“قلب الظلام” لجوزيف كونراد.. عنصريَّة الرَّجل الأبيض في رواية
shurkiano@yahoo.co.uk
يبدأ جوزيف كونراد رحلة مارلو ويختتمها في داخل "قلب الظلام" على نهر "التايمز"، وعلى متن مركب شراعي ذي مجاديف يسمى "نيلي"، وذلك باستهلال موجز، والذي – عن طريق استخدام رقيق للتصاوير، وتوسل بارع للبيئة – يقدِّم لنا مارلو (الشخصيَّة المحوريَّة في الرواية)، ويهيؤنا للقضايا الجوهريَّة في القصة. وفي مغامرة فريدة يبتدئ كونراد الحكاية بشعور قوي مدهش تجاه الهدوء والسكون اللذان يسودان القصة كلها، مع مقاطعات بين الحين والآخر بواسطة القاص نفسه لوصف مارلو، أو ليدوِّن إقحاماً موجزاً بواسطة أحد سامعيه، وذلك مع عودة خاطفة إلى المركب في نهاية الأمر. وعلى نهر "التايمز" كان النهار في طريقه إلى النهاية في سكون هادئ وبراعة نادرة، وارتاح هذا النهر العجوز في سكينة وإطمئنان؛ ومارلو نفسه كان يجلس جيِّداً دون حركة كما يجلس "الإله بودا"، وبدت كل أشرعة البارجات كأنَّها واقفة لم تبرح مكانها. أما الرجال الذين هم على متن القارب جالسون، والذين عليهم أن ينتظروا انقلاب حركة المد والجزر، فقد استكانوا بارتياح على متن القارب، ومن ثمَّ أعدوا المكان لمارلو ليبدأ في سرد حكايته. وقبل أن يبدأ مارلو في سرد قصته، حذَّر القاص سامعيه أنَّهم بصدد سماع واحد من تجارب مارلو غير الحاسمة. وهذه التجربة بالتأكيد واحدة من تجاربه الكثيرة غير الحاسمة، وهو – أي مارلو – الخبير الدَّعي، بمحض الصدفة، في القفر السيكلوجي، ولديه الكثير الذي يود إذاعته فيهم. فهو القاص أيضاً في روايات "اللورد جيم" (1900م)، و"فرصة" (1913م)، و"الشباب" (1902م). وعلى سبيل هذا الاستهلال شرع في سرد الحكاية حينما أسدل الليل أستاره السوداء. وهذه هي المقدِّمة الأولى للظلام.
ولعلَّ كونراد يبدي اهتماماً مستعظماً لتأثيرات الضوء ومؤثراته في هذا العمل الذي نحن على وشك الحديث عنه. ففي المنظر الافتتاحي يصف كونراد السماء قائلاً: "إنَّها لضخامة معتدلة لضوء غير ملوث، والظلام الوحيد هو ذلك الذي يخيم فوق "قريفسيند" ومدينة لندن، وهناك الكآبة الحداديَّة التي تستولد السكون؛ والأرض العادية في لندن تفترض طبيعة متشائمة غير واقعيَّة حين تغرب الشمس، وذلك بعد أن تغيَّرت من بيضاء متوهِّجة إلى حميراء رتيبة عديمة الأشعة وعديمة الحرارة، كأنَّها على وشك الخروج فجاءة، بعد أن ضُرِبت ضرباً مستميتاً بواسطة تلامسها مع الكآبة المستولدة فوق حشد من الناس." ومن غير سابق إنذار يعلن مارلو في هذا الصمت الذي أُعد بحذر: "وهذا أيضاً أحد الأمكنة المظلمة في الأرض (برغم من أنَّه لم يكن هذا المكان يمثل الظلام العميق كما بدا لمارلو لاحقاً مركز الأرض، ولكن النهاية الأقصى للعالم يمثل نهراً لونه كالرصاص، وسماءاً لونه كالدخَّان..").
ويستخدم مارلو هنا نفس اللغة، التي يستخدمها في وصف نهر "التايمز"، في تصوير النهر الآخر العظيم في القصة وهو نهر الكونغو، ويوحِّد بينهما بإقراره بأنَّ كل الأنهار والبحار تجري في بعضها بعضاً. وعلى هذا السبيل يربط مارلو كل البشر ببعضهم بعضاً. وهكذا يهيؤنا عن الكلاسيكيَّة المقلقة التي اكتسبها حين كان يشاهد المواطنين "يصرخون" ويرقصون على شواطئ نهر الكونغو، وأيضاً من التجارب التي تعلَّمها من الزعم في أنَّ العلاقة البعيدة بين البشر قد أثبتتها "اللحظة السامية"، والتي أحسَّ بها حين مات قبطانه الزنجي. وكان هذا الشعور يمثل الافتتاحيَّة التي تذكرنا – والحديث هنا لمارلو – "أنَّ "دولتنا المتحضِّرة"، حيث الطبيعة عبارة عن نمط من أنماط الهُولة المهزومة، والتي كانت في عصر ما يمثل الظلام والهُولة عينها، وكنا ذات مرة بربريين." وفي هذا الاستهلال يحاول مارلو أن يغرس في نفس القارئ نوعاً من الإحساس الجواني للتضامن مع أهالي الكونغو، وفي الآن نفسه مع المستعمرين "المتحضرين"، الذين لا يستطيعون مساعدتهم، بل الارتباط بهم. وهذا الشعور الذي يبديه مارلو مأخوذ من وجهة رأي الغزاة الرومان، الذين أبدوا أسفهم للمواطنين الشباب الخلصاء وهم يرتدون التُّوجة (ثوب روماني فضفاض)، وكان الرجال يتبعون ذلك عمياً.
وفي خضم هذه اللحظة الانعطافيَّة يحس مارلو بهذا النزاع السيكلوجي في التعاطفات عند بداية رحلته إلى إفريقيا، وبخاصة بعد تجارب العزلة وسط البيض في "حي البيض" في بروكسل، وعلى متن سفينة. ومن هناك يشاهد القوارب على الشواطئ، حيث يجدفها السود الصارخون وهم يتصبَّبون عرقاً، والذين لم يكونوا في حاجة إلى عذر في وجودهم هناك، والذين هم كذلك كانوا بمثابة ارتياح عظيم لمارلو بمجرد مشاهدتهم. ومن هنا لا نجد الغرابة في الارتياح أو الاندهاش في مشاهدة صائدين يجدفون قواربهم، أو مواطنين محليين يستخدمون سبل تنقلهم المائي ليعبروا بها النهر من شاطئ إلى آخر، أو يجدفون بمشقة وفي أشد ما تكون المشقة عكس التيار من قرية إلى أخرى، أو يبحرون في اتجاه التيار بسهولة أيَّة سهولة من مدينة إلى أخرى، إلا أولئك الذين ينظرون إلى الإنسان الإفريقي كحيوان مستوحش ينبغي السفر إلى إفريقيا لمشاهدته وتصويره مثلما يفعلون مع الحيوانات الأخرى في الحدائق المحظورة المسوَّرة.
والحال هذه، فإنَّ أول التقاء بين مارلو والسكان المحليين كان في محطة الشركة، وكان انطباعه الابتدائي هو ارتعابه عن تعاستهم وبؤسهم. وقد اُستعظِمت هذه المشاهد القويَّة في تأثيرها بواسطة خلفيَّة عدوانيَّة سيئة، ونشاط سخيف يمارسه المستعمرون – مثل تفجير الجُرُف من غير ذي جدوى (والذي يذكرنا بجنون رجال الحرب الفرنسيين والقصف العبثي للأعداء المحليين الوهميين على طول الساحل الإفريقي) مخلفين وراءهم حفرة واسعة وآلات صدئة، وذلك في أمر لا طائل تحته. ومع ذلك، قيَّدوا ما أسموهم ب"المجرمين" بالسلاسل حول أعناقهم، حتى بدت ضلوعهم ومفاصلهم "كالعُقد في حبل المسد"، واستحالت الظلال السوداء للمرض والجوع إلى كآبة للشجر مخضرة كنار تلظَّى. بيد أنَّ الموت يقف في وضع مضاد "للاستزعام"، أو الأسود المنبت المنفصل عن أصله، وهو القروي المسؤول عن "المجرمين"، وهو نتاج القوى الجديدة العاملة، والذي – بوجهه السافل – يعتوره النسيان لمآسي الآخرين الذين تحت سطوته وجبروته، ونجده فخوراً كان بثقته المستعظمة المفرطة. ونمط آخر مساوٍ لذلك القروي "المستزعم" هو صبي مدير المحطة، الذي أكل وشبع ثم شبع، والذي سمح له المدير أن يعامل البيض – جهاراً من غير مواربة – بوقاحة سمجة مستجلبة، وهو الذي أذاع فينا بلهجة ازدراء جارحة بأنَّ "مسته (مستر) كورتز قد قضى نحبه." وعلى هذا النحو، ووسط خضم الأحداث والمشكلات والتعقيدات، نجد أنَّ السود عكس البيض: فهناك المحاسب الشاذ كل الشذوذ بلياقته المبيضة بالنشا، وأكمام قميصه البيضاء، وشعره المعتنى به؛ وهناك كذلك طلائع التقدُّم الآخرين الذين يفتقرون السلاسل الفقاريَّة. وهؤلاء البيض يمرضون باستمرار، ونسبة لجشعهم للعاج وحبهم للترقية، لتجدنَّهم ينخرطون في مؤامرات مستديمة ضد بعضهم بعضاً، ثمَّ إنَّهم لمسؤولون عن تفجير الجُرُف من غير ذي جدوى، وذلك في محاكاة للعمل تهكميَّة. إنَّهم لمملوكون – كما يبدو لمارلو وهو يقف على جانب الجبل المطل على "الدمار المستوطن" – بواسطة شيطان ذي عين مترهلة، مدَّعية، ضعيفة، والتي هي ميزة الحماقة الجشعة عديمة الشفقة.
ففي هذه الرواية يستغل كونراد مشاهد السود والبيض، والضوء والظلام بعدة طرق. فالظلام هو الليل، المجهول، الكتيم، البدائي، والشر. ومع ذلك، حين وصل إلى إفريقيا قلبت ألوان البشرة العلاقات المقبولة في التضاد. فالرجل الأبيض – فوق كل شيء – يسعى سعياً حثيثاً وراء العاج، وإشباع رغباته في حياة الرفاهيَّة الخلابة، لأنَّه يزعم تمثيل "الرجل الحضاري"، والذي يعتبر جذور كل الشرور في الظلام، والتي تقلق مضاجع البيض، حتى أخذ هؤلاء – مثل كورتز – يمثلوها، ونحن هنا نسترعى الذاكرة إلى "حي البيض" بمدينة بروكسل، كما بدا جليَّاً لماذا طفق مارلو عنصريَّاً ضد المدينة، ولا يستطيع التناسي، بل التفكير فيها على هذا النحو وبهذا الأسلوب.
يبدأ مارلو روايته عن كيفيَّة وصوله إلى إفريقيا، والتي هي نفس الكيفيَّة التي بها ذهب كونراد بنفسه إلى الكونغو العام 1890م، والأحداث هنا تماثل تماماً واقعيَّة كونراد. ومثل مارلو كان كونراد قد عاد إلى لندن بعد ست سنوات من الإبحار في الشرق الأقصى: أولاً كرفيق أول في سفينة، ثمَّ كقبطان. وبعد فترة من التسكُّع وضياع الوقت في التبطُّل، طفق يبحث عن عمل في سفينة أخرى، وكان هذا يُعد عملاً شاقاً كل المشقة في الأرض. ثمَّ إنَّ هذا ليلخص شعور كونراد الشخصي في التجربة المريرة (الصعوبة في إيجاد الوظائف التي تخصَّص فيها). وإنَّ هذا الإحباط لهو الذي يصيب المرء دوماً حين يعجز عن العثور على عمل حسب التخصص الذي فيه تدرَّب. ثمَّ إنَّ هذين القنوط واليأس هما اللذان دفعا كونراد أن يهجر مهنته في الإبحار في ذلك الرَّدح من الزمان، ويروح متخبطاً، على غير هدى، في أحياء المدينة وقد غشاه السأم والملل. هكذا لم تعرف حياة كونراد هذه أي استقرار مهني أونفسي، أو في أي مكان، فهو كان قد عاشها دائم التنقل، وغالباً هرباً من وضع ما، أو بحثاً عن شيء ما. ومع هذا، أخذت حلقات حياته تتألَّف كلها من فصول الموت والمرض والإفلاس والصراعات النفسيَّة والترحال ومحاولة الانتحار. وفي خلال فترة تسكُّعه هذه – مهما يكن من شيء – شرع كونراد يكتب روايته الأولى "حماقة الماير" (1895م)، ومن ثمَّ – وهو في الحادي والثلاثين من عمره – بدأ ما أسماه فريدريك كارل "حياته الثالثة"، أي حياة الكاتب كونراد.(1) فما هي قصة حياته الأولى والثانية؟ هذه حكاية أخرى، ولسوف نبينها بعد حين.
مهما يكن من أمر، فلجوزيف كونراد حياتين: إذ بدأت هاتان الحياتين لجوزيف كورزينيوفسكي كبولندي وبحَّار، حيث غيَّر اسمه إلى جوزيف كونراد، لأنَّه لم يكن يطيق النطق الخطأ بواسطة الإنكليز. فقد ولد جوزيف كونراد العام 1857م في بيرديكزوف في أوكرانيا حالياً. وقد أدرك وهو يافعاً الروح العميقة للقوميَّة المكبوتة في بولندا، التي كانت تسيطر عليها روسيا، وإلى حدٍ ما، الإمبراطوريَّة النمسويَّة وبروسيا لأكثر من 60 عاماً، حتى لم يبق لها وجود كأمة في حقيقة الأمر، إلا في قلوب وأدمغة الناس. فقد تحدَّر كونراد من أسرة أرستقراطيَّة، وكان والده – أبولو كورزينيوفسكي – متمرِّداً "متجيِّشاً" ضد الحكم الروسي، وكان مثاليَّاً رومانسيَّاً كذلك، ومترجماً ثم إنَّه كان كاتباً مسرحيَّاً وشاعراً. وبعد ميلاد جوزيف قصَّد والده قصيدة "مهداة إلى ابنه الذي وُلد في العام الخامس والثمانين للاضطهاد الموسكوي". وفي العام 1861م انتقل أبولو وأسرته إلى وارسو – حاضرة بولندا – وفي ذلك الحين من الزمان قفزت حركة المقاومة الوطنيَّة إلى قمتها في المصير المستميت للعصيان المسلح العام 1863م. وقبل ذلك الرَّدح من الزمان، مهما يكن من شيء، أُعتقل أبولو بسبب نشاطاته التآمريَّة، ومع زوجه المريضة إيفيلينا بوبروفسكي وابنهما البالغ من العمر وقتذاك أربع سنوات، تمَّ نفيهم إلى فولوقدا في شمال شرقي روسيا. وهناك ماتت زوجه، وعانى هو نفسه من اكتئاب مستديم، مما تسبَّب في وفاته باكراً، وترك الطفل جوزيف البالغ من العمر حينذاك إحدى عشرة عاماً ليترعرع في كنف، أو تحت رعاية، عمه المحافظ الثري، تاديوس بوبروفسكي. وحين بلغ من العمر 16 عاماً ذهب إلى فرنسا ليبدأ حياته كربان سفينة، لكنه تعرَّض لإحباطات مستمرة، ووقع في ديون باهظة، حتى تراكمت كل هذه الأشياء ودفعته إلى أن يطلق النار على نفسه في مدينة مارسيه بعد أربع سنوات: أما الرصاصة – ويا للعجب – فقد اخترقت صدره لتخرج من ظهره مخطأة قلبه، ومن غير أن تحدث أيَّة خسائر خطيرة. وبعد شفائه، قرَّر كونراد أن يبدأ بداية جديدة بانتقاله إلى إنكلترا ليجرِّب حظه في السفن البريطانيَّة، وأخيراً – وبعد جهد جهيد – أصبح أول بولندي يمسي قبطاناً في الخدمة التجاريَّة البريطانيَّة. ثم كان ذلك في السفن البريطانيَّة، حيث تعلَّم كونراد اللغة الإنكليزيَّة وأتقنها، حتى أمسى فيها سيِّداً لا يُشق له غبار، وبات يكتب بها بأسلوبه التطريزي المزركش وتعابيره الرائقة الرقراقة.
وهو ما يزال طفلاً يافعاً كان كونراد يشارك والده في مزاجه الرومانسي، وكان يحلم بالرحلات والمغامرات. وفي كتابه "السيرة الذاتيَّة"، الذي أخرجه للناس بعد عدة سنوات لاحقة، استذكر الإعجاب الذي كان يحمله وهو ما يزال طفلاً غريراً أرعناً عن "قلب إفريقيا الأبيض". وبهذه العنصريَّة المقلوبة رأساً على عقب، تحدَّث كونراد عن تنبؤ طفولي غريب. وكان ذلك العام 1868م حين كان يربو على تسع سنوات من العمر، وكان ينظر إلى خارطة إفريقيا، ويضع أصبعه على مكان فارغ – أي منطقة شلالات ستانلي، وكان يمثل لغز هذه القارة – ومن ثمَّ قال لنفسه في نفسه، وبتأكيد مطلق وتهور مدهش: "عندما أكبر لسوف أذهب إلى هناك." وإذ قرَّر منذ موئل طفولته أن يصبح بحاراً ومغامراً، ومن ثمَّ تحقَّق له ما أراد، وأضاف إلى ذلك أن أصبح أيضاً كاتباً كما سنرى لاحقاً. هكذا أعطى كونراد هذا الحلم الطفولي عن الكونغو إلى مارلو، وشرع يبحث عن قيادة سفينة جديدة، وكذلك سمع عن شركة تجاريَّة تتاجر على نهر الكونغو، وقرَّر أن يسافر إلى هناك. هذه هي نفس الفكرة التي أمست تختلج في مخيَّلة كونراد. فبعد عودته من الشرق إلى لندن كان هنري مورتون ستانلي مشغولاً مشغوفاً كل الشغل وكل الشغف بعمليَّة إغاثة أمين باشا – حاكم مديريَّة الإستوائيَّة في عهد الحكم التركي-المصري في السُّودان (1821-1885م)، والذي بات معزولاً في أحراش الجنوب السُّوداني عقب انفجار الثورة المهديَّة (1881-1898م)، وأخذ يجد إعلاماً مستعظماً، وصيتاً ذائعاً في بريطانيا. فقد عثر ستانلي – الكاتب والرحالة – على المبشر المسيحي المفقود الدكتور ديفيد ليفينغستون في أدغال إفريقيا العام 1871م. ففي السبعينيَّات من القرن التاسع عشر الميلادي توغَّل ستانلي في غابات إفريقيا، وتتبع لأول مرة مجرى نهر الكونغو، حتى وصل إلى قلب هذه القارة السوداء. وكان استظهاره الإمكانيات التجاريَّة في المنطقة قد أدَّى إلى تأسيس مشروع تجاري ضخم، وقاد في نهاية الأمر إلى تكوين "دولة الكونغو الحرَّة" – وفي ذكر عبارة الحرة تنزف قلوبنا دماً. وحين نطق أولئك وهؤلاء بعبارة "الكونغو الحرَّة" كان عليهم أن يتحدَّثوا عنها باستحياء، لأنَّهم مسوا الناس والمنطقة بغير رفق ولا رأفة، وتركوا ماضياً تعيساً لم يعد من الممكن تغييره. فقد كانت المنطقة كلها تحت إجراءات وتمويل المستثمر الملك ليوبولد الثاني – ملك بلجيكا. وفي بادئ الأمر لم يبد الرأسماليُّون البريطانيُّون رغبتهم في الاستثمار في هذه المنطقة، مما نتج عن ذلك أسفهم وندمهم في نهاية الأمر. وكان الملك البلجيكي قد خوَّل لنفسه سلطات وصلاحيات السيادة على هذه الدولة الجديدة، والتي بقيت – مهما يكن من شيء – مستقلة عن حكومة بلجيكا. فقد قاد ستانلي الرحلة الأولى للبلجيكيين إلى هذا الإقليم لتأسيس محطات تجاريَّة ومراكز إداريَّة، و"لإثبات أنَّ مواطني الكونغو يمكن أن "يتأثَّروا بالحضارة"، وأنَّ حوض الكونغو غني في أكثر ما يكون الغني بحيث يمكن تسديد – من موارده – قيمة الاستغلال"، كما كتب ذلك في سيرته عن تجاربه "عبر القارة السوداء" العام 1878م، وهو الكتاب الذي فيه أيضاً أماط اللثام عن الاسترقاق في هذه القارة، وكيف استحال النخاسون المواطنين إلى شظايا مجتمع وفتات بشر. ولكن هل تبلسم الكتابة جراح الماضي؟ كلا! ومن يقرأ التأريخ سيدرك أننا لم نطلق هذا النقد اللاذع والسخرية الزاعقة الحارقة سدى. وكذلك كتب ستانلي عن نضاله في البحث الحثيث عن أمين باشا في تأليفه "في إفريقيا الأكثر سواداً"، الذي نُشر العام 1890م، وهو العام الذي فيه ذهب كونراد إلى الكونغو. ما إذا كان كونراد قد اطلع على هذين الكتابين أم لا، إلا أنَّه لا ريب في أنَّ رغبته في إفريقيا قد استعرت بواسطة تجارب ستانلي الدراميَّة، واكتشافاته الشهيرة.(2)
أيَّاً كان الأمر، فحينما وصل كونراد إلى الكونغو كان الأخير قد أصبح من الممتلكات الخاصة للملك البلجيكي ليوبولد؛ أما "العمل الصالح المنجز باسم المسيحيَّة والتقدُّم" فقد تمَّ نسيانه أو تناسيه وسط تزاحم المكتنزين الأوربيين. وقد أفرز هذا التصارع المذموم، وذاك التسابق المحموم حول الثروة والمال في الكونغو ما يمكن نعته بالجشع والقساوة الأكثر قبحاً، ونشاطات النفاق والرئاء في الاستغلال الاستعماري في القرن التاسع عشر من الميلاد، والذي نعته كونراد في مقال له بعنوان "الجغرافيا وبعض الرحالة" ب"التسابق الأقذر للنهب الذي شوَّه تأريخ الضمير الإنساني، والاكتشاف الجغرافي إلى الأبد." ولعلَّ رواية "قلب الظلام" ليست مجرَّد رواية عاديَّة، بل سيرة ذاتيَّة تجري وقائها في منطقة فضاؤها القسوة العابثة والعدم، والرجاء الذي هو كسراب بقيعة، حيث قضى الكاتب ردحاً من الزمان هناك. إذ ينطوي هذا الكتاب على ضنى في تجربة الكتابة المتمثلة في انعكاس لذلك الضى الذي تميَّزت به تجربة الحياة في معسكرات إذلال المواطنين الكونغوليين بكل أهوالها التي تخرج عن نطاق الوصف، وبخاصة إنَّ الوصف في هذه الحال ليبدو مؤلماً. ومن هنا أيضاً يرسم الكاتب صوراً متنوعة ذات ملامح سياسيَّة وقوميَّة واجتماعيَّة، كانت بمنزلة القضايا الشائكة في هذا الوطن المترامي الأطراف، والتي دفعت المواطن إلى السقوط في بئر عميقة من الإحباط واليأس، حيث يموت البشر كما كانوا يموتون في العصور الوسطى، وسط الرُّعب وقرقرة البؤس.
هذا، فقد كانت رحلة كونراد إلى الكونغو قصيرة وماسويَّة في الآن نفسه. إذ تدهورت صحته أيما التدهور، وشعر في أعظم ما يكون الشعور بالوهم والفشل. فقد دخل هناك في أزمة شخصيَّة شديدة، واصطدم بالاضمحلال الأخلاقي والعاطفي؛ وقد أثبت ذلك في خبرته الجديدة ككاتب. ومن خلال خالته الروائيَّة، وجد كونراد وظيفة كقبطان في باخرة تابعة "للشركة البلجيكيَّة المجهولة للتجارة في الكونغو الحرَّة"، والتي كانت ستأخذ الرحلة الاكتشافيَّة بقيادة ألكسندر ديلكميون – وهو كان أخاً لمدير الشركة في كنشاسا (محطة كونراد الرئيسة) – إلى إقليم كاتنغا. وفي بادئ الأمر ابتهج كونراد المغامر بهذا المشروع، لأنَّه كما بدا له أنَّه لسوف يكون قد ساهم في الاكتشاف الذي شرع فيه ستانلي في باطن إفريقيا. مهما يكن من الأمر، فحين وصل كونراد إلى كنشاسا نشأت هناك عداوة مباشرة بينه وبين مدير الشركة، كميل ديلكميون. فقد أخذ كونراد ينعته باحتقار في القصة ويلومه على الأيام المؤجلة، وعلى إخفاق فريق الإنقاذ في الوصول إلى كورتز في الوقت المناسب لانتشاله من براثن الموت. وفي الحق، يبدو أن ديلكميون قد اشتاط غضباً من تأخير كونراد في الوصول إلى العاصمة كنشاسا من مدينة ماتادي، حيث أنَّ الطريق الطويلة تأخذ دوماً أقل من عشرين يوماً، بينما استغرق كونراد 35 يوماً، وكذلك استاء وغضب كونراد الاستياء كله والغضب كله من استقبال ديلكميون البارد له. وبرغم من أنَّ الباخرة، التي كان يقودها قد أصابها عطب، إلا أنَّ كونراد لم يبق في المكان لمدة ثلاثة أشهر مثلما فعل مارلو، ولكن – في الواقع – بعد يوم أو يومين انطلق إلى أعلى النهر مع كميل ديلكميون على متن باخرة مختلفة تحمل اسم "ملك بلجيكا"، وكان كونراد، الذي كان زائداً عن العدد المقرَّر أو المطلوب، موجوداً على متنها ليراقب ويتعلَّم الملاحة في النهر من ربان ذي خبرة.
وكان هذا السفر ما هو إلا رحلة روتينيَّة بالنسبة إلى ديلكميون، حيث انتهت في زمن قياسي، وليس كما قطعها مارلو في الرواية. وكان اصطحاب الوكيل "كلين"، والذي كان سقيماً بالدسنتاريا في شلالات ستانلي، وقضى نحبه في مجرى أسفل النهر، ما هو إلا حدثاً عارضاً. فلم يكن يحمل "كلين" شبهاً ل"كورتز" أبداً كما كان يُزعم. واُبتنيت شخصيَّة كورتز، في حقيقة الأمر، على رجل يدعى هوديستر، وهو كان وكيلاً ناجحاً لشركة ورحالة، ثمَّ إنَّه كان عضواً في "نقابة مجرمي الفضيلة"، الذين كانوا يستهجنون كل الاستهجان الرق والعادات البربريَّة، علاوة على أنَّه كان منافساً ل"ديلكميون". وبالطبع والطبيعة، فقد سمع كونراد عنه من حديث القيل والقال في المحطات. وكان مقتله العام 1892م، خلال تمرُّد العرب والسكان الأصليين حينما كان في رحلة لتأسيس المصانع، وقد نُشر نبأ وفاته وأُذيع عنه في الناس بكثرة في الصحف الإنكليزيَّة، وفي ذلك الحين كان كونراد يتواجد في لندن. إذ لم يملك، مهما يكن من شيء، روحاً غير شرعيَّة خادعة تفوق الحدود التي تسمح بها الآمال والرغائب مثل كورتز، ثمَّ إنَّه لم يكن من نمط البشر المؤلَّه وسط "المستوحشين" الذي مثَّله كورتز، هكذا كتب أحد النقَّاد الأدباء.
وحين مرض كونراد بالحمى والدسنتاريا ولازم سرير المرض في أغلب الأوقات، أُحيط علماً بواسطة كميل ديلكميون بأنَّه سوف لا يكون على رأس الباخرة التي تقل الفرقة الاستكشافيَّة إلى إقليم كاتنغا، ثمَّ إنَّه لسوف لا يكون قبطاناً في باخرة نهريَّة عاديَّة، وذلك كما كتب كونراد إلى خالته: "ليس لي أمل في الترقية، ولا في زيادة الأجر في الحين الذي فيه يبقى ديلكميون هنا، بالإضافة إلى ذلك، إنَّه لقد قال سوف لا يلتزم هنا أبداً بالعهود المبرمة في أوربا." وبعد ذلك الحين مباشرة أمسى كونراد سقيماً في أشد ما يكون السقم، وغادر الكونغو عائداً إلى بروكسل – حاضرة بلجيكا – بشعور مرير من الإخفاق شديد. ومن ثمَّ انتهت رحلته المأسويَّة إلى الكونغو بتفاصيل شخصيَّة، ولا شيء غير الرنين الكئيب، وظاهريَّاً من غير مواجهة أو مقابلة شخصيَّة رديئة الرداءة العظيمة مثل كورتز.
وفي خلال قصة الكونغو، تعرَّض كونراد – بحال ما – إلى تجربة استنارة شبيهة بتلك التي تعرّض لها مارلو، ودخل في عمليَّة النمو عبر خيبة الأمل والهزيمة، وهو نمط الهزيمة الذي ساقه إلى حافة البقاء أي بقائه الشخصي وليس بقاء الحضارة، والذي أنتج فيه فهم عريض وعميق بالبشر، وبخاصة نواحيهم السويداء.
برغم من أنَّ تجارب كونراد الشخصيَّة تمثل المادة الخام للقصة، إلا أنَّ كونراد – في محاولته للتعبير عن تطوره من المثاليَّة إلى خيبة الأمل والفهم الأعمق عن طريق السرد الخيالي – قد شوَّه التجربة الفعليَّة بطرق عديدة. أولاً، إنَّه جعل مارلو مستريباً من الوهلة الأولى، كما نراه في تردده وريبته في المشروع في بروكسل، وكذلك ارتأى كونراد في فرصة الذهاب إلى الكونغو حقائق مثاليَّة لتحقيق حلم الطفولة الذي ذكرناه لكم آنفاً. فقد ذهب وهو ممتلئ بشوق مثالي ورمانسي. ثانياً، حاز مارلو على دور أكثر أهمية وعملاً في القصة من كونراد، الذي لم يكن أكثر من مراقب ومستمع للقيل والقال، والذي ربما وجد فكرة شخصيَّة كورتز من صحيفة. وبتنصيب مارلو قبطاناً للباخرة صيَّره كونراد مسؤولاً مباشراً لعمليَّة إنقاذ كورتز، وكذلك حياة كل الأشخاص الذين على متن الباخرة، وهكذا يعطي سرد الشخص الأول للقصة بواسطة مارلو قوة عظيمة آنيَّة. ثالثاً، إنَّه قد بالغ في تصاوير وتواصيف عزلة وبدائيَّة أهل الكونغو. وبإرجاعهم إلى عصر ما قبل التأريخ، حتى اختفت مستوطنات كبيرة لتحل محلها قرى السكان الأصليين ومراكز تجاريَّة صغيرة ضائعة، والملاحة عبارة عن أمر اكتشاف القناة الصحيحة، واستشعار سبيل الفرد عبر المجرى المائي المجهول، حيث كان كونراد يدرك أنَّه نهر مزدحم أيما الازدحام. رابعاً، لقد أعطى كونراد رحلته إلى "قلب الظلام" (مثل ستانلي في رحلته البحريَّة الإنقاذيَّة) نمطيَّة أسطوريَّة، وجعلها موضوعاً للقياس للتنمية الروحيَّة-العاطفيَّة لمارلو.
وقد رأى كثرٌ من النقَّاد أنَّها رحلة إلى النشاطات العقليَّة تحت عتبة الوعي مباشرة عند مارلو، أو الدُّووَعي العام، أو – كما ارتأى ألبيرت جيه قيرارد – رحلة سيكلوجيَّة أنثروبولوجيَّة "ليليَّة". وبهذه العبارة كان يعني قيرارد: "أسطورة متعلِّقة بالطراز البدائي، وممسرحة في أدب عظيم العظمة كلها منذ كتاب (قصة سيدنا) يونس (عليه الصلاة والسلام): وهي قصة رحلة العزلة الرئيسة، التي تنطوي على تغيُّر روحي عميق عند المسافر (في هذه الرحلة البحريَّة). وفي شكلها الكلاسيكي، فإنَّ الرحلة لعبارة عن الهبوط إلى الأرض، وتتبعها العودة إلى الضوء."
وعندما نعير الانتباه للواقع السطحي لقصة مارلو، أو تفاصيلها البرانيَّة ينبثق المعنى الجواني. ومن هذا المنطلق استطاع كونراد أن يخلط الأخلاق بالمغامرة في رواياته، وبأسلوب فريد. ففي توطئة لروايته "زنجي نارسيسوس" (1897م) وصف كونراد أسلوبه، وسرد أخلاقه الشخصيَّة فيما يختص بفن الرواية. ويبدو هذا الأسلوب واضحاً الوضوح كله في تصاوير الرحلة أعلى النهر، مع تركيز دقيق على تفاصيل العواطف والأفعال. وهذا – بالمقابل – يسلَّط نوعاً من الأضواء على ما يحدث في الآن نفسه في جوانيَّة مارلو، وهو نفسه مضطر كل الاضطرار أن يبدي انتباهاً مستمراً إلى الواقع السطحي في نضاله للحفاظ على السفينة على سطح الماء وإبحارها أعلى النهر. وهذا سينقذه من إغراءات البريَّة، التي هو – مثل كورتز – عرضة لها. إنَّ الواقع السطحى لهو الذي أبقى مارلو بعيداً عن اختيار البريَّة مع كورتز، وليست قوة صوته الداخلي، ولا قيده الداخلي، وهو موضوع رئيس في القصة. إذ لم يكن لكورتز وسائل ضبط النفس، ولا عمل سريع مثل كورتز، ولا عقيدة روحيَّة. وكان تطرفه واعتقاده مضادان للإيمان الصَّادق، والذي كان يعتقد مارلو أنَّه مرغوب في سبيل تبديد الظلام. ومن خلال قيام الروح الأخلاقيَّة والاندفاع الجشع نحو المال والسلطة، لم يستطع مارلو التعاطي مع القوى البربريَّة والحقود في جوانيَّته، والتي تخرجها البريَّة إلى الناس. وكان دفاعه الوحيد هو الفصاحة، التي لم تكن كافية، كما شهدت الرؤوس على الأعمدة خارج منزله. إذ أنَّ الفصاحة توضِّح أنَّ كورتز يحتاج إلى وسائل ضبط النفس في سعيه الحثيث وراء شهواته المتباينة، وكذلك لأنَّ هناك شيئاً مرغوباً في جوانيَّته – شيئاً صغيراً، والذي حين تتبيَّن الحوجة الملحة له، سوف لا تجد له وجوداً تحت بلاغته البارعة، برغم من أنَّ الكلمات ليست أدوات لنقل المعاني فحسب، بل هي أسلحة دفاعية أيضاً.
وعلى هذا النحو، يفتقد أحد الربابنة المنبتين المحليين معايير ضبط النفس، وبذلك يلقي حتفه. وفي الحق، لم يكن لأي شخص في القصة سبل ضبط النفس، إلا الرجال الأكثر بربريَّة، أي آكلي لحم البشر الذين هم يتضورون جوعاً على متن الباخرة، والذين أدهشوا مارلو بحقيقة أنَّهم يستطيعون أن يضبطوا أنفسهم من التهام "الحجاج" بينهم بنهم. فضبط النفس – أي ضبط النفس – ليس هو بالدُووَعي، أو الاشمئزاز، أو الصبر، أو الخوف، أو نوع من الشرف البدائي. فليس هناك خوف يمكن أن يقف في وجه الجوع، ثمَّ ليس هناك صبر يمكن أن يهلك الجوع. أما الاشمئزاز فإنَّه غير موجود متى ما وُجِد الجوع، أما قوى ما وراء الطبيعة، والشعوذة، والمعتقدات، وكل ما يمكن أن تسميه المبادئ كلها أقلَّ من القشرة في الهواء الخفيف. إذ يكلف المرء كل قوته الفطرية لكي يقاوم الجوع كليَّاً.
على أيَّة حال، فقد خلفت الرواية جدالاً واسعاً وسط النقَّاد عن طبيعة "الظلام" بالتحديد. فعدم وضوح الرؤية الذي يصاحب الكلمة قد تُرك هكذا عمداً من ناحية، وهو الفشل من ناحية أخرى. فالظلام يعنى أشياءاً كثيرة: إنَّه ليعني المجهول، والدُّووَعي، وإنَّه ليعني الظلام الأخلاقي، والشر الذي ابتلع كورتز، ثمَّ إنَّه ليعني الفراغ الروحي كما يراه في مركز البقاء، ولكن – وفوق ذلك كله – فإنَّه اللغز ذاته، أي لغز حياة الإنسان الروحيَّة. ولإبداء أو استظهار كل هذا فإنَّ كميَّة محدَّدة من عدم الوضوح لهي مطلوبة. وهذا اللغز – كما يتخيَّله كونراد – يمسي كبيراً جداً لحدود القصة ومارلو، وذلك في محاولاته في تصوير الذي لا يمكن تصوُّره، حيث يفقد السيطرة على كلماته ويجنح إلى عدم المعنى الواقعي حين يحاول أن يوضِّح جوهر تجربته عن طريق الاقتراح، وكانت النتيجة شعاعاً باهتاً غير مفهوم، بل ضباباً من الصفات المبهمة التي تصبح كثيفة كلما اقتربنا إلى القلب وإلى كورتز معاً.
وفي كتابه "التقليد العظيم" انتقد ف ر ليفيز الروائي كونراد لعدم وضوحه واستخدامه الطاغي للصفات بصورة غير دقيقة – فعلى سبيل المثال: استفاضته في استعمال مفردات مثل "غامض؛ مبهم؛ مُلْغَز"، و"لا يُتخَيَّل؛ لا يُتصوَّر؛ لا يُصدَّق"، و"لا يُوصف؛ لا يصح ذكره؛ رديء جداً"، وتساءل ليفيز: "هل أضافت هذه العبارات شيئاً إلى الطبيعة الاضطهاديَّة في الكونغو؟" فربما اضطرَّته الحال إلى استخدام هذه المفردات لأنَّه حاول جاهداً أن يغوص في أعماق الأشياء، حتى المجرَّدة منها بما فيها "قلب الظلام"، وحينما رأى أنَّ الأسماء غير كافية أو غير كفيلة بتبليغ الرسالة إيَّاها، أو المعاني التي يود توصيلها عمد إلى الاستعاضة والاستعانة بهذه الصفات القويَّة في معانيها ومضامينها. فمن الملاحظ أنَّه من الناحية الأسلوبيَّة والطريقة الفنيَّة للسرد نجد أنَّ هذه الرواية – وعلى عكس ما هو مألوف في الروايات عادة – أنَّ التواصيف جاءت مستكثرة على حساب السرد، حتى بات الزمن السرمدي قصيراً جداً، وكان يكفي بضع صفحات للوصول إلى ما يريد النص الوصول إليه، لولا تلك الوقفات الوصفيَّة الغزيرة في الرواية، التي أبطأت وتيرة السير السردي غير مرة، مما جعل الرواية أقرب إلى لوحة من الألوان والزخارف ذات اللمسات النعتيَّة العميقة التي يمكن فصلها عن سيرورة الأحداث، لأنَّها طغت وكادت أن تجعل السرد كلمات متقاطعة.
ومع ذلك، تبقى شخصيَّة كورتز لغزيَّة في أقرب الأحوال مثل الظلام نفسه، الذي يعيش فيه. برغم من الاستخدام المركب للقُصَّاص، إلا أنَّه يعطي الحال الموضوعيَّة للقصة، ثمَّ إنَّه ليضيف جواً من عدم الوضوح والقنوط في الوصول إلى قلب الشيء، ويترك القارئ على بعد معتبر من القصة. وهذا بالضبط والربط هي الحال مع نمو شخصيَّة كورتز. فالقاص في القصة – أي كونراد نفسه – يُحططنا علماً عما قال له المنفصل مارلو عما قال له المهرِّج الروسي وبعض الناس عن كورتز. لذلك كانت الآمال المبالغة التي يحملها مارلو عن كورتز مبنيَّة في الأساس على إشاعات المحطة، ولذلك بقي كورتز بالنسبة لمارلو، ولنا كلنا أجمعين أكتعين، مجرد "إشاعة"، أو "كلمة"، أو بصورة أكثر قوة في نهاية الأمر "صوتاً". إنَّه لم يكن شخصيَّة حقيقيَّة. وإنَّ كرتز – بالنسبة لمارلو – لهو الموضوع الرئيس لهذه الرحلة النهريَّة، لأنَّه يعتقد أنَّ كورتز هو الرجل الذي يمكن أن يشرح له درس الظلام.
وفي هذه الأثناء التي فيها شرع مارلو يتحدَّث إلى كورتز، كان كورتز نفسه قد بات سقيماً في أشد ما يكون السقم، وأمسى مضطرباً الاضطراب كله بحيث أصبح لا يستطيع إيضاح أي شيء، ولا يقدر على أن يبين من أمره شيئاً، برغم من أنَّ مارلو كان قد أدرك أثناء رحلته أعلى النهر أنَّه بات من الأمر الميؤوس أن يتحدَّث ويستمع إلى كورتز على أيَّة حال. وذلك لأنَّ حتميَّة هذا الأمر تقع عميقاً تحت السطح، وبعيدة عن متناول فهمه واستيعابه، وخارجة عن دائرة قوته الفضوليَّة. ومن هنا يدرك مارلو أنَّه لا يستطيع فهم أسرار الظلام وفك طلاسمه، وإنَّ ثمن فهمه، أو التشبث في حل ألغازه، لهو من جنون الروح الذي يسيطر على كورتز. ومن هنا أيضاً يقرِّر مارلو على أنَّه من الأفضل أن لا يغوص في أعماق الواقع السطحي إن أراد أن يبقى حيَّاً، ويبقي جسمه سليماً من الأذى.
هكذا لم يكد مارلو أن يتجرَّأ في الغوص تحت السطح أبداً، وإنَّه قد حُرِمت عنه المعرفة الذاتيَّة عن كورتز، الذي أفلت من المآزق والموت، وأفلح في أن يجرجر إلى الوراء قدمه المتردِّدة. أما كورتز فإنَّ معرفته الذاتيَّة وصرخة النصر "الرعب! الرعب!" هما نصر متناقض: إنَّه لتأكيد النصر الأخلاقي الذي يتحقق بعد عدة هزائم، وبواسطة أنماط إرهابيَّة قميئة، واكتفاءات سيئة. ولكن في هذا النصر يتجسَّد فشل الإنسانيَّة، لأنَّه ليست هناك فصاحة يمكن أن تذبل في اعتقاد أحد من البشر في واقع الأمر، وهذا هو الواقع اليومي للناس في بروكسل، على سبيل المثال – والذي يبدو كأنَّه ازدهاءات مفرطة من الحماقة لا تُطاق أو تُحتمل في وجه الخطر الذي لا يستطيع الشخص إدراكه، والذي هو – في حقيقة الأمر – غير واقعي. وبالنسبة للبشر فإنَّ الظلام لهو الفوضى الجوانيَّة المكبوتة في الأعماق، والتي يستحيل – كما يختتم مارلو – تفسيره، ومن الأفضل أن لا نتخيَّله.
غير أنَّ الكتابة الروائيَّة لم تكن همَّ كونراد وشاغله الوحيد، فهو إضافة إليها كان كونراد أديباً مبدعاً في كتابة القصة القصيرة، وكاتباً بارعاً في فن تأليف الحكاية القصيرة أيضاً أكثر من أن يكون روائيَّاً. فإنَّه – فوق كل شيء – لم يستطع أن يتعاطى مع توتر الرواية بأكملها، وذلك باستثناء رواية "نوسترومو" (1904م). أما رواية "قلب الظلام" (1899م) – مهما يكن من شأن – فبرغم من أنَّها رواية صغيرة في حجمها، حيث يبلغ تعداد كلماتها 38000 كلمة، لا يبدو فيها تخفيف التوتر. فالمؤامرة مرتبطة مع بعضها بعضاً بدهشة أيَّة دهشة، والحركة مِزاج مشدود بين التأجيل من ناحية، والتردُّد من ناحية أخرى، وتجنَّبت الرواية ما يمكن أن نسميه إخفاق كونراد العظيم، أي عدم مقدرته في اختلاق شخصيات نسائيَّة مقنعة، وذلك بالاحتفاظ بالمرأتين الوحيدتين في القصة في الصفوف الخلفيَّة.
وفي رواية "قلب الظلام" استخدم كونراد وصديقه الحميم مادوكس فورد، الذي تعاون معه في أعمال أخرى في الحين الذي فيه كُتِبت رواية "قلب الظلام"، "نظريَّة الخيال" (Theory of fiction). إذ يصف فورد، صاحب كتاب "جوزيف كونراد: ذكرى شخصيَّة"، هذه النظريَّة بأنَّها في حال كتابة الرواية فقد اتفقا على أنَّ أيَّة كلمة تُكتب على الورقة – أيَّة كلمة تُكتب على الورقة – ينبغي أن تحمل القصة إلى الأمام، وكلما تقدَّمت القصة، يجب أن تُحمل القصة إلى الأمام بسرعة أكثر فأكثر، وبكثافة أكثر فأكثر. وتسمَّى هذه النظريَّة بالفرنسيَّة (Progression d΄effet)، حيث لا تُوجد لهاتين المفردتين ما يضاهيهما في اللغة الإنكليزيَّة. وهذا بالتأكيد صحيح في حال "قلب الظلام"، والتي – برغم من تقلبات الزمان – تسير الرواية إلى الأمام بأثر تراكمي، ولحظة تتسارع كلما اقتربنا نحو القلب. فقد شرع كونراد في تعلم الإنكليزيَّة حين بلغ من العمر عشرين عاماً. وبرغم من إجادته البارعة لها كان – والحديث هنا لفورد – يزدريها كلغة لكتابة النثر، معترفاً بأنَّه من المستحيل كتابة تعبير مباشر بالإنكليزيَّة، وذلك لأنَّ كل المفردات الإنكليزيَّة عبارة عن آلات للعواطف الباهتة المثيرة. فالمفردة الفرنسيَّة تحمل معنى واحداً، أما الإنكليزيَّة فتحمل أكثر من معنى. لذلك قال كونراد: "إنَّه كان يفضِّل أن يكون كاتباً روائياً فرنسيَّاً،" ولكن جاءت الفرصة متأخرة جداً بحيث لم يكد يستطيع أن يغيِّر حاله. وفي الحكاية يسرد مارلو القصة بالتسلسل المباشر غير المباشر، والذي فيه يبدو مارلو كأنَّه يسرد الأحداث بتسلسل تأريخي، لكنه – في حقيقة الأمر – لا يفعل ذلك. فالقصة لا تسير حسب تسلسل الأحداث، بل حسب تسلسل أفكار مارلو.(3)
فرواية "قلب" الظلام"، التي كُتبت في العام الأخير للقرن التاسع عشر من الميلاد، تُعتبر أول رواية في القرن العشرين، وذلك بمناخها المشبع بالشك وعدم الوضوح، وضياع الثقة الأخلاقيَّة، وحوجتها في الاعتقاد وسط البريَّة الأخلاقيَّة، واكتشافها إلى الدُّووَعي، وتوكيدها للحريَّة الفرديَّة. ولعلَّ الجشع الاستعماري والاضطهاد الإمبريالي في القصة، والفجوة الفسيحة بين رغبات الإنسان الخيِّرة، والمٌثُل العليا من جانب، وما يقوم به فعلاً من جانب آخر يشي بمقاربة مرعبة، وهذا ما أسماه مارلو "احتلال الأرض"، والذي ما يزال مستمراً إلى يومنا هذا، وإنَّه ليس بالشيء الحميد أبداً حين نمعن أو نديم النَّظر فيه. واحتلال الأرض هنا يعني دوماً أخذها عنوة واقتداراً من الذين يحملون ملامح مختلفة، أو أنوف مسطحة إلى حد ما، أو سحنات لا تشبه تلك التي عند الغاصبين. فما الذي يمكن أن ينقذ هذا الاستغلال؟ إنَّه لهو الفكرة، الفكرة في خلفيتها النبيلة، وليس الادعاء الاستعطافي، ولكن الفكرة الخيِّرة، والاعتقاد غير الأناني في الفكرة، ثمَّ إنَّه لهو الشيء الذي يمكنك أن تؤسسه، وتسجد أمامه، وتقدِّم له قرباناً. فالإمبراطوريَّتان البلجيكيَّة والبريطانيَّة قد اندثرتا، ولكن أخريات قد حلَّت محلَّهما. فقد حلَّ محل العاج الأبيض، الذي كان يُستخرج من أشجار بعينها في الكونغو، النفط الأسود كمادة رئيسة للنهب، وهناك أخريات بالطبع. فالتقدُّم – أو بالأحرى لنقل مزاعم التقدُّم – هو أحد منها. هذه الفكرة المقدَّسة التي تفضي إلى القول بأنَّ كل ما نفعله عرضة للتحسين، وإنَّ للبشر حركة إلى الأمام مستمرة، ولا يزال الإنسان يسيطر على المجتمع، وبما أنَّه بدأ يفقد هذه السيطرة قليلاً قليلاً، وذلك حين أخذ الوعي ينتابنا عن كوارث ما نسميه التقدُّم وأمسينا أكثر تواضعاً في وجهها، لم نغلق الأبواب على مصاريعها بعد في وجه ما أسماه مارلو بمرارة "مزبلة التقدُّم". فهناك كثرٌ من أناس خيِّرين – مثل كورتز – يودون تطبيق الفكرة، ولكن إنَّ الفجوة بين أفكارهم من ناحية، وما يفعلونه من ناحية أخرى لمتسعة. وإنَّ الظلام، كما رآه مارلو في نهاية المطاف، لمحيط بنا تماماً، وكذلك إنَّه لفي دواخلنا. ثمَّ إنَّ المشكل لهو من ذا الذي يحمل معايير وسائل ضبط النفس الضروريَّة لحله. لقد بدأ مارلو بداية أخلاقيَّة، وبمقاصد نبيلة، ولكنه في نهاية الأمر لم يستطع أن يحافظ على مثالياته، وذلك حينما امتلك سلطة مطلقة.(4) ألم نقل لكم إنَّ السلطة لتفسد، وإنَّ السلطة المطلقة لتفسد فساداً مطلقاً (Power corrupts, and absolute power corrupts absolutely)! ومارلو هنا إنسان يحمل تناقضات البشر، عيوبهم وأحزانهم، خوفهم وبطشهم، نهمهم وتحفظهم، بل – وأكثر من هذا – يحمل إلى حد الإفراط كل تلك القدرة على أن يكون وحشاً وحنوناً في الوقت نفسه.
ومن هنا نستطيع أن نقول إنَّ جوزيف كونراد (1857-1924م) المذكور هنا، ليس بالبطل الثوري الأسطوري، بل أديباً روائيَّاً. وهو ذلكم الطفل البولندي الذي تربى على الطبيعة البولنديَّة الباردة، وصعقه المجتمع الغربي منذ بداية حياته الشبابيَّة، وعاش كل نجاحاته، انطلاقاً من خيبته وإخفاقه المؤكدين في مقتبل عمره، حتى كادا أن يؤدِّيان إلى هلاكه. ولكن من جحيم هذا الفشل في بادئ الأمر انطلق منتصراً ليمسي أمثولة روائيَّة بين ليلة وضحاها. ولم يكن ذلك كله بالصدفة بالطبع، فلا ريب في أنَّ البارعين العظام لا بد أن يكونوا قد مروا بتجارب مريرة محبطة كادت أن تدمِّرهم نهائيَّاً. ومن الذين دفعهم اليأس إلى سوداويَّة حياتيَّة قادتهم إلى محاولات الانتحار هو ذلك الموسيقي الألماني الذائع الصيت روبرت شومان (1810-1856م) والأديب الفرنسي الألمعي فرانسوا رينيه أوغست دي شاتوبريان (1768-1848م). والمهم هنا أنَّ كونراد قدَّم لنا أعمالاً روائيَّة بأشكال أخَّاذة يبلغ تعدادها 20 رواية. إذ صار جزء منها أوبرا، وعكفت شركات السينما الكبيرة على تلفزة وأفلمة بعضاً منها، حيث حققها مخرجون كثيرون (معظمهم من أصحاب الأسماء الكبيرة في السينما الأمريكيَّة). فبالإضافة إلى الأعمال التي ذكرناها سلفاً – والتي سنذكرها لاحقاً، والتي سوف لا نذكرها هنا – كتب كونراد "حقير الجزر" (1896م)، و"العميل السرِّي" (1907م) وروايات أخريات. فلا شك في أنَّ المواضيع الرئيسة في أعمال كونراد – الذي اهتمَّ، أكثر ما اهتمَّ أي روائي آخر، بالكتابة عن المغامرات – تتركَّز حول الرحلات والنِّزاع، وبخاصة في "نوسترومو"، و"اللورد جيم"، و"قلب الظلام"، و"زنجي نارسيسوس". وأكثر أعماله المقروءة قد كُتِبت في الفترة الوسطى، والتي تمتد بالتقريب في الفترة ما بين (1899-1911م). ففي هذه الفترة كتب كونراد "الشباب"، و"قلب الظلام"، و"اللورد جيم"، و"الفرصة"، والتي فيها يمثل تشارلي مارلو الشخصيَّة المحوريَّة. وفي كثرٍ من أعماله حاول كونراد أن يتحرَّى العلاقة بين الولاء للقيم الاجتماعيَّة من ناحية، وبين الولاء للفرد من ناحية أخرى، لكنه لم يكد يستطيع أن يصل إلى نتيجة مؤكَّدة. ففي ببعض أعماله – مثل "اللورد جيم"، و"نوسترومو"، و"تحت العيون الغربيَّة" (1911م) وقف إلى جانب الولاء إلى الفرد. والفرديَّة، كما أنضجها الفكر الإنساني الحديث، والتجارب العمليَّة في كنف الدولة الديمقراطيَّة الحديثة، نقيض الأنانيَّة والانغلاق على الذات؛ فالفرد الإنساني الذي تنسب الفرديَّة له، تواصلي وتبادلي، أو حامل لإمكانيَّة التواصل والتبادل في مختلف مجالات الحياة، ويمتاز بالمعرفة والعمل والحب، وهي حدود وجوده الإنساني.
أما في رواية "نهاية الأمل" (1902م)، التي اعتبرها بعض النقَّاد أقل أعماله بريقاً، فقد حاول كونراد أن يغوص في الأزمات الأخلاقيَّة والنفسيَّة، ويتحرَّى عدة قضايا هامة بطرق فريدة، ويوضِّح أنَّ البشر ليس لهم سلطة على مصائرهم، وهم في نهاية الأمر تحت رحمة تقلُّبات القضاء والقدر في حيواتهم الدنيا. أما روايته "زنجي نارسيسوس" – والزنجي هنا بمعناه العنصري الاحتقاري – فهي من أفضل أعمال كونراد في فترة حياته الأولى. فلولا عنوانها الطارد، ربما كانت قد قرأها كثرٌ من الناس وباستمرار أكثر مما يقدم عليها القراء الآن. وربما كان هذا العنوان المقيت أيضاً هو الذي دفع الناشر في الطبعة الأمريكيَّة الأولى أن يعيد نشرها باسم "أطفال البحر". وفي وقت ما كانت هذه الرواية هي أكثر مؤلفات كونراد قراءة، وذلك نسبة لأنَّها موجزة من ناحية، ولأنَّ بها عينات من المغامرات البحريَّة من ناحية أخرى، ولأنَّ بها ميزات أدبيَّة من ناحية ثالثة، حيث كانت تسترعي انتباه كثرٍ من الناس. ففي هذه الرواية يعالج كونراد قضايا هامة، وبخاصة مفاهيم العزلة الإنسانيَّة والتضامن الإنساني، فضلاً عن مسائل العرق. فبما أنَّ الرابطة الجماعيَّة هامة وسط الناس في سبيل البقاء، فقد استعان بها قباطنة السفينة "نارسيسوس" من أجل البقاء، إلا أنَّ الربان جيميس ويت المتحدِّر من أصول إفريقيَّة قد أدخل الربابنة الآخرين في أزمة اجتماعيَّة إنسانيَّة أخلاقيَّة. فمن جانب كان ينبغي على طاقم السفينة تضمين جيميس في مجتمع السفينة، ومن جانب آخر بقي جيميس خارج إطار هذا المجتمع الكبير نسبة لإرثه الإفريقي. إذ كان عليهم حمايته كأي فرد آخر من أفراد الطاقم حتى لو أدَّى الأمر إلى عرض حيواتهم كلهم أجمعين أبتعين للخطر والهلاك، لكنهم – في الآن نفسه – كانوا يبدون نوعاً من الاشمئزاز منه، لأنَّه كان يمثل الموت بالنسبة لهم، هذا من جانب. ومن جانب أخر، بسبب التفرقة العنصريَّة ضده. والمهم هنا أنَّ كونراد يدلنا إلى مقدرة لا شك فيها على الغوص في دقائق اهتزازات النفس وارتجاجاتها، وتذبذب الفكر بين شتى الاحتمالات والبدائل، مع ارتباط متواصل على طول الروايات بالأوضاع السياسيَّة والاجتماعيَّة معاً. وتمثل هذه الأعمال في أحسن اعتباراتها فتنة التناسل واللعب على الكلام، النبش في المناطق الخبيئة للعواطف الإنسانيَّة والأهواء الذاتيَّة، والتلذذ بالتناقضات الاجتماعيَّة والموروثات الثقافيَّة.
أما رواية "قلب الظلام"، فلعمري لم نر تأليفاً استكثر فيه الكاتب وتزيَّد في العنصريَّة على هذا النحو وبهذا الشكل أو النمط. فلا تكاد العنصريَّة السمجة تسيل في لعابه، وتجري في دمه، وتخرج منه زفيراً، وتتصبَّب منه عرقاً حتى ظننا أنَّ قلبه لسوف ينفطر كراهيَّة للإنسان الإفريقي الأسود. ألم تر كيف أشار إلى الشجار الذي نشب بين مواطنين في السوق الشعبي في الكونغو، حيث أدَّى هذا النزاع إلى مقتل أحدهما، وكان النِّزاع المستميت هذا – حسب رواية الكاتب – حول "دجاجة سوداء"! فإنَّ في الإشارة إلى الدجاجة، وهي حيوان أنثى، لفيها احتقار إلى كل شيء أنثي. أما الازدراء والاحتقار الحقيقين فيكمنان في سواد لون الدجاجة، وكأنَّ كل شيء أسود – إنسان إفريقي كان أم أي حيوان أو "الظلام" – ليس بذي قيمة، ولا يستحق هذا الاقتتال والموت في سبيله، حتى لو كان حقاً مسلوباً، أو عرضاً منتهكاً، أو معتقداً مدنَّساً. ولعلَّ استحضار هذا النوع الفاقع من العنصريَّة في العمل الأدبي هو الذي قادنا إلى نعته ب"توحش عنصريَّة" الرجل الأبيض في رواية. وقد شاع هذا النمط من العنصريَّة القميئة في عقابيل حذر وتجريم تجارة الرق عند الغرب في القرن التاسع عشر من الميلاد، واستعاض العنصريُّون البيض الجدد عن العنصريَّة الماديَّة بأخرى أدبيَّة تُمارس في الروايات والقصص والصحافة ودور السينما، وبأسلوب سمج وقح لا يفوت على أولي الألباب. وقد وجد أولئك وهؤلاء ديدنهم في الاسترخاص الأثني في قوانين حريَّة التعبير والنشر.
وإنَّ الطابع الشائع لدي روائيي العهد الاستعماري لهو التمحور حول العرق والتباهي بالعنصريَّة الفضحاء. ولعلَّ الروائي رايدر هقارد كان واحداً من الذين أبدى سلوكاً عنصريَّاً متوحشاً ضد الإنسان غير الأبيض، وقد استبصرنا هذا الإطار العرقي الذي ظل أولئك وهؤلاء يتحركَّون فيه حديثاً. ألم ترك كيف كتب هقارد في روايته "قصة الأسود الثلاثة" العام 1893م حين قال: "إنَّ الثور لهو الحيوان الأكثر تحملاً في العالم، باستثناء الزنجي!" تُرى كيف ضاهى الإنسان الأسود بالحيوان؟ وكيف اعتبر أنَّه من الأمر الطبعي أن يقوم بالأعمال الشاقة، وإنَّه أكثر تحملاً في ارتياد المشاق والقيام بالشاق من الأعباء. علينا هنا أن نتوقف مستهجنين ومتنبهين إلى البعد الاجتماعي والإطار السياسي اللذان تمكنا هقارد من تمرير هذا العمل وإذاعته في الناس: رواسب العنصريَّة العالقة بالأدب والنشر بعد حظر الرق قانونيَّاً كما أبنا آنفاً. ومع ذلك، استمتعنا بمطالعة بعضاً من تأليفاته في أيام الصبا وعند مقتبل الشباب – فعلى سبيل المثال: "مناجم الملك سليمان"، و"ألن كواترمين"، و"هي"، سواء أكان ذلك كمقرر أكاديمي أو في الاطلاع الذاتي. على أيَّة حال، فإزاء هذا الفهم للرابط العضوي بين العنصريَّة والإمبرياليَّة اعتقد بعض من الناس أنَّ العنصريَّة سبب ازدهار الاستعمار، ولئن ذهب البعض الآخر اعتقاداً بأنَّ العنصريَّة أثر من آثار الاستعمار، ووسيلة من وسائل ابتكار السلطة والاحتفاظ بها، وغاية طبيعيَّة للإمبراطوريَّة البريطانيَّة، وكانت عاملاً رائساً لاستقرارها النسبي. والشيء نفسه ينطبق على الاستعمار الفرنسي والبلجيكي والألماني في عمر الأخير القصير في إفريقيا وحكايات الرعب والفزع والموت والدمار التي خلفها.
فقد حاولنا جاهدين – غير مجاهدين – الغوص في سيكلوجيَّة العنصريين القدامى والجدد معاً لنبحث عن سر كل هذه الكراهيَّة للآخر المختلف، فوجدنا أنَّ العنصريين يكرهون أنفسهم قبل الآخر، وتبدو هذه الكراهيَّة بشكلها المقيت المستميت حين تقع أعينهم على الذين يشاركونهم الشبه والملامح على الأقل – أو في الحامض النووي في أغلب الأحايين – لا في التفكير والتأمل في الأشياء. فبدلاً من التخلص من أنفسهم عن طريق الانتحار، أو أيَّة وسيلة أخرى من وسائل هلك النفس الأمارة بالسوء، يتجابنون ويقدمون على إبادة الآخر، والتلذذ بهذه الإبادة، ويسدرون في البغي والعدوان، ويرتكبون الجرائم العظام ضد الإنسانيَّة، ثمَّ لتجدنَّهم يعجنون شيئاً من حقدهم على الأغيار. فلنرى – على سبيل المثال – قادة النازيَّة وبغضهم للآخر، وبخاصة اليهود والسود والمعاقين وإخوة يهواه وغيرهم. إذ قسَّم النازيُّون في ألمانيا الإنسانيَّة إلى مجموعتين: الآريُّون (عرق أهل الشمال)، والذين اعتبروهم سيد الأعراق البشريَّة، والآخر الذي اعتبروه من جنس العبيد، وكانت نظريَّة العرق هي أساس هذا التصنيف، وزعموا أنَّ الألمان هم الآريين، وخُلقوا لكي يحكموا العالم، ويتسيَّدوا على الآخرين. ويتميَّز العنصر الآري المثالي بطول القامة، واشقرار الشعر، والوسامة في الطلعة. ولعلَّ أغرب ما في هذه المسألة أنَّ قلة قليلة من قادة النازيين أنفسهم حملوا هذه الصفات المثالية حسب اعتقادهم وظنهم. فالدكتور جون قوبيلز، وزير الدعاية النازيَّة، قزماً كان، ثم كان لونه داكناً وأعرجاً. وكان هيرمان قورينغ أشقر الشعر، ومع ذلك كان بديناً شحيماً وقد امتلأ لحماً وشحماً، أما رودلف هيس – الرجل الثاني في القيادة بعد أدولف هتلر – فقد كان لونه داكناً، وكان ملقَّباً ب"المصري"، وكانت ملامح جوليوس سترايتشر – مبيد اليهود – يهوديَّة، ثمَّ كان شعر أدولف هتلر أسوداً.(5) وبرغم من ذلك كله، لم تكن تقلق هذه التناقضات القادة النازيين أبداً.
على أيَّة حال، بقي لنا أن نقول من نافلة القول إنَّ جوزيف كونراد في رواياته ظل يغوص في حكايات المجتمع، بواقعيَّتها وغرائبيَّتها، وتعمَّق في وصف المشاعر البشريَّة، والجشع البشري الذي يسبر أغوار طريقة عمل الدوافع الإنسانيَّة: هي – باختصار شديد – رحلة في النفس البشريَّة ضمن إطار بيئة هذه النفس. فلم يبتعد كونراد في جوهر مواضيعه عن الإنسان وهمومه، ولكن – بالطبع – بطريقته "الكونراديَّة" وأسلوبه "الكونرادي". هكذا نجد أنَّ كونراد كان قد خاطب مجموعة من القضايا التي كان يعاني منها العالم المرجعي الذي تحيل إليه رواياته، وتمتح منه حكاياتها؛ ألا وهو المجتمع الإنساني. إذاً، فإنَّ رواية "قلب الظلام" بشخصياتها وأحداثها، التي تبدو أحياناً متشابكة، وفي أحايين أخرى متداخلة، لهي رحلة في ثنايا الحياة، وأيضاً في فكر كونراد ذاته. هذه هي السمات التي اصطبغت رواياته، والتي صنعت له شهرة عالمية ظلَّ ينعم بها حتى رحيله عن الدنيا العام 1924م.
المصادر والإحالات
(1) Peters, J G, The Cambridge Introduction to Joseph Conrad; Cambridge University Press: Cambridge, 2006.
(2) أنظر الدكتور عمر مصطفى شركيان، النُّوبة في السُّودان.. نضال شعب في سبيل العدالة والمشاركة في السلطة، دار الحكمة، لندن، 2006م. كذلك أنظر
March, Z and Kingsnorth, G W, An Introduction to the History of East Africa; Cambridge University Press: Cambridge, 1965; Moorehead, A, The White Nile; Penguin Books Ltd: Harmondsworth, 1960; and Hazell, A, The Last Slave Market: Dr John Kirk and the Struggle to End the African Slave Trade; Constable and Robinson Ltd: London, 2011.
(3) في روايته "أنا أحيا" (1957م) سلكت ليلي البعلبكي شكل البناء الروائي المجسد للعلائق والخطابات والقيم للتعبير عن الفرديَّة وفروقها. أما في رواية الكاتبة السوريَّة سلوى النعيمي "شبه الجزيرة العربيَّة" (2012م) فيمكن تصنيف نصها ضمن التخييل الذاتي المتحرر من الحبكة والمعتمد على بنية مفتوحة، والذي يسمح بالانطلاق من الذات وتجاربها، سواء أكانت معيشة أم متخيلة، وهو ما يتيح للكاتبة أن تبتدع حكاياتها من دون تقيُّد بواقع أو معيش. غير أنَّ الروائي العراقي محمود سعيد قد اعتمد في روايته "نطَّة الضفدع" (2012م) طريقة السرد التتابعي ذي الملامح الزمنيَّة "الكرونولوجيَّة". وفي رواية "مزرعة الجنرالات" (2012م) للروائي المصري عبد النبي فرج لم نكن أمام رواية تتبع في بنيتها الزمن الخطي المتتابع، أو تتكئ على حدث مركزي تتفرع عنه خطوط أخرى، ولكننا أمام جملة من المقاطع السرديَّة التي تحاول أن تصنع تأريخاً موازياً للقهر، والسلطة عبر تعريتها وكشفها. وفي روايته "وشم وحيد" (2012م) للروائي المصري سعد القرش تنهض بنية السرد على توظيف المرويات التراثيَّة، وتضفيرها في المسار السردي للرواية، وتعتمد البنية السرديَّة أيضاً على آلية التوالد الحكائي، حيث تتناسل الحكايات بعضها من بعض، وتتفرَّع موصولة جميعها بأفق تخييلي.
(4) Conrad, J, Heart of Darkness, edited with an introduction by Paul O’Prey; Penguin Books: London, 1902.
(5) Isaac, M L R, A History of Europe since 1870; Edward Arnold (Publishers) Ltd: London, 1971.