منْ يركض ضمن زُمرة القطيع ؟
قلت له :
ــ كُنتَ ملهِماً و رائعاً ، تغمرنا دائما بمزاجك الشعري الرائع ، مالي أراك مغتماً يلُفك الأسى ؟. تعلمنا منك سابقاً كيف نحيا التأملات الشاردة . نتتبع خطاها . تخفُق قلوبنا لوهجك السحري الغريب ، و أنت تصف لنا شخوصاً من صُنع خيالك .
قال :
ــ يا سيدي ، تلك أيام مضت ،... ألا زلت تذكر ذلك !
قلت :
ــ علمتنا أن التأمُل ظاهرة روحانية طبيعية جداً ، و مفيدة جداً للاتزان النفسي وأن قوة تخيُّل الإنسان أقوى من كل السموم. عفواً، ...أين دفتر قصائدك ؟
قال:
ــ ضاع منذ زمان ...ياه.
قلت:
ــ لازلت أذكر لوحات بورتريه رسمتها أنت للعقاد و جواهرلال نهرو و طه حُسين و جان بول سارتر ، وشوقي و حافظ و آخرين.......
قال :
ــ تلك أيام الشباب ... نسينا كل ذلك .
قلت:
ــ أهذا هو مصير العملاق الذي عرفناه ؟. أهو المصير المحتوم الذي لا مفر منه ؟.كأنه يسير بك خطى وئيدة متثاقلة ،يدُب دبيباً خلفك ، مهما مُد لك في حبل الأمل . هكذا تُلقي سلاحك أمام هذه الجبرية الاصطناعية الجديدة ،كأن لا مفر منها !
مدّ يده اليُمنى وقال :
ــ تفضل معي إلي الصالون .
تقدمت بخطى متهالكة ، فأنا قد قدِمتُ من سَفرٍ بعيد . بيني و " نُعمان " ، ذلك الصديق القديم الآن بونٌ شاسعٌ . اتجهت إلي الأريكة الأقرب ، فقد كُنت على وشك السقوط . ببطء تسلّل هو بعد استئذان ، ترك الأمور معلقة . انتقل بصري بين الأرفف . تغير الحال أو قد نسيت التفاصيل . هُنا كانت المكتبة الإنجليزية ،و المكتبة العربية تحتها على ما أذكر. الآن كل شيء تبدّل . الكتب ، سميكة الغلاف : أسود ، رمادي ، أحمر غامق ، بُني ، الزُخرف الوردي المذهّب اللون.النقوش التي اُصطلح على تسميتها بالزخارف الإسلامية .
جاء دون أن أحسّ به ، وفاجأني قائلاً :
ــ إنها المكتبة الإسلامية الرائعة ، إنها العودة إلى الوعي الحقيقي الذي بعدنا عنه سابقاً . استبدلنا الفَجَرة و كُتبهم ، وبدأنا عهداً من العودة إلى الأصول التي ابتعدنا عنها طويلاً ....ليتك تتذوق معنا تلك النعمة الحق و تشرب من ذلك المعين الرطب ، تُبلل شفتيك باللغة المبتهِلة ...
قاطعته :
ــ مهلك ، سيدي كأنك تُضمِر هدر دمي ؟ .
رد بهدوء :
ــ عفواً ، أراك تغضب ... أعني أنك لم تزل بعيداً ، تعال و اقترب واشرب من المعين الذي لا ينضبْ .
قلت منزعجاً :
ــ أ تحسبني الآن قنديلاً يشتعل فسقاً ،و جاء الوقت لتحرق القشر عن ذلك الجزع و تجلي نقاوته ؟
رد :
ــ عفواً،... حاشا لله ما قصدت ذلك .
قلت :
ــ أمنْ يختلف معك ،يُصبح في الضفة الأخرى ، أليس كذلك ؟
قال :
ــ لا..... أقصد التَغريب .
ــ التغريب الذي أعرفه أن تبعد عن من تُحب!! .
ــ ............
صمتٌ عميق .
تسللت نظرتي إلى الكتب ، تستند فوق بعضها . أخلاطٌ من المذهب الشيعي ، و السُني :" السنن الكبرى" للبيهقي ، " سنن الإمام أحمد بن حنبل ،" منهاج السُنة النبوية " لأبن تيمية ، " تاريخ الغيبة الصُغرى " لمحمد الصدر ، " تهذيب الأصول " لآية الله السبراوي ، "أحكام الجان " لأبي عبد الله محمد الشبلي ، " أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية " للدكتور عبد الله الطريقي ، "أصول الفقه" للجويني ،" الاعتقاد و الهداية إلى سبيل الرشاد " للبيهقي الشافعي ........، طافت بذهني الأيام الماضية . على أرفف متواضعة و أقل فخامة مما أرى الآن : " القصر بدون المقاعد " لبروني ،" َضجيج من حديقة الحيوانات " لإليوت ، " القادمون في الليل " لأمبر ، " مفتاح قلبي "لـ س. برتشيت ، " شجرة العسل " لإليوت . " بيت من الجبل " لهمفري ،و تذكرت أقماره المفضلة : " القمر ينخفض " لديكنز ، " القمر ينام " لغريس ، " نَمِر القمر " لليفلي ....
قطع حبل أفكاري رنين كوبين من أكواب الشاي تعانقا . بدأت ألحظ بطء الحركة ، و ردود الأفعال المتأخرة . أعلم أن سنوات العمر لا تقذف بك إلى الشيخوخة فجأة . إنه العهد القديم المتجدد . أحسب أن صديقي قد لبس ثوباً يضيق على الجسد ، أحسست بثقل الهموم على نفسه .
قال كمن يُحدث نفسه :
ــ لقمة العيش قاسية .....
استرسل في التفاصيل المحزنة . يطلعك على الوجه الحقيقي للأسى . تقاطيع وجهه بدأت توصف الحال . الوهج السرمدي الذي نلحظه خلف حضوره المبهج سابقاً ، تلاشى شيئا فشيئا . المذياع و التلفاز وصديقي و مكتبته ، و الكتف المُثقل بأعباء الحياة ، قد صنع فيه مثل ما صنع الحداد . اختلطت الأشياء ببعضها .الحال أفضل من السابق حسب ما أرى ، ومن يتزوج بثانية لديه فُسحة من الزاد لا يتوفر لغيره . و على نحو ما أرى لا مبرر للشكوى و الضيق و التبرم .
سألت نفسي : منْ يعيد السلسلة المنفرطة إلى سابق عهدها؟. منْ يعيد الضحك المجلجل، بل من يعيد للوجه بريق الدهشة والطيف وعشق الحياة ؟. كلمات الوداع لهذه الدنيا الفانية ، تنزلق من تعابير وجهه، كأنه قاب قوسين من الرحيل . الاستسلام الكامل للمصير و بلا شروط ، لواقع جديد وقيم جديدة . تُرى ماذا سيفعل أبناؤه من بعده إن أنشبت المنية أطفارها ؟!
قلت :
ــ لقد أقمتَ جداراً فاصلاً بين ماضيك و الحاضر . تغتسل من ماضي العقلانية كأنها أثمٌ ليس من بعده خطيئة ! .
قال :
ــ أنت تعرف ، الصبا و شقاوته . كُنا دائماً في مواجهة قِيم المجتمع . بدون تروٍ ننزل الأحكام القاسية عليها. مفارقة تراثنا و ماضينا هي أزمة الجميع .
قلت له:
ــ الآن مُدت الجسور بينك وبين التُراث ، وقبِلتَه بعلله !؟.
رد هو :
ــ أعدت النظر في بعض تراثنا والعقيدة ،فنحن في حاجة لمنهج الجماعة لضبط المُنفلتين.
قلت:
ــ منْ هم المنفلتين : أهم العقلانيون أم أنكَ تعني ما يسمى عند البعض اصطلاحاً ( أصحاب الدين الشعبي ) ؟
رد :
ــ التزاوج بين الدين و العادات ، يقود لمخالفة النهج و السنن والفروض . السَّماح لا يعني التسامُح مع المكروهات ، في بعض الأحيان تثقلك الذنوب ، ومن يعلم لا يستوي مع من لا يعلم ، نحن حسابنا أشد.
قلت :
ــ ما رأيك في هذا المقطع :
يقول" إدجار ألان بو " :
{ لقد ظلت حياتي اندفاعا ـ أو هوى ـ أو حنيناً إلي الوحدة ، و ازدراء لكل ما هو حاضر و إلحاحاً في التعلق بالمستقبل }
رد:
ــ أنا أقول لك :{ لقد كانت حياتي الماضية اندفاعاً بلا قيود ، وازدراء لكل قيم المجتمع ، والتمتع بقيم أهل حضارة لا تشبهنا ،غريبة علينا . عدت الآن و العودُ أحمد }
قلت:
ــ لك الخيار أن تختار.... ، ما رأيك في التقنية المتقدمة التي تمتلكها تلك الحضارة ، إذ يسرت لك أن تحوي خزانتك كل هذا الكم من المعرفة ، لو كتبتها أنت في جِلد الغزال ، لأزلتَ محميةً كاملةً من الوجود من أجل كتاب !
قال :
ــ أنا أُفصل بين الفِكر و التقنية.
قلت:
ــ ذلك شكل من أشكال الأزمة ، لنغيّر الموضوع. الروح الناقدة عندك تراجعت كثيراً .
رد متسائلاً :
ــ لِمَ ؟
قلت:
ــ أنت تجمع النقائض في مكتبتكَ ، بكل الحنين نامت الأغلفة على بعضها ، رغم أن بعضها يُكفّر الآخر !.
رد:
ــ تجمعهم روح وعقيدة واحدة ، و الاختلاف هو في التفاصيل .
قلت:
ــ خُذ حذرك ، هذا رأي موغل في التفاؤل .
ـــ .............
لحظة صمت... ، تذكرت خلالها ملاحظات قد خطها" نعمان " سابقاً ، في وصف حال الأدباء و الفنانين ، لم تزل عالقة في الذهن : ـ
{ أنت في مواجهة الآخرين ، إن انتصرت فأنت قد عبرت . الهزيمة تعني الانسحاب من حياة الإبداع ، و التحول إلى رقم ضمن القطيع . عندها تجِف منابع الخلق عندك ، للآخرين وسائلهم اللعينة في اغتيال نوازع الفن و الأدب ، و هزيمة "الأنا" الخلاقة . كم مبدعا عرفنا ...، تهاوت ملكاته الخلاقة بعد عقد أو عقدين من الزمان . لبس جُلباب العامَّة و أتزر بإزارهم . السُخرية القاتلة ، هي سلاح العامة الناجع عندنا في هدمك ، لتُصبح مثلهم رقماً في منظومة الحياة . تشرب من ماء آسن، يبقيك ضمن حزمة القطيع . تسبح دائماً مع التيار . تتيبس خلايا ذهنك آخر المطاف ، و تنطفئ نيران الخلق لديك. لن استسلم لمثل هذا المصير أبدا . أنا أختار الآفاق الرحبة ،وأثب إلى السماوات العُلا و أطرق المستحيل . هنالك شواطئ اطمئنان في جوف الكوابيس ، تصعد العتبات بنا ، الآن لا سقف لديك، تنمو أرجلك عُشباً يمسك بالأرض ، وتمضي إلى الجذور } .
على عجل أكملت طقوس الوفاء بأريحية ، ثم انطلقت .
عبد الله الشقليني
1/6/2005
abdalla shiglini [abdallashiglini@hotmail.com]