الحزب الشيوعي في السودان .. الجزء الثالث (1971 – 1946) .. عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 


The Communist party in the Sudan (1946- 1971) - 3

Haim Shaked, Esther Souery & Gabeiel Warburg حاييم شاكد وايثثر سوري وجبريل واربورج

عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

*************          **********
هذا هو الجزء الثالث والأخير من عرض مختصر  لفصل في كتاب نشرته دار نشر الجامعات الإسرائيلية عام 1974م  بعنوان "الإتحاد السوفيتي والشرق الأوسط" The Soviet Union and the Middle East بقلم ثلاثة كتاب أشهرهم البروفيسور جبريل واربوج (والذي عرضنا من قبل لمقالته عن العلاقات بين السودانيين في الشمال والجنوب من وجهة نظر بعض الأدباء المنشور في كتاب Historical Discord in the Nile Valley). يلخص الكتاب (ربما للقاريء الغربي أساسا) قصة قيام الحزب الشيوعي في السودان منذ منتصف الأربعينات حتى انقلاب 19 يوليو 1971م.
الحزب الشيوعي ونظام نميري:
يمثل انقلاب نميري مرحلة جديدة، بل حاسمة، في تاريخ الحزب الشيوعي. ففي خلال الأعوام 1964 – 1969م  (وخاصة بعد انتخابات مايو 1965م) كان الحزب الشيوعي قليل الخطر والتأثير والأهمية في المشهد السياسي السوداني. بيد أن انقلاب 1969م دفع بالحزب الشيوعي إلى مقدمة الحراك السياسي، ومنحه قوة ونفوذا تفوق وبكثير قوته الحقيقية.
كان نظام النميري ومنذ نجاح انقلابه في 25 مايو 1969م  وإلى ما بعد الانقلاب الشيوعي عليه مباشرة في 19 يوليو 1971م  يصارع عاملين مهمين في السياسة السودانية الشمالية هما: القوى التقليدية من جهة، واليسار المتطرف من جهة أخرى، لا يعلم تماما من من الطرفين هو من كان سببا في التعجيل بقيام ذلك الانقلاب. كانت قيادة نميري لمجلس قيادة الانقلاب، وتركيبة مجلس قيادة ذلك الانقلاب (والمكونة من ضباط جيش ومدني وحيد هو بابكر عوض الله) تشي بمن هو الطرف الأقوى في ذلك التحالف بين العسكريين والمدنيين.
ما من شك في أن نميري كان يدرك منذ البداية حاجته لتأييد الشيوعيين واليساريين لكبح جماح القوى اليمينية التقليدية والقوى المتعاطفة مع الغرب عموما، خاصة وأن لهم نفوذا واسعا في أوساط النقابات وصفوة المثقفين والطلاب، وأيضا لأن كثيرا من صغار ضباط الجيش كانوا من اليساريين، وقليل منهم قد يكونوا من المنتمين تنظيميا للحزب الشيوعي. كان نميري يعي أيضا حاجة نظام مايو الجديد لخبرة ومهارة قيادات الحزب الشيوعي المخضرمين. أضاف المؤلفون أيضا قولا جديدا ربما لم يسبقهم عليه أحد من أن نميري لم يتعاون مع الشيوعيين إلا لعلمه بأنهم في حقيقة الأمر ضعفاء لا يشكلون أي تهديد حقيقي له.
في أول بيان لقائد الانقلاب المايوي تم إعلان السودان جمهورية ديمقراطية، ستعمل على المستوى الخارجي على دعم حركات التحرر في كفاحها للامبريالية وستمد يد التعاون العسكري والاقتصادي والثقافي للدول العربية والأفريقية التقدمية، وتؤيد كفاح الشعب الفلسطيني. أما داخليا فستعمل مايو على تنمية البلاد وحل مشكلة الجنوب على أساس الحكم الذاتي، وستقيم حزبا واحدا يتكون تحالف للعمال والزراع والجنود والرأسمالية الوطنية والمثقفين الوطنيين. كان ذلك البرنامج يطابق في كثير من تفاصيله ما ورد في برنامج الحزب الشيوعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي الصادر في عام 1966م.
يجب ملاحظة أن الحزب الشيوعي كان عند قيام انقلاب مايو في مايو 1969م قد تعرض للانشقاق منذ سنوات طويلة نسبيا (لعل الكتاب يشيرون للانقسام الذي حدث في صيف عام 1964م وخرج فيه من الحزب "جناح صيني" بقيادة أحمد شامى، ويوسف عبدالمجيد وعلى عمر) ومن المهم أيضا النظر بعناية لسلوك قادة ذلك الحزب تجاه النظام الانقلابي الجديد وللمناقشات الواسعة التي جرت في أروقته بخصوص تأييد الانقلاب والتكامل معه بعيد وقوعه. تنازعت الحزب رؤيتان، تتعلق إحداهما بنظرة الحزب الشيوعية لفكرة الانقلابات العسكرية، والأخرى بخصوص الاستفادة من الانقلاب والتعاون معه للحصول على مراكز في إدارة الدولة لم تكن ميسرة بالطرق الديمقراطية العادية. لذا فإن تحالفا "غير مقدس" قد نشأ بين مركزين سياسيين وقوتين غير متجانستين هما النظام العسكري واليساريين، وكل منهما يتربص بالآخر، ويؤمل في الاستفادة (وحده) من ذلك التحالف من أجل مصالحه الخاصة. بيد أن قادة النظام العسكري كانت بيدهم القوة، ولم يكن يعتمدون على سند الشيوعيين فقط ، بينما كان الشيوعيون يعتمدون على النية الحسنة (goodwill) عند العسكر.
كان وضع الحزب الشيوعي عشية الانقلاب المايوي جيدا، إذ كان أربعة من أعضاء مجلس قيادة الثورة العشرة إما أعضاء في الحزب الشيوعي أو من اليساريين. لم يستثن الحزب الشيوعي من الحل مع بقية الأحزاب الأخرى عقب انقلاب مايو، وكان بعض الوزراء في أول وزارة مايوية من أنصار عبد الخالق  محجوب (مثل جوزيف قرنق) بينما كان هنالك ممن هم ضده مثل فاروق أبو عيسى ومكاوي مصطفى.
حاول نميري في 30 مايو 1969م (أي بعد أقل من أسبوع من الانقلاب) فض أي ارتباط مفترض عند الناس بين انقلابه والحزب الشيوعي، وأن يمحو من الأذهان أي صلة ايديولوجية بين انقلابه والشيوعية فأكد أن "ثورتنا" نبعت من آمال وتطلعات الجماهير... و أنه لن تكون هنالك حكومة شيوعية في السودان...و أن كل الوزراء قد تم اختيارهم على أساس التعليم والكفاءة والخبرة والالتزام بخدمة مصالح الجماهير دون كبير اعتبار لتوجهاتهم السياسية أو لانتمائهم الحزبي. لا عجب إذن إن عبر عبد الخالق محجوب زعيم الحزب الشيوعي عن تأييده لانقلاب مايو بعبارات مترددة ملتبسة. ففي مقابلة له مع المجلة الروسية الأسبوعيةza Ruberzhom    يوم 11/8/1969م صرح عبد الخالق بأن..." الشيوعيون يؤمنون بأن الحكومة الحالية حكومة تقدمية، وأن حركة 25 مايو قد خلقت أفضل الظروف لمواصلة النضال الجماهيري لتحقيق مهام الثورة الوطنية الديمقراطية. لذا فإن الحزب الشيوعي السوداني يؤيد بصدق وإخلاص سياسية الحكومة الجديدة... حزبنا يناضل تحت هذه الظروف الجديدة لتوسيع (قاعدة) الحركة الجماهيرية الديمقراطية، ولمنح الجماهير حقوقها السياسية، وحل مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية العالقة." وكان عبد الخالق قد صرح في مناسبة أخرى قبل ذلك (تحديدا في يوم 3/8/1969م) لصحيفة "السودان الجديد" بأن "انجاز مهمة تقوية السلطة التقدمية تتطلب مزيدا من العنف الثوري."
يونيو 1969م – نوفمبر 1970م: إعادة انتشار القوات:
اشتعل الصراع (الخفي والعلني) على السلطة بين القوى العسكرية والمدنية التي كانت تتولي إدارة البلاد باستخدام مختلف أنواع التكتيكات، ولم تسلم من هذه الصراعات حتى الدائرة الضيقة للمقربين من نميري. كان فريق من هؤلاء يرى الاستفادة من التفاف الشيوعيين واليساريين حول النظام لتقويته وحمايته، بينما كان فريق آخر يتخوف من "سرقة" الشيوعيين للسلطة والانفراد بها. وأنقسم الحزب الشيوعي نفسه لجناحين، أحدهما بزعامة عبد الخالق محجوب، وهو جناح يطالب بالحفاظ على هوية الحزب وكينونته وأيدلوجيته واستقلاليه، بينما كان الجناح الآخر برئاسة أحمد سليمان ومعاوية إبراهيم سورج، ينادي بالتكامل مع إدارة النظام، واستخدامه كقاعدة انطلاق لتمتين الحركة الشيوعية في داخل الدولة. وضح مدى هذا الصراع وأبعاده في أحداث كثيرة جرت في الفترة ما بين يونيو 1969م ونوفمبر 1970م ذكر المؤلفون منها:
(أ)  عين مجلس قيادة الثورة في 9/6/1969م عددا من الوزراء الجدد في الوزارة، كان منهم جوزيف قرنق كوزير لشؤون الجنوب. وجوزيف قرنق هو أحد الشيوعيين الجنوبيين ومن أنصار جناح عبد الخالق محجوب. فيما عدا جوزيف كان بقية الوزراء الجدد من المحسوبين على الوسط أو يمين الوسط.
(ب) صرح رئيس الوزراء بابكر عوض الله (في أثناء زيارة له لألمانيا الشرقية في أكتوبر 1969م) بأن "ثورة مايو لن تسير بغير الشيوعيين". أثارت تلك التصريحات لغطا وتفاعلات متباينة في أوساط الناس. عجل مجلس قيادة الثورة بالرد المفحم على تلك التصريحات بنفي اعتماد "الثورة" على فصيل بعينه. يعزي المؤلفون مقالة بابكر عوض الله عن الشيوعيين إلى قيام عدة مظاهرات معادية للشيوعيين في عطبرة (في يوليو 1969م) والخرطوم (في أكتوبر 1969م)، وإلى العداء الذي بدأ يظهر في الأفق بين مؤيدي مايو لتزايد نفوذ الشيوعيين في السلطة وعلو صوتهم. وفي هذا الجانب أشار المؤلفون في ثبت المراجع (وعددها 119 مرجعا) إلى ندوة سياسية لعبد الخالق محجوب في أكتوبر 1969م دافع فيها عن الشيوعيين ضد ما يتعرضون له من هجوم من القوى الأخرى المؤيدة لمايو. عقب تصريحات بابكر عوض الله أجرى مجلس قيادة الثورة في 29/10/1969م تعديلا وزاريا آخر عين بموجبه نميري رئيسا للوزارة (بديلا لبابكر عوض الله)، وعين الأخير نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للعدل، وللخارجية أيضا. دخل الوزارة هذه المرة أحمد سليمان (الزعيم الشيوعي المناوئ لعبد الخالق محجوب) كوزير للاقتصاد والتجارة الخارجية، وهاشم العطا كوزير للثروة الحيوانية. لعل المقصود من تلك التعديلات هو "تحييد" تأثير بابكر عوض الله (المدني) وتقوية القبضة العسكرية على السلطة، وتقوية الجناح  الشيوعي المناوئ لعبد الخالق محجوب. من التعيينات المهمة جدا في ذلك التعديل الوزاري (والتي ستثبت ما جرى من أحداث فيما بعد أهميتها) هو تعين عضو مجلس قيادة الثورة خالد حسن عباس كوزير للدفاع. يرى المؤلفون أن مجريات الأحداث تفيد بأن الدائرة المحيطة بنميري في تلك الأيام، ورغم إدراكها لتكتيكات الشيوعيين ومراميها، كانت ترى أن العدو الأول لنظام مايو ما زال هو القوى التقليدية، وليس قوى اليسار.
(ج) تميزت الفترة بين أكتوبر 1969 ونوفمبر 1970م  بصراعات حادة بين الحزب الشيوعي (جناح عبد الخالق محجوب) ودائرة نميري الحاكمة. كان أساس ذلك الصراع ايدلوجيا ومبدئيا، ولكنه ظهر أيضا في الاختلاف حول كثير من السياسيات الداخلية (مثل معارضة انشاء الاتحاد الاشتراكي السوداني في يناير 1970م) والخارجية (مثل معارضة الاتحاد المقترح مع مصر وليبيا). بلغت تلك الخلافات ذروتها حين أعتقل عبد الخالق محجوب في منتصف أبريل 1970م ونفي إلى القاهرة (في نفس طائرة الزعيم اليميني المعارض المنفي الصادق المهدي)، وكان ذلك بعد أسابيع قليلة من هزيمة قوات الحكومة للأنصار في مارس 1970م. مما لا شك فيه أن نفي عبد الخالق خارج البلاد كان تقوية للحزب الشيوعي الممالئ للسلطة المايوية  (جناح أحمد سليمان ومعاوية إبراهيم)، بيد أنه لم يخفف من التوتر والصراع بين دائرة نميري والحزب الشيوعي.
يمكن تذكر تسلسل الأحداث التي تمثل "إعادة انتشار القوات" بعد هزيمة الحكومة عسكريا للأنصار في مارس 1970م كما يلي: تأخير إصدار "الميثاق الوطني"، وعمليات التأميم والمصادرة لعدد من الشركات في 25 مايو 1970م، والإعلان عن محاولة انقلابية في يوليو 1970م زعم أن عبد الخالق كان يؤيدها، وتعديل وزاري في 21 يوليو 1970م، وأخيرا عودة عبد الخالق محجوب للسودان في ذات الشهر. عقد الحزب الشيوعي في أغسطس من ذلك العام مؤتمره لمناقشة مستقبل علاقته بالسلطة الحاكمة. قرر الحزب في ذلك المؤتمر عدم حل نفسه (منتصرا لرأي عبد الخالق). حاول الحزب الشيوعي السوفيتي التوسط بين الحزب الشيوعي السوداني والسلطة الحاكمة فأوفد للخرطوم عضو المكتب السياسي بولانسكي Poliansky في أكتوبر 1970م (لعل المقصود هو Dimitry Polyansky  وقد كان عضوا في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي بين عامي 1960 – 1976م) للتخفيف من حدة الصراع ومنع وصوله لنقطة اللاعودة.
نوفمبر 1970م – يوليو 1971م: من علاقة التوتر إلى الصراع
كان الشهر التالي، شهر نوفمبر 1970م، شهرا حاسما في العلاقات بين نظام نميري والحزب الشيوعي. ففي يوم 16/11/1970م عزل مجلس قيادة الثورة ثلاثة من أعضائه (أعدموا بعد نحو عام بعيد انقلاب 19 يوليو 1971م) هم الرائد فاروق حمد الله والمقدم بابكر النور والرائد هاشم العطا، وأمر بحبسهم في منازلهم (لعل هذا بحسب أحد الخبراء بتاريخ تلك الفترة ليس صحيحا. كاتب المقال). عين المجلس رئيسه نميري وأثنين آخرين من أعضائه كوزراء في المناصب الوزارية التي كان يشغلها الثلاثة المفصولين، فتولى نميري وزارة التخطيط بدلا عن المقدم بابكر النور، ودخل كل من تبقى في مجلس قيادة الثورة مجلس الوزراء. صاحبت ذلك حملة تطهير شاملة في صفوف القوات المسلحة، واعتقال لعدد من قادة الحزب الشيوعي (وشمل ذلك عبد الخالق محجوب، والذي كان رهن الاعتقال المنزلي منذ عودته من منفاه في القاهرة). ذكر نميري أن من أسباب عزل الضباط الثلاثة هو تعاونهم مع "عناصر تدعي التقدمية، ولكنها تقف عائقة في طريق الثورة وتحاول وإضعافها" وقال في مناسبة أخرى إن هؤلاء "لم يلتزموا بما توافقنا عليه بالعمل من داخل مجلس قيادة الثورة فقط، وليس من خارجه، وكانوا يسربون أخبار المجلس ومداولاته لخارجه...وكانوا يعملون بوحي من توجيهات عبد الخالق محجوب، والذي سيطر عليهم بأفكاره الهدامة وغذاهم بنواياه، وهدفه النهائي هو الاستيلاء على السلطة."
بحسب رأي المؤلفين فقد ساعدت عوامل كثيرة نميري في عزله للضباط الثلاثة، كان من بينها الثقة التي وفرتها له الهزيمة الماحقة التي ألحقها بالأنصار في مارس 1970م، والضغوط التي مارسها عليه زملائه في المجلس من غير الشيوعيين (مثل خالد حسن عباس)، ولثقته أن مصر وليبيا ستساعدانه في حالة حدوث صراع داخلي في البلاد.
أعقب عزل الضباط الثلاثة موجة احتجاجات في أوساط الطلاب اليساريين في جامعة القاهرة الفرع، حيث وقعت صدامات عنيفة بينهم وبين معارضيهم، بينما أصدر الحزب الشيوعي في ذات اليوم (16/11/1970م) بيانا ندد فيه بما جرى وطالب بإعادة الضباط المعزولين لمناصبهم السابقة وكل "الضباط الأحرار" الذين تم فصلهم من الخدمة العسكرية، وطالبوا بإطلاق سراح عبد الخالق محجوب زعيم الحزب.
رد نميري على بيانات الشيوعيين واحتجاجاتهم بخطاب حاسم في يوم 12/2/1971م هاجم فيه الشيوعيين هجوما كاسحا وانتقدهم نقدا لاذعا، وختم خطابه بالتأكيد على أنه "لن يكون هنالك مكانا للشيوعيين في الثورة السودانية" وأعاد وكرر مقولة أن الثورة هي لكل الجماهير، وأن من يقف في طريقها سيعزل فورا، بل وطالب كل أفراد الشعب السوداني بالقضاء على كل من يزعم بأن هنالك شيء اسمه الحزب الشيوعي السوداني، وشن بعد ذلك حملة شاملة للقضاء على قواعد ذلك الحزب، وعلى كل من يشتبه بتعاطفه مع الحزب في الخدمة المدنية والجيش والشرطة (يجب ملاحظة أن نميري – وإلى ذلك التاريخ-  لم يرفع راية الإسلام كما فعل لاحقا).  فشلت محاولات الوساطة بين الشيوعيين والسلطة والتي قادها السادات (بحسب ما جاء في المجلة المصرية "كل شيء" الصادرة في 4/3/ 1971م) ووفد سوفيتي وصل الخرطوم في 24/3/ 1971م (بحسب ما ورد في جريدة النهار في 26/3/1971م). بعد عودة نميري من القاهرة في 20/ 4/ 1971م عقب حضوره لمباحثات لمناقشة الاتحاد مع مصر وليبيا ألقى خطابا  أعلن فيه أن السودان لن يشترك – حاليا- في الاتحاد المزمع بين مصر وليبيا، وأنه سينشئ حزبا جامعا هو "الاتحاد الاشتراكي السوداني"، والغى منظمة الشباب السوداني وإتحاد المرأة واتحادات الطلاب (وكل هذه المنظمات تعد شيوعية الهوى والتوجه). وفي خطابه في عيد مايو الثاني (25/5/1971م) أعاد نميري مقولة ضرورة إتحاد "القوى الوطنية" (وليس "القوى الثورية "كما ينادي الحزب الشيوعي) وطالب بتغيير القوانين والنظم الداخلية في النقابات بحيث تكون بالانتخاب العام. بدا واضحا أن نميري ينفذ خطة استراتيجية محكمة للتخلص المتدرج من الحزب الشيوعي وكل قواعد نفوذه في كل مظانها.
انقلاب 19 يوليو الفاشل وعقابيله:
أفلح عبد الخالق محجوب في الهرب من معتقله (في مصنع الذخيرة بالشجرة. كاتب المقال) في  29/6/1971م، وكان ذلك الهروب مقدمة لأحداث ستجعل من يوليو 1971م شهرا عصيبا وحاسما لنظام نميري وللحزب الشيوعي. تصادمت في الشهر قوتان تقفان على طرفي نقيض: جماعة نميري والتي لطالما حاولت صد تكتيكات الشيوعيين للاستيلاء على السلطة، والحزب الشيوعي، والذي كان يسعى لاسترداد مكانته وحظوته المفقودة. مثلت تلك المواجهة لنميري وجماعته "ثورة الشيوعيين المضادة".
نجح انقلاب 19 يوليو الشيوعي (بقيادة الضباط الثلاثة الذين عزلوا من مجلس قيادة انقلاب مايو)  دون إراقة نقطة دم واحدة، وكرر البيان الأول لذلك الانقلاب أن السودان جمهورية ديمقراطية مستقلة ستمنح الجنوب حكما ذاتيا، وستلغي كل القررات والقوانين كانت قد صدرت في عهد نميري، وتحل كل المؤسسات التي أنشأها، وستقوم بثورة صناعية وزراعية (اشتراكية)  تنمي السودان على طريق لارأسمالي. في السياسة الخارجية  أعلن البيان تأييد النظام الجديد للنضال الفلسطيني ولكل حركات التحرر العالمية، وسعيه للصداقة مع دول العالم الثالث والدول الصديقة وعلى رأسها الإتحاد السوفيتي.
قام قادة انقلاب 19 يوليو باعتقال نميري وزملائه وكذلك بعض الشيوعيين من الجناح (الاخر) مثل فاروق ابو عيسى ومعاوية إبراهيم. لعل ذلك الاعتقال كان خطأ تكتيكيا للثوار الجدد، إذ أن نميري وزملائه هربوا من معتقلهم وقاموا في 22/7/1971م بانقلاب مضاد استعادوا به السلطة (لم يذكر المؤلفون صراحة ما كان على قادة انقلاب 19 يوليو فعله بنميري وصحبه بعد اعتقالهم! كاتب المقال). يعزي المؤلفون سهولة استعادة نميري للسلطة من الشيوعيين وضعف مقاومة عودته  لضعف جذور الحزب الشيوعي في أوساط السودانيين وقلة شعبيته في أوساطهم. وخلافا للتسامح والرفق الذي أبداه قادة انقلاب 19 يوليو تجاه معتقليهم: نميري ورفاقه، أصر نميري على إعدام قادة من انقلبوا عليه (واثنان منهم كانا خارج البلاد عند قيام الانقلاب) وقادة الحزب من المدنيين مثل عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ وجوزيف قرانق. بذا خسر الحزب الشيوعي في ذلك الانقلاب (والذي لم يدم لأكثر من "ثلاثة أيام عاصفة") "زهرة قادته" ممن اتهموا بتدبيره، واختتم فصل من فصول تاريخ السودان الحديث. رغم أن محاولات عديدة قد جرت لإعادة الحياة والتنظيم للحزب إلا أن الوضع الحالي للحزب بعيد كل البعد عن ما كان عليه إبان فتوته القديمة (لعل هذا الرأي قد كتب في أو قبل عام 1974م. كاتب المقال).
سجل المؤلفون ما كتبه الصحفي المصري الأشهر محمد حسنين هيكل في "تشريح ما بعد الوفاة
post mortem analysis  " للحزب الشيوعي السوداني (وأذيع من راديو القاهرة يوم 30 /7/1971م، ومن البي بي سي يوم 2/8/1971م). (ليس في ذلك التقرير من جديد يستأهل الذكر هنا. كاتب المقال).
اختتم المؤلفون ذلك الفصل في كتاب "الإتحاد السوفيتي والشرق الأوسط" بصفحات خمس دارت حول أهم ما أتوا على ذكره في الفصل. من بين ما ذكر ملخص البحث ما يلي:
1/ ظهر الحزب الشيوعي السوداني في الخمسة وعشرين عاما من عمره (1946 – 1971م) كأقوى حزب شيوعي في العالم العربي وأكثرها تنظيما، رغم ظروف السودان الاجتماعية والسياسية (والطائفية والدينية) غير المواتية، والتي ساعدت – على عكس ما هو متوقع- على نشر الأفكار الشيوعية.
2 /كانت طبقة المثقفين (الانتلجنسيا) هي الحليف الطبيعي للحزب عند إنشائه،  وربما كان ذلك كرد فعل لسيطرة الطائفية (تحديدا الختمية والأنصار) على الحزبين الكبيرين في السودان. وللهروب من قبضة الطائفية قام الشيوعيون و"الأخوان المسلمون" بتكوين حزبيهما في 1946م.
3/ بدأ انتشار الشيوعية في السودان لأول مرة في العشرينات عن طريق بعض موظفي السكة حديد في أتبرا (بحسب ما علمت من أحد الخبراء في هذا الشأن فإن كل ما حدث  في العشرينات هو أن موظفاً واحدا فى السكك الحديدة كان يتلقى منشورات شيوعية من الخارج، وسرعان ما تم القبض عليه واعترف بنشاطه المحدود ولم يكن ثمة نشاط شيوعى منظم في تلك السنوات، كما زعم المؤلفون). بعد ذلك بسنوات طويلة ساعد  تبني قادة نقابات العمال (لأسباب ايدلوجية) للفكر الشيوعي على زيادة نفوذ وشعبية الحزب الشيوعي في أوساط العمال (حتى بين غير المنتمين للحزب) في مدن مثل الخرطوم واتبرا، ولكن نفوذ قيادات نقابات العمال من الشيوعيين  بدأ في الانحسار منذ منتصف الستينات،  ففي فبراير من عام 1965م  مثلا فشل الحزب الشيوعي فشلا ذريعا في دفع  نقابات العمال للقيام  بإضراب عام كان الدافع  من وراءه اسقاط الحكومة (الطائفية).
4/ واجهت محاولات الحزب الشيوعي للتغلغل في اتحادات المزارعين  (خاصة في الجزيرة) مصاعب فاقت المصاعب التي واجهها الحزب مع العمال، إذ أن المزراعين يعدون – وعلى وجه العموم- أكثر قطاعات المجتمع تحفظا. غير أن مشروع الجزيرة، وبتركيبته القبلية المتباينة، وبخلقه لنمط جديد من العلاقات بين المزارعين وإدارة المشروع جعل من الممكن نشوء علاقة احتكاك (وربما صراع) بين المزارعين من جهة، وإدارة المشروع (والتي تمثل الحكومة) من جهة أخرى، وهذه وضع أحسن الحزب الشيوعي استغلاله. فمثلا في بداية الخمسينات صار ذلك الحزب واحدا من أشد المدافعين عن قضايا مزارعي القطن في الجزيرة و جبال النوبة ومناطق أخرى. نجح الحزب في نهاية حكم عبود (تحديدا في يناير 1964م) في إيصال شيوعي هو الأمين محمد الأمين لقيادة اتحاد المزارعين، رغم أن اهتمام المزارعين – على وجه العموم-  بمصالحهم الاقتصادية كان أكبر من اهتمامهم بالسياسة.
5/  حاول الحزب الشيوعي، ومنذ منتصف الستينات أن يجد له موطأ قدم في الجيش (خاصة بين صفوف الضباط)، ربما لفقدانه لأي أمل في أن يصبح قوة يعتد بها في إطار الفصائل السياسية الفاعلة في السودان الديمقراطي. لعل تأييد الشيوعيين لنميري في حملته ضد الأنصار (حتى مارس 1970م ) قد أعطى الانطباع الخاطئ بأن انقلاب مايو 1969م كان من تدبير الشيوعيين، ولكن عندما أنقلب نميري على الشيوعيين قامت قواعد الحزب الشيوعي في الجيش بالانقلاب على نميري في 19 /7/1971م.
6/ قد يعزى نجاح الشيوعيين في السودان إلى وجود قيادة تتميز بالاستقلالية وبعد النظر، خلافا لما كان عليه الحال عند كثير من الأحزاب الشيوعية في العالم العربي، وهذا ما مكنه من نيل ثقة وتأييد نقابات العمال والمزارعين، وفي وسط الجيش أيضا، رغم أن الشيوعية ظلت ايديولوجية غريبة / دخيلة عند كثير من المتعاطفين مع الحزب. كذلك تميز الحزب بحسن التنظيم والمرونة السياسية، وبقدرته على التغلغل في أوساط المنظمات الأهلية وغيرها. بيد أن للمرونة السياسية التي تلامس حد الانتهازية مضارها بالطبع. وهذا ما وضخ جليا عند الخلاف بين الشيوعيين إزاء انقلاب مايو وانشطار الحزب لجناحين بينهما ما صنع الحداد.
إن أكثر ما يميز الحزب الشيوعي السوداني هو موقفه المتكيف/ المرن (flexible) مع الدين لإدراكه لأهميته في حياة المجتمع السوداني. ظلت الأحزاب الشيوعية في عدد من الدول العربية تجاهر بعدائها للدين، أو تتجاهله على أحسن الفروض، وهذا ما تجنب فعله الحزب الشيوعي السوداني. فاللجنة المركزية للحزب الشيوعي تبدأ اجتماعاتها بالصلاة وتلاوة آيات من القرآن (لم يذكر الكتاب خلافا لعادتهم مصدرا شفهيا او مكتوبا لهذه المعلومة، وسعيت لتأكيدها أو نفيها فتبين من قول لمثقف مهتم بتاريخ الحزب أن ذلك ليس صحيحا. كاتب المقال)، وتنتشر مفارش الصلاة في ساحة دار الحزب لمن يريد من الأعضاء والزوار أن يؤدي الصلاة في ميقاتها.
7/ هنالك سؤال لم يجد له إجابة شافية بعد: فيم كان يكمن سر قوة الحزب الشيوعي؟ لا يمكن الاعتداد بعدد المنتمين إلي حزب ما، بل على نوعيتهم. قد تكون قوة الحزب الشيوعي (الظاهرية) تكمن في قدرته على التنظيم، وعلى اختراق النقابات والمنظمات الأهلية والتغلغل فيها، وقد يكون أيضا انعكاسا لضعف الأحزاب الأخرى. يعتقد المؤلفون أن قوة الحزب الشيوعي قد تعزي لقدرتهم على المخاطرة واستعمال القوة (ليس بالضرورة قوتهم الذاتية!)، وأن الأدوار التي لعبها الحزب في ثورة أكتوبر 1964م الشعبية، وفي انقلابي مايو 1969م ويوليو 1971م كانت أدوارا متواضعة نسبيا لا تتناسب مع ما ينسب له من دور فاعل مهمين.
هل بالفعل تم سحق الحزب الشيوعي بعد فشل انقلاب يوليو 1971م وإعدام وسجن كبار قادته ؟ لا توجد إجابة محددة لهذا السؤال، بيد أنه يمكن الافتراض بأن من تحالفوا مع نميري من الشيوعيين وانضموا إلى الإتحاد الاشتراكي قد يكونون مركزا جديدا  لنشاط شيوعي، وقد يقوم مناصروا جناح عبد الخالق (وكثير منهم كانوا قد نجحوا في اخفاء انتمائهم الشيوعي منذ البدء) بتكوين حزب شيوعي سري يجتذب حتى المتعاطفين مع الحزب من "التقدميين" الذين خدعوا في نميري (لا يخفى خطل تنبؤات المؤلفين وإبعادهم للنجعة في تلك التوقعات التي لا تستند على حتى بصيص من دليل. كاتب المقال).
ختم المؤلفون بالقول بأنه من عدم الحكمة ومن السابق لأوانه أن يعد هذا الفصل في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني هو فصل الختام.
كتعليق عام يمكن القول بأن هذا الفصل يسرد تاريخا مختصرا للحزب الشيوعي لا يخلو – رغم صحة كثير مما جاء فيه من وقائع- من ابتسار وإخلال وتبيسط مخل، إذ يبدو وكأنه صدر على عجل عقب انقلاب 19 يوليو الفاشل (والتي لم يأتي المؤلفون لها على تحليل مفصل على أهميتها بالنسبة لتاريخ ذلك الحزب!) بصورة أضرت بقيمته وجدواه فى تناول قضية شديدة التعقيد، واكتنفتها طلاسم عصية لازالت حلقاتها، وحتى الآن، مثارا للجدل بين المهتمين بأحداث الفترة الحاسمة ومآلاتها على مسار ذلك الحزب حتى الوقت الراهن (يكفي الاستماع فقط  للشهادات المتضاربة التي وردت في "مراجعات" الطاهر ح. التوم حول حقيقة ما حدث في "دار الضيافة").  ولكن، وعلى الرغم من أن هذا الفصل يبحث في  مرحلة تخطتها الأحداث، إلا أنها بلا شك ذات فائدة عظيمة للراغبين فى رصد أحداث تلك الفترة ولتاريخ الأحزاب السودانية على وجه العموم.
من مزايا هذا الفصل في التاريخ الشيوعي في السودان أيضا ذكره لمقتطفات من مقابلات مع زعيم الحزب الشيوعي مع صحف أجنبية، وعادة ما يصرح الناس في بلادنا لوسائل الإعلام الخارجية بنا لا يبوحون به لوسائل الإعلام الداخلية. ولكن نقل المؤلفون، ودون تبصر، بعض ما جاء في كتاب فؤاد مطر "الحزب الشيوعي: نحروه أم انتحر؟" (الذي صدر عن دار النهار في أغسطس 1971م) بصورة ملتبسة عن التدين في أوساط قادة الحزب، بينما أغفل ذكر مصادر أخرى مثل كتاب "ثورة شعب" والذي أصدره الحزب الشيوعي عقب ثورة أكتوبر (رغم أن حياديته بالطبع موضع شك) وما صدر من وثائق حزبية من بعد ذلك. أعتد المؤلفون كذلك كمراجع بكثير مما جاء في الصحف السودانية والعالمية (ربما لشح مصادره)، بيد أن مصداقية بعض تلك الصحف ليست فوق الشبهات بلا ريب.
كذلك ينبغي أن نتذكر أن هذا الفصل قد صدر في عام 1974م، مما يعني أنه ربما يكون قد كتب قبل ذلك بعام أو عامين، ولم يتح للمؤلفين (لأسباب مفهومة) زيارة السودان للقاء بعض قادة أو أعضاء الحزب أو قراءة ادبيات الحزب لمعرفة المزيد عن خلفيات كثير مما كتب هنا، وعلى كل حال لم تكن الأيام أوقاتا مواتية لأي مؤرخ للبحث عن تاريخ حزب كان محظورا ومحاربا، وغالب قادته وأعضائه في حالة اختباء.
مما يلفت النظر أيضا تخبط المؤلفين في بعض المواضع، فتراهم أحيانا يضفون على الحزب الشيوعي هالة قوة تفوق بالقطع مقدراته وإمكاناته الحقيقية، وفي مواطن أخرى يقللون من شأنه ومن افتقاره للسند الجماهيري! كذلك تثير الشك بعض النقاط التي سجلها المؤلفون كحقائق، مثل حديثهم عن سعي السادات الى رأب الصدع القائم آنذاك بين نميرى والشيوعيين وذلك اعتمادا على ما جاء في مجلة "كل شيء" المصرية، إذ أن ذلك يجافي منطق الحوادث والأشياء في تلك الأيام. كذلك يجد المرء أنه من الغريب  أن علاقة الاتحاد السوفيتى بالصراع بين الشيوعيين ونظام مايو لم تجد حيزاً من التحليل كما يوحى بذلك عنوان الكتاب "الإتحاد السوفيتي والشرق الأوسط"! وكان يمكن لهذا الفصل أن يوجد في كتاب اسمه "أمريكا والشرق الأوسط" لخلوه مما ذكرنا.
ربما كان علينا الانتظار لعقود قبل أن يقوم مؤرخ غربي بمواصلة من انقطع من رصد لتاريخ هذا الحزب (وغيره من أحزابنا... التي قضت نحبها أو تلك التي تنتظر)!  
-------              ----------------              --------------           ---------------
شكر وتقدير: الشكر موصول لكل من ساهم (من محبي ومبغضي الحزب الشيوعي) في اضافة أو تصويب بعض المعلومات الواردة في هذا العرض.





badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]
//////////

 

آراء