فيها من عقلٍ يفكر، أو على أقل تقدير ، يستطيع إدارة المؤسسات البروقراطية، بكفاءة أفضل من كفاءة القادمين الجدد من أهل الولاء، لا أهل الكفاءة، وبشهادات " الجهاد" لا شهادات علمية، كل في مجاله، وقد شهدت بداية التسعينات مهزلة إدارية لم يشهد لها السودان مثيلاً، خلال معايانات التقديم للوظائف الحكومية، وشروط التوظيف، وطريقة معاينات الاختيار للوظائف في المؤسسات الحكومية.
وهي سياسة جاءت متناسقة مع رغبة الإسلامويين في اختطاف الدولة كلها، والسيطرة على مقاليد السلطة، وتم ذلك عبر عملية "إحلال وأبدال"، بفصل العناصر غير الأسلامية، وحل محلها بكودار موالية للنظام، وهو بذلك يحقق غرضين؛ إرضاء الكوادر ، وضمان استمرار الولاء، من جهة، والتحسب لأي محاولات عصيان مدني أو اضراب سياسي في المستقبل تقوم به هذه الشرائح، وفي الذهن تجربتي أبريل 1985، وأكتوبر 1964.
وهنا يشير الأستاذ المحبوب عبد السلام في سفره " الحركة الإسلامية.. دائرة الضوء.. خيوط الظلام" قائلاً " لأول عهد الثورة، ومع تصاعد شهية المعارضة التي استفاقت تماماً على طبيعة التغيير لإسقاط النظام، نشطت حملة لتصفية الخدمة المدنية من العناصر المناوئة ، وافت رغبة حقيقية من المنظرين لدولة الإنقاذ الوليدة في تحجيم جهاز الدولة الذي بدى مترهلاً يستهلك أضعاف مما ينتج، لكن مهما تكن الجدوى الاقتصادية بتخفيض العمالة يومئذٍ فإن فصل الآلاف كان يحتاج في اقراره وإنفاذه إلى درس معمق لتأمين خطوات الإنتقال التي تبدو ضرورة في بعض الحالات ، إلا أن اشتباك الرغبتين، أدى إلى ما يشبه " المجزرة العشوائية" في الخدمة المدنية، فكثير من الأسماء أودعت القوائم بدوافع لا علاقة لها بالعمل ، أو بتأمين الثورة، لكن بغضب بعض عناصر الحركة الإسلامية في الخدمة المدنية، أو خوفهم من بعض العاملين، أو لهم عليهم تحفظ حزبي، أو موجدة شخصية ، فجاءت القوائم مفتوحةً بلا تمحيص، وتسلقت جماعة الوصوليين يستغلون سذاجة الثورة بحسهم النفعي، وسلوكهم الانتهازي، يصفون حساباتهم، بالتأثير على عناصر الحركة، وأجهزة المعلومات إنما تستقي معلوماتها من عناصرها في التنظيم، وهكذا انتظمت الحملة في كل أجهزة الدولة تحت اسم الصالح العام " ، وتُقدر الأرقام عدد المفصولين مع بداية الهجمة الهمجية على الخدمة العامة بحوالي 200" ألف من العاملين بالدولة لوظائفهم تحت مسمى " الصالح العام؛ وهو يتوزع ما بين "انهاء الخدمة، وانتهاء مهام الوظيفة في سياق إعادة هيكلة المؤسسات، وبيعها للمقربين من الإسلامويين في الداخل، أومن المهاجرين إلى " الدولة الإسلامية من عناصر الحركات الإسلامية، بما في ذلك جماعات القاعدة، فكان ذلك يمثل أكبر مجزرة في تاريخ السودان، فذهب مئات الآلاف ؛هكذا إلى بيوتهم لأن الدولة استغنت عنهم ، وقد كان ثمن هذه المجزرة التاريخية، هو النزيف المتواصل لهجرة الكفاءات، واختصار التوظيف في وظائف الشعب بشهادة الولاء، وليس غريباً أن يكون شرط من يتقدم لوظيفة " مهندس" مثلاً؛ هي حفظه لآيات من القرآن الكريم، لا درجاته العلمية، أو خبراته هي المؤهل، أو أن يكون شرط الطبيب للعمل في مستشفى هو معرفته بفقه الحيض والنفاس، لا معرفته بعلوم التوليد ، أو الجراحة، أو الطفولة، وأن يعرف الصحافي المتقدم للعمل في التلفزيون فرائض الوضوء، دون أن يعرف فن كتابة الخبر، أو مدارس الأخراج التلفزيوني.
إن حملة تصفية الخدمة المدنية، وتجريف الطبقة الوسطى منها، لم تنته مع انتهاء الأيام الأولى بغرض التأمين، لكنها استمرت، فشملت موظفين كبار في الخارجية، وأساتذة مرموقين بالجامعات، والمدارس، و كفاءات في المصانع، والشركات الحكومية، والمصارف والبنوك، واتسعت الدائرة ، وشملت القوات النظامية، في سياق أسلمة الدولة، وأجهزتها،، وفكرة التمكين، فكرةٌ شمولية، واقصائية، تكشف طبيعة العقل الذي أنتج هذه الفكرة، وهو ما تجلى لاحقاً، في الأزمات المتلاحقة، والكوارث المتتالية التي عصفت بكيان الدولة السودانية ، الهش أصلاً, وليس هناك من شيئ ، أسوأ من انتشار الكذب بدلاً عن الشفافية، وانتصار الخرافة على العلم، وسطوة العاطفة على العقل، وتمثَّل ذلك في انتشار ظاهرة اطلاق اللَّحي بين ضباط الجيش والشرطة، بهدف تملُّق الحُكام، وإظهار الولاء لهم ، والتقرب منهم، وبدا الأمر لبعضهم أهم من الاهتمام بفنون القتال، أو حماية الوطن، وهي ظاهرة عمت كل القطاعات، وشملت كل أنحاء الحياة في النصف الأول من تسعينبات القرن العشرين، فكان الاهتمام ببناء المساجد وأوقات الصلوات أهم بكثير من الاهتمام بتقديم الخدمات للمواطنين، فصار من العسير أن تُقضى حاجةٌ لمواطن مهما كانت خطورة الأمر، إذا ما جاء المواطن المغلوب على أمره في وقت كان فيه الموظف غارقاً في حصة تلاوة، أو خرج من عمله كي يشارك في مظاهرة هتافية، تهتف "أمريكا روسيا دنا عذابها،