abdallashiglini@hotmail.com
(1)
جاء اليوم للبكاء على ماضٍ تولى . وحوائط وقفت شاهقة بين اليدين الممدودتين دون أن يتواصلا . هذه الحفاوة نستدعيها اليوم لتُغسل أدمُعنا. إن الماضي رغم كل شيء كان أفضل من خطوب الحاضر ومآسيه التي تنتظر . ها هي المنافي تلقي بثقلها علينا كل حين ، وتحزّ أعناقنا بالفراق . وليست المنافي وحدها ، فقد شهدنا حفلات وداع وقسوة انتزاع المواطنين من فضاء أرضهم الكل ليذهبوا إلى الجزء ، ويظنون في ضمائرهم " ربما القادم أفضل " .
مضينا ونحن أبناء وبنات السودان الواحد ، في السراء والضراء رغم التنوع والاختلاف الثقافي إلى الحياة يحدونا الأمل . كان ولم يزل التسامُح هو وسيلة العيش مع أنفسنا وعاداتنا والتقاليد التي يتعين الاستمساك بها رغم وجود تيار يقف ضد هذا التسامُح. ولست أدري الآن ما الذي فعله انشقاق الدولة إلى دولتين في النفوس ؟! . وما الذي تركته الحياة في الخواطر المنكسرة للأفراد والجماعات ، دون أن تدري الجينات التي ورثناها من هذا التركيب الخلاسي الملتبس في سحناتنا ولغاتنا وعاداتنا الثقافية المتنوعة المصير الذي ينتظر ؟.
تأمُل الحليب المسكوب أمر لابدّ منه، في ظل الخسائر المتلاحقة وعدم القدرة على تغيير الواقع .
(2)
لن يعود الجنوب إلى الوطن الأم في المستقبل المنظور. ولن يرجع الطفل إلى الرحم مرة أخرى . مضى الزمان وفَصَل في أمر ملامحنا الجديدة . قُضِيَ الأَمْرُ وليس هنالك من وسيلة تجميل تُعيد النضار من جديد لشبابٍ شاخ. مشت السكيِّنة الحادة الحواف على الجسد المُسجى . بعضه انفصل وبعضه لما يزل ينتظر أن يتفرغ الجزارون من نزاعهم : لمن الرأس ولمن الأظلاف !
(3)
لم يزل صديقنا الدكتور" عز الدين هلالي" ينتظر دون أن يتقبل مسألة الدولتين . يرى أن الوطنية التي رضعها الجميع ستقرر آخر المطاف أن الدولة واحدة ، وأن النزاع الحالي هو نزاع التكفيريين من جبهتين ،ولن يصمُد طويلاً ، وأن الحياة عائدة لمجاريها ولو بعد حين. وكذلك كان الراحل الأستاذ " علي محمد صديق " الإداري الحاذق يتصور أن السودان لن ينقسم إلى دولتين وإن انقسم فسيعود أدراجه وإن طال الزمان .فهو قد عمِل في مقتبل حياته العملية ضابطاً إدارياً في منطقة "أبيي "عام 1969 م . ذرف هو أدمعاً غزيرة على قسوة الواقع على العواطف الإنسانية النبيلة . كل يوم يمرّ وكان المأمول سلاماً نتيجة اتفاق "نيفاشا " ، لكن البناء قد قام على أساس هشّ ،و دون مشورة ممثلي الشعوب السودانية و الذي تم قسراً تكون نتيجته خراب على الجميع . الدولتين تشكلا ولم يزل الصراع المُهلك مُستمر! . جهودٌ بشرية وقتالية واقتصادية سوف تدعم هذا الصراع الذي لم ينته . فالطرفان وغيرهما من الأطراف يريدون السيطرة على مصادر محدودة. وكل طرف من تلك الأطراف الظاهرة في الصراع والخفية يعتقد أن سيطرته على المصادر أمرٌ مشروع . وليست هنالك فروق ضخمة في القوى المتصارعة .
(4)
إن الجينات القابعة منذ آلاف السنوات في أجسادنا ، لم تزل تنتظر وتسأل :
ماذا الذي جرى وما الذي سوف يجري ؟
ربما كان كثير من السياسيين الذين حكموا السودان بدون رؤيا ، أو أن أداءهم دون الطموحات المُبتغاة ، ولكن الذين تسلطوا على السودان ووقعوا على " نيفاشا "ونفذوا برنامج " الفوضى الخلاقة " وجدوا ما يستحقون . احتفلوا مع المحتفلين ، لم يفسح لهم أهل الدولة الصغرى الناشئة مكاناً إلا اختاروا لهم أكثر الأماكن ضعة وذلاً ، وسلموهم علمهم مطوياً ليأخذوه معهم أينما يشاءون !.
(5)
لن يصبح السودان دولة وهابية تكفيرية مثل ما أشاع الذين اغتصبوا السلطة بليل ، ولن يستسلم الوطنيون أمام ترك الباب مفتوحاً لتمويل الفكر الوهابي الإقصائي العابر للقارات أن يسود ويغير التركيبة الثقافية من التسامُح إلى ضده. فالحياة السودانية ذات أديان مُتسامحة عرفها التاريخ .جاء مع المتصوفة في القرن الخامس عشر ، ولم تستطع الغلظة التي تنبُت عشوائية في دروب التاريخ أن تغير تلك الملامح . كان للمجتمع آليته في القبول والتصالح أو صناعة المنطقة الوسطى مع الفكر الوافد . تشكل الجسد الفكري الخُلاسي بعلاقة جديدة بين الموروث والمُكتسب بوجهه المُتسامح .والثقافات التي تنوعت بين الشعوب السودانية . وهي قضية لن يمحوها التكفيريون الجُدد الذين يروجون بأن الساحة خالية إلا من تأويلهم . وأن السودان في حقيقة أمره واحة تنوع ليس مملوكة لفكر ديني واحد ولو كثُر الذين يدينون به. وإن الفرية التي يروج لها المروجون من أن السودان صار 98% يدينون بالإسلام مجرد مكر . فليس لهم إحصاء للنفوس ، ولا اطلعوا على سرائرها ، بل هو محض افتراء أيديولوجي . وإن صحّ فلن يصح أن الناتج إسلام تكفيري إقصائي. بل حياة سودانية حرة لكل فكرٍ حرّ ومعتقد حر . وليس هنالك من حياة للنمط الثقافي المُضاد للتنوع الخلاق الذي يحترم الخصوصيات الثقافية والهويات المتنوعة في أرجاء الوطن بفضائه الجديد الذي تقلص بذهاب الجنوب وطناً آخر. وليس السودان جميع أهله مسلمون كما يريد أن يشيعه أهل السلطان. لم تزل دعوة التنوع مقرونة بالانفتاح لا الانغلاق ، والتسامُح لا التعصب ، واحترام الاختلاف وليس إلغاءه . وكما قال " غاندي " :
( إنني على أتم استعدادٍ لأن أفتح نوافذ بيتي لتهب عليه الرياح من كل اتجاه ، شريطة ألا تعصُف هذه الرياح ببيتي فتهدمه وتقضي عليه )
(6)
تقرير المصير حلمٌ يعني تمزيق الدول في المحصلة النهائية ، وليس حرية للشعوب بقدر ما هي مكر الالتفاف على الدول واقتصادها ونسيجها الاجتماعي لتفتيت شأنها ليسهل الهيمنة عليها في صيرورة العولمة وجانبها المُظلم . يخلل نسيجها الاجتماعي ويهدم اقتصادها ويعرضها شعوبها للمخاطر .
نعلم أن أسبانيا لم تمنح "الباسك " حق تقرير المصير ولا" كويبك " منحتها كندا ذات الحق .ولا أيرلندا منحتها بريطانيا حق تقرير المصير ، ولكن ضعف ووضاعة شركاء " نيفاشا " جعلهم ينسون كل تبعات الانفصال ، ويقرروا الاستفتاء على تقرير المصير ، تصحبهم أمنية خادعة أن كل واحد سيذهب لحال سبيله !. وجاء استحقاق دفع الثمن الباهظ للجهل بالوطن وشعوبه ، وفي محاولة لينوبوا عنه في كل شيء . إذ لم يذهب شيء لحاله ، بل كل القضايا العالقة تنتظر. كان في أول الاتفاق مكر أصحاب السلطة والدولة ، ولكن الأمر خرج من قضية داخلية إلى قضايا بين وطنين !.
(7)
لن تخمَد النار من تلقاء نفسها . والزمان يمضي والخسائر اللاحقة أكثر من التي مضت. لقد قطع اللاعبون شوطي المباراة بلا جمهور ، لأن الجمهور ليست له يدٌ فيما جرى وتقطعت الأنفاس باللاعبين في شوط ما بعد الثاني ولا نهاية للمنافسة !.
(8)
كتب "ماكس إيه إيجرت "و"ويندي فالزون" في كتابهما " تسوية الصراعات " :
{ الحياة اليوم مشحونة باحتمالات وجود الخلافات ، إن لم تكن الصراعات معلنة ، وهذا ببساطة لأنه ليس هنالك ما يكفي مما يريده الجميع . والصراعات والخلافات تنشأ بسبب المال والخدمات والسلطة والممتلكات وغير ذلك . فإذا وُجد شيء ما ، وكان هنالك أكثر من شخص يريده أو يحتاجه ، فهناك احتمال أن يحدث الصراع . والصراع يحدث داخل البيت وفي العمل ، بين الأشخاص وفرق العمل والجماعات والقبائل والعشائر والدول والأمم . والحقيقة أن الصراع يحدث في كل وقت ، وفي كل مكان ، فحيثما وُجد الناس وُجد الصراع . وسواء كنت تتفاوض مع شريكة حياتك أو نيابة عن دولتك ، فعليك أن تتعلم مهارات التوحد مع الآخر والإصغاء له والشعور بالحميمية تجاهه ، بالإضافة على القدرة على الموازنة بين احتياجاتك العاطفية وتفكيرك العقلاني . وإذا كنت تمتلك السلطة والنفوذ ، يصبح قهر وإكراه الآخرين مسألة سهلة ، ولكنها لا تحقق النجاح على المدى البعيد . واليوم لم يعد مبدأ فائز/خاسر ، بما ينطوي عليه من خطر الوصول إلى نتيجة خاسر/خاسر ، طريقة سليمة لتسوية الصراع . ربما تفوز في هذه الجولة ، ولكنك ستخسر العلاقة . فُز الآن ، فقط لتخسر فيما بعد . وما دام الصراع مسألة حتمية ، أو حتى طبيعية ، فسيكون من الحكمة أولاً أن تحاول فهمه ، ثم تفكر بعد ذلك في طرق تسويته وحله أو الاستفادة منه بشكل إيجابي . }
(9)
نُعيد مشاهد البيئة المصورة التي نزعها الحاقدون عن غُرف الصدور .ونترك الحديث وجرعة المرارة على الحليب المسكوب تُعيد مباني الحزن الشاهقة ، وقد بُنيت عِمارتها على أشلاء العواطف البريئة التي اغتالها السياسيون الخطاة . ونفتح أعيننا على الطبيعة الطيبة التي يجري في دمائنا أسيلها . فالعبرات لن تُرجع عجلة الزمان . ومن تلكئوا انتظاراً في الشمال لعل الأيام تجري بما تشتهي الآمال ، ذهبت جميعاً تذروها الرياح ، فليس هنالك من سبيل للُحمة جديدة . فالعودة إلى منابت أرض العرق الأولى هي مدية كتبتها اتفاقات " نيفاشا " دون أن تحس بغلظة العرقية في ترسيم البشر على الأرض وتحديد القبائل ، ولم يرتفع صوتاً من ممثلي الدول التي شهدت الاتفاق ضد عنصرية التمثيل . من يا تُرى كتب وثيقة فصل الأعراق دون أن يرمش له جفن ؟! . ومن الذي بصم بصحتها ؟!
لنقرأ وقائعها من جديد لنُعيد فحص جينات الجسد المقبور :
ما هي الشروط القانونية للتسجيل والتصويت في الجنوب ؟
يتعين على الشخص المسجل والمقترع في الجنوب أن يكون لديه أحد والديه من المجتمعات الأصلية القاطنة بجنوب السودان قبل 1 يناير 1956 أو يرجع أصل أجداده إلى إحدى المجتمعات العرقية بجنوب السودان .
كذلك يكون الناخبون مقيمين بصفة دائمة دون انقطاع أو يكون والداهم أو أحد أجدادهم مقيمين إقامة دائمة دون انقطاع بجنوب السودان .منذ 1 يناير 1956 .
من يجوز له التسجيل والتصويت خارج جنوب السودان ؟
يجوز للناخب الذي يرجع أصل والديه إلى واحد من المجتمعات الأصلية التي استقرت بجنوب السودان قبل 1 يناير 1956 التصويت في أي مركز في داخل أو خارج جنوب السودان .
الشخص الذي يرجع أصل أجداده إلى أحد المجتمعات العرقية بجنوب السودان ، غير أنه لم يقم إقامة دائمة دون انقطاع في جنوب السودان قبل 1 يناير 1956 يتعين عليه التسجيل والتصويت في الجنوب .
(10)
تستحق المحاجر أن تغتسل بالملح لعل للتاريخ خاطرٌ غريب : أن يُبقي الحليبُ المسكوب يندلق ونحن نتأمل !.
عبد الله الشقليني
16/9/2012