اللطائف في ذكرى “محمود محمد طه”

 


 

 



لن ينضب معين الذكرى ، ولا النورس الذي يطّوف من فوق البحار البعيدة  يُدرك  أننا فقدنا هرماً من أهراماتنا المعرفية الناهضة في 18 يناير 1985 . كان في خاطره أن وطننا يُقبِرُ  أصحاب الرؤيا ولم يبتئس. يُعمِّر  الذين يذهبون مع التيار  في كل شيء ، ولا ترنو  بصيرتهم إلا بالقدر الخفيض من فوق تراب الأرض ، لا يصنعون شيئاً لها ، ولا ينظرون إلى أفقٍ بعيد  . لا نسائم تتوق للإنعتاق ، ولا تنظر الأبصارُ كيف تمس الأرض بالسماء في الأفق ، دون أن نسأل أنفسنا : كيف تراءى لنا أن يلتقي الذين ليس بينهم صلة، ولو في الأفق الخادع ، في حين يقُصي الأقربون بعضهم !. أنهُرٌ من الدماء غير المُبرر سفكها ، وقد أريقت . استسهل البعض أن القتال شريعة حسم الخلاف ، ونفي الأجساد يشفي غليل الذين يعتقدون أن منْ يخالف نهجهم ، يرغب زلزلة كراسي السلطة التي رغم أنف الجميع يجلسون في سُدتها . وجاء الطوفان  أسرع من كل تصورات الحالمين .
(1)
تمر ذكرى استشهاد صاحب الفِكر ، والسبّاق إلى رؤيةٍ جديدةٍ حَمَلها طوال عمره منذ أوائل الخمسينات .عبر من ضفاف الوطنية الناهضة في بواكير المقاومة إلى ما بعد الاستقلال. سابق " محمود " جيله والأسبق والجيل اللاحق  ، بأنه عاش الحياة التي أحب أن يرى بطمأنينة وسكينة مُستقرة ، مِحراث فكره يُخطط الأرض بثبات اليقين. وهب حياته لقضية أكبر من أن تكون مدفونةً في الصدور، أو مختُوم عليها  بشمع المشافهة الأحمر ، بل رأى أن تكون جهيرة لرِفعة الوعي وإعلاء الفكر بالكتابة وبالقول والخلاف السلمي والحوار . قال : "نحنُ نحتفي بالرأي المخالف لأنه يمنحنا حق التفكير  والتصحيح و الحوار بالتي هيّ أحسن "  . نظر لإسلام الدعوة الإنسانية  في وجهها المضيء .و رأى الكنوز المخبوءة في النصوص القرآنية  ، فكان التأويل حقاً على العُباد  ، قبل أن تتكون الدولة والسلطة القديمة وحاجات الدولة التي تشكلت وسط تضاريس المجتمع في الزمان والمكان . لكل زمان أهله .
(2)
كانت النصوص القرآنية الأولى نبع الهَدى للذين يريدون أن يتعرفوا المنابع الروحانية النقية  في عنفوان قوتها ، ويتمتعون بالقص القرآني وهو يحكي لهم كيف كانت  الحُمّى  تعصف بالنبي الأكرم ، حين كان يرتجف من البرد  وهو يتلقى  الوحي أول أمره . وكانت قضية " محمود " الثاني أن يتأمل في سيرة " محمود " الأول ويتتبع خطاه التي أبصرها ذهنه وهو في جلسات الصفاء ، ومدّ يديه المتبتلتين ليُتبين نسائم الأرواح  القادمة من فجر التاريخ القديم . كأنها تلقى بعضها وتستأنس. نظر رسالة الإسماح في بطون الذكر الحكيم ، وقد احتمت بأغلفتها وتشرنقت من غلظة المجتمع آنذاك، لم يتحمّل رحابتها ، تنتظر التّوق ومقدم الذين يقرءون بإرادتهم الحرة  ويعيشون حياتهم الحُرة  ، و يعيشون إنسانيتهم التي ابتنتها  بيوت الصبر على المكاره لتجعل لهم الخيار .
(3)
طلّق " محمود الثاني "حياةً موعودة بالراحة لجيل المتعلمين في زمان ما قبل " السودنة " ، وأعاد مسيرته واختار الطريق الوعِر ، في مجارٍ  غير طبيعية ولاقى المشقة والعنت وهو يدخل آكامها والأدغال. وقف من الحياة  موقفاً متجدداً ، ورأى العقيدة بمرآة المتأمِل ، وتفتحت  أوراق رؤاه وأزهرت  .وبالعمل  ارتقى سلماً بعد أن شفّت روحه وأفصح عما في صدره. في حين  يتخوف معظم المتصوفة من البوح بأسرار العقيدة التي تبدو كأنها تُخالف الدين ، فيسوء  فهم العامة  من الناس ويظنون الظنون : {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ }الأنعام 116، فيقول العُبّاد:
( إنه في مثل تلك المقامات  العالية ،لا يكتُب العارفون عن العلم الذي أخذوه بالصبر واليقين والعمل ، وقد صارت الأذهان لاقطة تنتظر الاستقبال ، و أوراقها بيضاء تنتظر القلم المُضيء ليكتب عليها  ).
يبدو أن تلك الكشوف المعرفية ، أضاءت له الطريق حين عاش حياة الذين رغبوا عن الحياة  إلا بما يقيم الأودّ ، ويسُد الحاجة .أكثر هو من الصيام الصمدي والقيام . وصل قلبه بصاحب الوقت مُتأملاً في بدائعه التي رأى في الكون وفي نفسه :{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ }الذاريات21 . وجاءته الرؤيا التي تمنَّعت على غيره من السابحين في سطح العقيدة ، من الذين تقفوا نصوص المجتهدين الأوائل دون إعمالٍ للذهن . وشتان ما بين الفكر والإتباع . كان هو في المكان والزمان سابقاً لمعاصريه. غطس في لجة البحر الكبير وشاهد ما لم نُشاهده ، رغم أن النص القرآني دائماً بين أيدي الجميع يقرءون منه خمس مرات في اليوم ولم يتعرفوا على البواطن من الكلم الحقيق بمعرفته . ولكنها فتوح في التأويل تيسرت بإذن واحد أحد . تحسس هو في قمة الوّجد مناجياً ربه ، وقرأ من الذكر الحكيم حتى فُتحت له المغالق ، مثل التي تحدث عنها  بإيجاز " أبو حامد الغزالي " وهو يحكي قصة  عُشرته  المتصوفة ، وكيف عاش  بينهم سنوات  ، ولذَّ له شرابهم من المعرفة عن طريق العمل  .
(4)
كنتُ لما أزل أنتظر الوقت المناسب  للكتابة عن المعرفة المُتنازع  عليها ، والمتفرِّق دمُها بين العقائد وعلوم النفس البشرية وعلوم وظائف الأدمغة للتعريف بمصطلح " العلم اللدُني " والدخول في لُججه، ذاك الليل الذي أرخي سدوله إلا من الأرواح التي تُحب .ولم أبدأ بعد ،لصعوبة الطريق وقلة الحيلة في زمان لم يعُد للمرء زمنه الصافي للخلوة إلى النفس  .فالمتصوفة في كل عصور التاريخ ، بمختلف مشاربهم عرفوا كيف يَصَلون المّراقي باستقبال الرؤى الكثيفة بأذهانهم  عند  جلسات الصفاء والكدح إلى رب العزة آملين أن  يلاقوه :{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ }الانشقاق6 . لذا كان الشهيد " محمود " ينثر زهراته اليقينية على عتبات كل المداخل الغامضة ويفصح عنها ولا يُدركها  أصحاب الظاهر ، فيوجز عن " العلم اللدُني " إضاءاتٍ متفرقة فيما كتب . و هو القارئ للأحاديث النبوية  التي يُوردها ،و لا يذكر مصدراً لها ، ولا يعتدّ بمصابيح المراجع وأسانيد الأقدمين ، بل ينظر بالذهن المُتّقد ، والمصباح المُضيء في قلبه. و من ثم يعرض ما اشتجر في نفسه  على الأنوار القرآنية ليقيم الدليل على صدق النقل عن حبيبنا  المصطفى  صلوات الله وسلامه عليه.
قبسٌ من الحياة الفكرية  ،عصيّة  هيّ على أفهام العامة، بل وعصيًة على كثير من المتفيقهين .
المراجع :
|1| : مجموعة رسائل الإمام "أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي "،المنقذ من الضلال ، الأحاديث القدسية ، قانون التأويل ،التقديم والحواشي : أحمد شمس الدين ، دار الكتب العلمية بيروت ، 1997 .
|2| لمحات من سيرة الأستاذ محمود محمد طه، مدونة الفكرة الجمهورية  : http://www.alfikra.org/

17/01/ 2013

abdallashiglini@hotmail.com
///////////////

 

آراء