ركـائـز
ahmadkaruri@ymail.com
السودان الذي توحد قبل الاستقلال ليطرد المستعمر ويمنعه من نهب خيرات البلاد ، لم يعمل حينها أو ربما لم ينتبه لبذور الفتنة التي زرعها ذلك (المستخرب) على أصعدة مختلفة مركزاً على جنوب السودان (المناطق القفولة) ، وبالفعل وقبل أشهر معدودة من الاستقلال خرج الولاء الجهوي بوجهه القبيح من جنوب السودان حينئذٍ فيما يسمى بتمرد توريت حيث خرجت القبائل الجنوبية على الاجماع . ولم تستطع جميع الحكومات المتعاقبة من إنهاء التداعيات لتلك البذور الخبيثة وبروزها الأول . حتى المحاولة الأخيرة في 2005م (اتفاقية السلام الشامل) لم تنجح لكنها كانت الخطوة الأهم في تاريخ تلك البذور التي حملتها الرياح لمختلف الاتجاهات الجغرافية، حتي 9 آغسطس 2011م حيث الاعتراف بقوة وهيمنة هذه الولاءات الإثنية البغيضة( انفصال الجنوب ) .
هذا التناحر الإثني الذي اختلفت أشكاله نما في أطراف البلاد ، للأسف سعت جماعات داخل البلاد وخارجها للإستفادة منه ، ببساطة من أجل مصالح محددة أو لعلاج وضع معين من وجهة نظر ضيقة غاضين الطرف عن كل ما يمكن أن تفجره تلك الحالات المحدودة من أوضاع قد تدمر كل البلاد وتنأي بها عن التطور والتنمية المتكاملة والمستدامة وتقض مضاجع الناس وتقتل وتشرد الآلاف وتحرم آلاف أو ملايين الأطفال من حق العيش الكريم والتعلم والأمل في المستقبل وبالتالى بناء اجيال سليمة متعافية من هذا الداء العضال .
لا شك أن الاختلاف له أشكال ايجابية ويسهم في تطور الحضارات ، فهو مقبول لكن بتقنين يحفظ المجتمع من التفلت المدمر وبإدارة استراتيجية لهذه الإثنيات بحيث تثري الساحة السودانية وتساهم في تشكيل ثقافة جامعة متنوعة وغنية بتراث جامع يدفع بإنسان البلاد للأمام مستصحباً تاريخ ثري بالتجارب الانسانية والتنوع الايجابي فيكون عاملاً لترقية حضارة أكبر من الحضارات والثقافات المتنوعة السابقة ، كما أن الكثير من الولاءات العقيمة السابقة كما ذكر بروفيسور عمر الزاكي اختلطت وتمازجت وتحولت بشكل بطيئ في الثقافات والأنساب وهي الأسباب الحقيقية لنهاية ممالك سابقة كدنقلا وسوبا ومروى قبلهما . وظهرت أشكال جديدة ذات خصائص سلوكية مشتركة جمَّعتنا وجعلت تجمعنا برغم اختلاف أساسه بمختلف موروثاته الدينية والجهوية ممكناً بل وميّز أهل السودان بتجمع غني تحت سقف وطن واحد .
فالمخطوطات والمرجعيات التاريخية للممالك السنارية والكرمية والمروية والمهدية ملك للجميع والكل يفتخر بها ، هي تاريخ يجمع جميع أهل السودان . لكن ما نخطه الآن سيكون تاريخاً يتقزز منه الأجيال القادمة وربما يجتهدون لمحوه أو وصفة بالفترة السوداء في تاريخ السودان الإثني .
الكثير من الحكومات على المستوى الاقليمي سعت للسيطرة على دولها بفرض الولاءات لتمكين الحكم عبر جهات ضيقة ، لكنها بذلك ساهمت بشكل كبير في توسيع دائرة رقعة تلك البذور الخبيثة لتنتشر أكثر فأكثر .. ولا يخفى على أحد ما أحدثته الجهويات والقبليات وسيطرة الاثنيات على عقول الحكام والمحكومين وما نتج عن ذلك من تراجع في مختلف الأصعدة ، والمؤسف هنا أن هذه الأفكار والتصرفات صارت كالماء يجري بين الأيدي لا يقدر أحد على السيطرة عليه بعد أن تمكنت في مفاصل الدولة السودانية ، وظهرت جميع أشكال القبح لهذه الولاءات ، فالقبلية برزت في العلن حتى وصل بالبعض لإصدار بيانات توجه من خلالها لتمكين أفراد قبيلة معينة لتنصيبهم في مراكز مختلفة وغيرها كثير ، كما برزت الجهويات حيث اتجهت بعض المناطق لتحديد مصالحها دون اعتبار للمصلحة الوطنية ودون اعتبار لما قد يحدثه ذلك من ضرر على المصالح العامة. ومع ظهور تلك الأشكال الغريبة لم يكن بالغريب أن تبرز أشكال متطورة أو أطوار جديدة لا يعرفها المجتمع حيث بدأت تظهر أطوار قد تدفع بالمجتمع لأضرار أكبر .
ويكون الشخص في عمله واجتماعياته وحتى اهتماماته معتمداً تماماً على تلك الولاءات الضيقة ، ففي قبيلته أو منطقته أو المجموعة المعينة يفكر ويتحرك لا يلقى بالاً البته للمصلحة العامة أو الاسم الذي صار غريباً ومرفوضاً وهو مصلحة الوطن ، وكلمة الوطنية والتي تعني الانتماء للوطن كله صارت محل استهزاء عند بعض الجماعات والأفراد.
لذا وجب العمل وبسرعة لوضع وتنفيذ استراتيجية تعيد القومية السودانية الجامعة وتدعيم ذلك بفرض قوانين تؤسَس على احترام المفهوم الحقيقي للحقوق المدنية ودعم المنظمات الوطنية لتوسيع دائرة الوعي بأهمية هذه القضية التي قد تقطع هذا البلد إلى أشلاء لا تظهر حتى على الخريطة.
هذا المرض المستعصي لن يقف عند حد معين ، فلا شك في نظري أنه سيتمدد ويستشري في جسد الأمة والقبيلة فيفتتها إلى أجزاء ثم بيوت فيعود بنا الحال لأول بدايات الحضارة الانسانية ، فبينما يتجه كل العالم للتوحد نتجه بكل بساطة إلى أعماق التخلف وهاوية الروابط الانسانية البدائية التي تلغي كل ما يجمع الناس لخير الناس.