من يغير قواعد اللعبة في السودان؟

 


 

 




khalidtigani@gmail.com

يواجه السودان, في مستهل عام جديد أضاف سنة آخرى على سنوات استقلاله السبع وخمسين, وضعاً مأزقياً خطيراً غير مسبوق على الصعد كافة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً توشك أن تغرق ما تبقى من البلاد بعد تقسيمها المشؤوم في لجة فوضى, الله وحده يعلم أين يصل مداها. في ظل انسداد أفق أمام أية محاولات جدية للبحث عن مخرج آمن من التدهور المتسارع نحو الهاوية.
لا يتعلق الأمر هنا بجدل بائس حول الصراع على سلطة لا معنى لها في وطن يكابد من أجل الحفاظ على البقاء في ظل مخاطر يبصرها حتى كفيف البصر دعك عن أعمى البصيرة, ويسمع خطوها الصاخب حتى من به صمم. مسألة السودان اليوم أكبر بكثير من مجرد صراع بين معارضة تريد إسقاط النظام وصولاً إلى السلطة, أو حكم يتشبث بسلطته بأي ثمن ولو كان ثمن ذلك ذهاب ريح ما تبقى من الوطن.
مأزق السودان الحقيقي اليوم هذا الإنزلاق الخطير المتسارع نحو جحيم الفوضى واللادولة في ظل حالة إنكار مستدامة عند ذوي الشأن, ومن عجب ونذرها تترى أمام العيون المفتوحة على آخرها ولكنها لا تبصر, نظرة عابرة على ما حملته مانشيتات الصحف الصادرة في الخرطوم في الأيام الفائتة من أحداث عنف دموي وقتل, وصراعات قبلية, ووقائع فساد وإفساد مؤسسي واسع, وانفلات أمني تحمل في أحشائها كل إرهاصات تفكك الدولة السودانية التي تقترب بسرعة عجيبة من نيل لقب الدولة الفاشلة, لم لا, وذوي الشأن ينظرون ويتعاملون مع ما يجري تحت أبصارهم وكأنه يحدث في جزر الواق واق وليس الدولة التي يتولون حكمها.
يموت المئات من المواطنين "سمبلة" ليس في صراعات شخصية بأسلحة تقليدية, ولا حتى في صراعات بين- قبلية, بل تطورت الأمور إلى اسوأ بين أفخاذ في بطن القبيلة الواحدة بأحداث أنواع الاسلحة داخل المدن نحو ما جرى للأسف في مدينة الفولة, العاصمة المرشحة لولاية غرب كردفان العائدة. ويموت العشرات في تنافس على تعدين الذهب في دارفور التي كأنها لم تشبع بعد من أن تقتات على القتل وقد أهلكت الحرب الأهلية في عشر سنوات مئات الآلاف, وشردت الملايين من النازحين.
ثم أنظر في الصحف تنشر إعلانات للقبائل تعبر فيها عن مواقف سياسية تشكو ظلامات الحكم وتطالب بحقوقها وترفض تدابير الإدارة الحكومية لمناطقها, وقد غابت الأطر السياسية المعبرة عن المصالح العامة, لترتد البلاد إلى القبلية وقد أضحت الملاذ الاخير للحفاظ على الحقوق في وطن يتفتت, وهكذا عشرات من القصص لو أخذت تتتبعها لما وسعتها مئات الصفحات, تقود كلها إلى نتيجة واحدة أننا أمام حالة بلد لم تعد مشكلتها تناقص أوتادها, بعد التقسيم وفصل الجنوب وخسارة رهان مصيري قامر في بحث مزعوم عن سلام لم يتحقق أبداً لأنه أصحاب القرار قدموا الإجابة الخاطئة على السؤال الصحيح, فعلاج الأزمة الوطنية الشاملة لم يكن أبداً ممكناً بتقطيع أوصال البلاد جرياً وراء وهم سلام لن يتحقق, بل بعلاج جذور المرض وأسبابه الحقيقية لا الانشغال بعوارضه البائنة, كان العلاج الناجع تأسيس حكم ديمقراطي مؤسسي راشد, وليس بعقد صفقات عابرة تحت الطاولة.
ما يثير الاستغراب حقاً, والريبة أيضاً, أن كل تلك الحوادث المأساوية المنذرة وما سبقها من أحداث أشد فظاعة, التي سارت بذكرها الركبان, لم تثر حفيظة النخبة الحاكمة وهي ترى سلطتها تتآكل ليس من الأطراف فحسب, بل وصلت تفتتها إلى القلب, ومع ذلك فهي لا تبدي ادنى قدر مما تستحقه من اهتمام بشأنها, أو تبدو غير منزعجة لتبعاتها, لا لسبب غير أنها تحسب ذلك خطراً بعيداً غير ماثل لا يتهدد سلطتها مباشرة وفوراً, وقد تعودت على التعايش مع الأزمات وأن تقتات عليها, بل وأحيانها تفتعلها في محاولة هروب إلى الإمام لا نهاية لها, ولسان حالها الدائم اليوم خمر وغد, لا يأتي أبداً, أمر مستعصمة بتكتيك ممارستها السياسية المعتمدة "شراء الوقت" وأن مرور الزمن كفيل بحل الأزمات أو التطبع معها. وهي لعبة قد تنفع لإضافة سنوات لعمر الحكم ولكنها بالتأكيد ستزيد جبالاً من الأعباء الكارثية على حاضر ومستقبل بلد تتعقد مشاكله المعقدة أصلاً بفعل اللامبالة وانعدام المسؤولية وفقدان الحس السليم والضمير الوطني الحي.
ولك أن تقارن بين تغافل السلطة عن كل هذه الأحداث المأساوية المؤسفة التي يدفع ثمنها الأبرياء والمساكين من المواطنين من دمائهم وأرواحهم, وبين تلك الغضبة المضرية التي انتابت أركان الحكم لمجرد أن تسامعوا بنبأ تحالف المعارضة الجديد الذي وسع مظلته مدنياً وعسكرياً وأطلق وثيقة بديل للحكم الحالي تحت اسم وثيقة "الفجر الجديد", لقد بدت ردة فعل الطبقة الحاكمة عنيفاً كمن أخذ على حين غرة بهذه الخطوة, لقد جاء رد الفعل سريعاً وتصعيدياً بعد أيام قليلة فقط من دعوة الرئيس البشير نفسه في خطاب الاستقلال الأسبوع الفائت لهذه القوى عينها للحوار حول دستور جديد للبلاد, مما يطرح تساؤلات حول جدية الدعوة للحوار نفسها ضمن أمور أخرى مع هذه المسارعة إلى نسف الدعوة من أساسها والعودة إلى لغة المواجه والحسم العسكري.
وبعيداً عن اللغو السياسي الذي يمارسه بعض الذين يعتبرون التحالف الجديد عدوا لله والإسلام, فلسنا أمام حرب دينية بالتأكيد, ولا يتعلق الأمر هنا بصراع على مبادئ دينية ولا يحزنون, يتعلق الأمر ببساطة بصراع على السلطة, وما أثار ردة الفعل العنيفة هذه صراحة ما تضمنه موقف الحلفاء الجدد الداعي إلى إسقاط النظام, سلماً أو حرباً, مع أن ذلك على أية حال ليس موقفاً جديداً لخصوم النظام, ولكنه يدل على مؤشر الحساسية الفائقة لدى الطبقة الضيقة الحاكمة ضد فكرة فقدان للسلطة تحت أي ظرف, لا سلماً بصندوق انتخابات, ولا حربا باستخدام السلاح. ومن يتابع تصريحات قادة الحكم المتواترة يدرك مدى سيطرة هذه الفكرة الجوهرية على مخيلاتهم, فكرة الخلود في دست الحكم, تحت ذرائع شتى, وبالطبع مع استحالة تحقق ذلك في حكم العقل ولكن يبقى ذلك وهماً إنسانياً معروفاً قاد لأول خطيئة بشرية حين عصى أدم ربه فغوى تحت تأثير وعد شيطاني حين دله بغرور وزوجه إلى "شجرة الخلد وملك لا يبلى".
فإنهاء أجل السلطة الحاكمة في أية دولة, أو إسقاطها, هي المهمة الوحيدة أمام أية معارضة في هذه الدنيا وإلا لما كان هناك من داع لوجودها أصلاً, ولكن تبقى السلطة الحاكمة, أو النظام السياسي السائد, هو من يملك القرار في تحديد سيناريو انقضاء عهد الحكم وبأية وسيلة, ولذلك نشهد تداولا سلمياً للسلطة وتغييراً راتباً في الحكم في المجتمعات ذات التقاليد الديمقراطية المستقرة, ولذلك أيضاً نشهد وسائل عنيفة للتغيير في المجتمعات التي تتحكم فيها الديكتاتوريات والحكومات المتسلطة, سواء بالثورات الشعبية أو الانقلابات العسكرية أو الاغتيالات أو غيرها من وسائل استخدام القوة للتغيير.
إذن المتحكم في تحديد ورسم قواعد لعبة السلطة, واسلوب تداولها سلماً أو حرباً, هو من في الحكم فعلاً وليس الذي يطلبه, وبدلاً عن رد الفعل الانفعالي فإن "الطبقة الإنقاذية الحاكمة" عليها أن تنظر لقواعد لعبة السلطة التي أرستها وظلت تمارسها على مدار ربع القرن الماضي, قبل أن تلوم خصومها إن أرادوا اتخاذ النهج ذاته الذي أرسته سبيلاً للوصول إلى الحكم, ف"الإسلاميون" لم يصبروا ولم يتحملوا عبء نظام ديمقراطي كانوا طرفاً فاعلاً ومؤثراً فيه وآثروا استعجالاً القفز على قواعد لعبة التبادل السلمي للسلطة وانقضوا عليها بالقوة بدعوى أن آخرين كادوا يسبقون إليها, وقد كانوا بوسعهم ما دام استطاعوا الاستيلاء عليها أن يسهموا في حمايتها, ولكنهم فشلو في اختبار إغواء السلطة, كان ذلك الركن الأول في قواعد اللعبة التي أرسوها أن القوة هي مصدر السلطة, وأن الشرعية للبندقية, غير ان الركن الثاني الأكثر خطورة إرساء مفهوم أعمق تأثيراً في صناعة مأزق السودان اليوم أن السلطة الجديدة لا تأبه ولا تستمتع ولا تفاوض إلا من ينازعها ملكها بالقوة, وعند آخر مدى تصله بندقية المعارض, وأبعد تهديد يمثله للسلطة, يكمن حجم نصيبه في السلطة والثروة التي تحتكرها, والتي لا يتنازل من جزء منها إلا بقدر إدراكه لحجم ثقلها في موازين القوة.
ولذلك شهد المسرح السياسي السوداني في العقدين ونيف الماضيين ما لا يحصى من المفاوضات مع جماعات المعارضة المسلحة المتمردة من أركان البلاد الأربعة, وكانت عاصمة البلاد الخرطوم الوحيدة التي خرجت من المولد بلا حمص وقد دارت جولات التفاوض في العواصم البعيدة والقريبة, وامتلأ القصر الرئاسي بالمتمردين الحاكمين, والحكام المتمردين, وأصبح المؤهل الوحيد المعتمد للدخول إلى نعيم السلطة واقتسام مغانمها ومكاسبها مقدار ما تملك من قوة نيران, لا وزن ما تملك من إسهام وطني بناء مهما كنت تملك من قدرات أو كفاءة.
ولذلك لا يصدق أحد, ولا ينبغي له, اتهامات الخيانة المجانية التي يرميها متحدثو حزب المؤتمر الوطني الحاكم في وجه الخصوم متى ما حزبهم أمرهم ورأوا منهم تحالفاً مهددا لسلطتهم يستخدم اللعبة ذاتها. فكم مرة تفاوضوا مع هؤلاء الخونة المزعومون وتبادلوا معهم التحيات الطيبة ووقعوا معهم الاتفاقيات وفتحوا لهم أوسع الأبواب ليشاركوهم في قصور الحكم, وما أدرى الشعب المسكين أن يرى خونة اليوم عند أهل الحكم, إن اشتد عودهم غداً في اسرة متجاورين في جنة السلطة وحدائق القصر.
إن كان من يستحق اللوم في رؤية البلاد تنزلق إلى هذه الهاوية, اعتماد القوة وسيلة معتمدة لحسم الصراع على السلطة, فهي هذه السلطة القائمة التي ظلت تشجع على مدار العقدين الماضيين, على حمل السلاح تمرداً باعتباره الوسيلة الأسرع طريقاً والأكثر مضاءً لنيل نصيب من كيكة السلطة, لأنها فقط من أجل بقائها في الحكم ظلت تشد الرحال إلى كل حامل سلاح تخطب وده, لم يأبه حزب المؤتمر الوطني الحاكم وقادته لأغلبية الشعب السوداني وصفوته الوطنية المستنيرة وهو يطالب ويدعو للإصلاح بالحسنى وللتبادل السلمي للسلطة, ولم تسمع لمئات الآلاف من ضحايا المعذبين من هذه الصراعات العبثة من أجل السلطة ولا لأنات الملايين الذين يدفعون ثمنها, ولكن لم يسمع صوتهم أحد لأنهم لم يملكوا دبابات أو بنادق تقض مضجع الحكام, لقد أصابت الحكم حالة مستعصية من إدمان التفاوض حتى نهض إلى حمل السلاح وطلب الحكم من ليست له قضية أصلاً سوى الوصول باسرع ما يتيسر إلى مغانم السلطة وبريقها.
وليس للطبقة الحاكمة أن تطالب أحداً أو تحاسب أحداً باللجوء إلى طريق العنف المهلك للأمة, قبل ان تحاسب نفسها وتسائلها وتتحمل المسؤولية عن سوء صنيعها الذي قاد البلاد إلى هذا المصير البائس, بإصرارها على المكابرة وإغلاق باب الأمل في وجه أي تغيير أو إصلاح, ولو جزئي, حتى أنها اتهمت فلذات أكبادها وحماتها الحقيقيين بتدبير انقلاب عليها, ألم يكن في ذلك, إن صح ما اتهمت به أولياءها الخلص, عبرة كافية لتترك المكابرة ولتدرك أن فقدان الأمل في أدنى إصلاح وسد الطريق امام أقل تغيير دفع هؤلاء الذين لا يستطيع عاقل من بني بجدتهم يدرك حجم فداءهم من أجل بقاء هذا النظام أن ينكرها عليهم, ومع ذلك باتوا يرون القوة هي الوسيلة الوحيدة المتاحة لتغيير واقع معطوب لا يمكن إصلاحه.
لا يحتاج المرء لتذكير أصحاب الشأن من خطورة استمرار حالة الإنكار هذه, ودوننا من العبر الحاضرة من جيراننا العرب الأقربين والأبعدين ما يغني عن زيارة كتب التاريخ, وحالة الدولة السودانية, او بالأحرى ما تبقى منها, المتآكلة والمتفتتة هي الأخرى لا تملك ترف تكرار سيناريوهات التغيير بالقوة التي لا تزال توابعها الزلزالية تهز بلداناً أكثر تماسكاً ورسوخاً, كما لا نملك ترف الوقت انتظاراً لتجريب سيناريوهات المناورات القصيرة النظر وتكتيكات شراء الوقت لإطالة عمر النظام, كما أن السودان قد اصابه الإعياء تماماً ولم يعد قادراً على تحمل المزيد من الحروب الدونكشوتية باسم الدين في مواجهة كفار لا وجود لهم إلا في مخيلة الحالمين بالخلود المستحيل في السلطة.
تملك السلطة إن أرادت تحمل المسؤولية الأخلاقية والوطنية أن تجعل خروج السودان من هذا المأزق المأساوي غير المسبوق ممكناً, وتعرف جيداً ما هو السبيل إلى ذلك, الإحتكام إلى قواعد لعبة جديدة للسلطة نظيفة بلا تلاعب, فالسودان ليس ملكاً للسلطة الحاكمة ولا للمعارضين الذين ينازعونها, السودان ملكاً لشعبه, أعيدوا الأمانة إلى أهلها ليختار الشعب بكامل حريته نظامه السياسي, لا يتذاكى عليه أحد بديمقراطية "مضروبة" ولا يتسلط عليه أحد بأية دعوة ولا يتحايل على ذلك بأية ذريعة, "ولات ساعة مندم".   
نقلا من صحيفة إيلاف السودانية
الاربعاء 9 يناير 2013



 

آراء