boulkea@yahoo.com
( في طريق عودتي من المدرسة سمعت رجلاً يقول (سأقتلك) فأسرعت في المشي، وبعد فترة نظرت خلفي ووجدت الرجل مازال يتعقبني، ولكنني ارتحت بعدما اكتشفت أنه كان يتحدث في هاتفه، وربما كان يهدد شخصًا آخر ). إنتهى
الحديث أعلاهُ من يوميات لطفلة باكستانيَّة في عمر الزهور ( 14 سنة) إتخَّذ منها "فرسان" حركة طالبان باكستان عدواً لدوداً وقاموا بتدبير "غزوة" جهادية للقضاء عليها. الطفلة هى "ملالا يوسف زاي" وقد ذاع صيتها بسبب كتابتها يوميات لقسم الأوردو في إذاعة «بي بي سي» عن الحياة في ظل حُكم الطالبان الذين كانوا يديرون إقليم سوات قبل أن يطردهم الجيش منه قبل ثلاثة أعوام.
أعدَّ مجاهدو الطالبان "الأشاوس" كميناً مسلحاً لحافلة تقل طالبات صغيرات السن مما أدى لإصابة ملالة بطلقة إخترقت جُمجمتها دون الوصول إلى المخ لتستقر في كتفها, كما أسفر الكمين عن إصابة طالبتين أخريين بجروح متوسطة, وقال المتحدث باسم طالبان إحسان الله إحسان إنَّ (الفتاة كانت تنتقد طالبان والجهاد، ولذلك إستهدفناها، إنهُ تحذير لكل من يحاول تقليدها ورفع صوته ضدنا ).
جريمة هذه الطفلة البريئة أنها إنتقدت الممارسات المُجحفة للطالبان و حلمت بأن تصبح "طبيبة" في المستقبل, وقد دفعها للإنتقاد خوفها من أن يوأد حلمها, وأحلام زميلاتها بسبب قرار الطالبان إغلاق مدرستها إلى الأبد, حيث ذكرت في إحدى يومياتها أن مزاجها كان سيئاً لأنَّ ( مدير المدرسة لأول مرة أعلن عن بدء الإجازة الشتوية، لكنهُ لم يشر إلى تاريخ إستئناف الدراسة، وقالت إنها خمّنت أنَّ السبب هو إعلان طالبان منع دراسة الفتيات نهائيًا منذ 15 يناير) موضحة أنَّ أيًا من زميلاتها لم تشعر بالسعادة من أجل بدء الإجازة، بسبب علمهنَّ أنهنَّ ربما لا يستطعن إستئناف الدراسة فيما بعد أبدًا .
هذه الحادثة تجسِّد المأزق المأساوي الذي يعيشهُ "الفكر الإسلامي" ممثلاً في تيَّار السلفية المقاتلة (الجهادية ) الذي ينتمي إليه الطالبان. وهى ليست حادثة معزولة ولكنها تنزيل لمنهج فكري متكامل شهدنا تطبيقه العملي الأمثل في ظل حكم الطالبان لأفغانستان, وملامحهُ الأساسية البعد عن روح العصر والتطبيق الشكلي للحدود دون الغوص في المغزى والهدف منها.
لخص الدكتور القرضاوي فكر الطالبان في كلمات قالها بعد عودته من أفغانستان التي ذهب إليها ضمن وفد إسلامي لإقناع حكومتها بالعدول عن قرار هدم تمثال بوذا حيث قال: (لقد التقى الوفد الإسلامي خلال الزيارة بعلماء طيبين لكنهم يعيشون في الماضي ولا ينتمون للحاضر ولا يعرفون شيئًا عن العصر ومشكلاته ).
الذين يبرِّرون هذه الأعمال الوحشية التي لا يمكن أن ُيقرِّها شرع أو عرف أو تقاليد, يقولون إنَّ الطالبان يقودون حرباً مع الغرب والأمريكان, وأننا لا يمكن أن نحاكم أفكارهم أو منهجهم إلا حين تستقر الأمور وتتاح لهم فرصة إقامة "إمارتهم" الإسلاميَّة, وهذه حُجَّة بائرة لأننا رأينا نموذج حكمهم في أفغانستان وهو نموذج بائس متخلف يمنع تعليم المرأة, ويوظف البوليس الديني لمراقبة من تحدِّثه نفسه بقص "لحيته", ويرجم "القاصرات". هو نموذج يحتفي بالموت والهدم ولا يأبه كثيراً بالحياة و بالبناء.
الجُرم الذي إرتكبتهُ هذه الطفلة الجميلة والذكيَّة يتمثل فقط في مطالبتها بحقوقها الطبيعية, وهذا ما قالته : (هذه حقوقي، حق التعليم وحق اللعب وحق التنقل والذهاب إلى الأسواق بالإضافة إلى حق التحدث والتعبير عن رأيي ). وهي حقوق يكفلها لها دينها قبل أن تكفلها القوانين والمواثيق والعهود المحلية و الدولية.
الطالبان يمنعون تعليم المرأة إنطلاقاً من فهمهم البائس للدين الذي كانت أول آيات كتابه المقدس التي تنزلت على نبيِّه الكريم تحضهُ على القراءة : " اقرأ باسم ربك الذي خلق" , وهو الدين الذي كانت فيه زوجة الرسول (ص) أفقه الناس (رجالاً, ونساء) في أمور الدين وأمور الحياة الأخرى. قال عطاء بن أبي رباح : كانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأياً في العامة. وقال هشام بن عروة عن أبيه : ما رأيتُ أحداً أعلمُ بفقهٍ ولا بطبٍ ولا بشعرٍ من عائشة.
خلال فترة حكم الطالبان لأفغانستان كانت نسبة الفتيات من بين المليون طالب أفغاني صفر بالمائة, ونسبة المدرِّسات صفر بالمائة أيضاً. أمََّا اليوم, فنسبة الإناث بين الطلاب تصل إلى 38 بالمائة والمعلمات 30 بالمائة من نسبة إجمالي المعلمين في البلاد, وذلك بحسب قول وزير التربية الأفغاني.
الخلل هنا إذاً ليس خللاً "خارجياً" مرتبطاً بظرف طارىء, ولكنهُ خللٌ بنيوي "داخلي" في المنهج والعقلية والتفكير, هو أمرٌ لا علاقة لهُ بالغرب أو أمريكا ولكنهُ مأزق مُرتبط بهذه الرؤية الدينية المتعصبة التي يعتقد أصحابها أنهم يمتلكون الحقيقة المُطلقة التي تعطيهم المبرِّر في المنع والإقصاء والقتل.
هذه الرؤية تتصدَّر المشهد الإسلامي, وتجيِّش الجموع من أجل القتال في معركة قال عنها فهمي هويدي أنها "معركة غلط", معركة ضد التقدَّم والتحديث والحُرية والتنمية. معركة تستجلب أسلحتها من غياهب التاريخ, ومتاحف الفكر, وأوراق الكتب الرَّطبة المتآكلة. معركة إختار فيها أصحاب هذه الرؤية أن يُحاربوا التماثيل والقباب والقبور والأطفال بدلاً عن الجهل والتخلف والمرض والفقر وهنا يكمن المأزق الذي يواجه – ليس فقط أصحاب هذه الرؤية – ولكن العالم الإسلامي بأكمله, وما قضيَّة الطفلة "ملالا" إلاَّ تجلياً مُحزناً واحداً من تجليَّاته المتعددة الأوجه.
في الوقت الذي حلق فيه العالم بأجنحة العلم والتحديث حتى إستطاع "بفضوله" إرتياد كوكب "المريخ", وإكتشاف الخرائط الجينية, واختراع مُحرِّك البحث "جوجل", إختار هذا الفكر المأزوم أن يُراهن على "الماضي" لسد أفق "المستقبل", ماضي الخوف والقتل والترويع. الخوف الذي إنتاب الطالبات من الذهاب إلى المدارس – كما قالت ملالا في يومياتها - وكيف أنَّ بعض الطالبات قرَّرن عدم الالتزام بلبس الزي المدرسي ( خوفاً من الطالبان) وسمح لهنَّ بإرتداء ملابسهنَّ العادية وكيف أنهنَّ كنَّ يضطررن أحياناً لإخفاء كتبهنَّ تحت الشال أو الحجاب بعيداً عن أعين عناصر الطالبان.
كيف تنهض أمَّة تضطر فيها البنات الصغيرات إلى إخفاء الكتب عن أعين "حُرَّاس الفضيلة المشوَّهة" ؟ الأمم الجادة مثل الهند والصين والبرازيل تدفعُ بأبنائها وبناتها على حدٍ سواء إلى أتون المعامل والمُختبرات ومُدرجَّات الدرس بحثاً وتنقيباً في أسرار العلوم والطبيعة والتاريخ.
ترقد الطفلة "ملالا" فاقدة الوعي في سرير أبيض مثل سريرتها في غرفة للعناية المُرَّكزة بإحدى مستشفيات بريطانيا, في ذات الوقت الذي يرقد فيه "عالمها الإسلامي" منذ مئات السنين في حالة من "الغيبوبة" لا يبدو انهُ سيفيقُ منها طالما كان أطباؤه المعالجون هم الطالبان ومن هم على شاكلتهم.
اللهمَّ رب الناس, أذهب البأس, و أشف "ملالا", أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك, شفاءً لا يُغادر سقماً.