إشكالية مفهوم الدولة في السودان
صديق محيسي
15 July, 2013
15 July, 2013
يتفق علماء السياسة علي تسمية الدولة بأنها مساحة من الأرض يسكن فيها جماعة من الناس تجمعهم روابط جغرافية وثقافية مشتركة لتتحول بعد ذلك الي منظومة قوانين وتشريعات تنظم حياة الجماعة وتعود عليهم بالفائدة وفي مقدمة هذه الفوائد الحرية ,والأمن ,والصحة ,والتعليم , وتدخل فى الحرية اعتناق الدين والتعبير عن الرأي والتنقل , وفي الصحة توفير العلاج للجميع دون تفرقة ,وفي التعليم إشاعته كالماء والهواء , ومن اهم وظائف الدولة انها تحافظ وتحمي كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن القومية والدين والفكر 1.
ثمة عدة مبادئ ينبغي توافرها في الدولة المدنية والتي إن نقص أحدها فلا تتحقق شروط تلك الدولة أهمها أن تقوم تلك الدولة على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، بحيث أنها تضمن حقوق جميع المواطنين ومن أهم مبادئ الدولة المدنية ألا يخضع أي فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر. فهناك دوما سلطة عليا هي سلطة الدولة والتي يلجأ إليها الأفراد عندما يتم انتهاك حقوقهم أو تهدد بالانتهاك. فالدولة هي التي تطبق القانون وتمنع الأطراف من أن يطبقوا أشكال العقاب المختلفة2 ومن أهم مبادئ الدولة المدنية أنها لا تتأسس بخلط الدين بالسياسة. كما أنها لا تعادي الدين أو ترفضه فرغم أن الدين يظل في الدولة المدنية عاملا في بناء الأخلاق وخلق الطاقة للعمل والإنجاز والتقدم. حيث أن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، فذلك يتنافى مع مبدأ التعدد الذي تقوم عليه الدولة المدنية، كما أن هذا الأمر قد يعتبر من أهم العوامل التي تحول الدين إلى موضوع خلافي وجدلي وإلى تفسيرات قد تبعده عن عالم القداسة وتدخل به إلى عالم المصالح الدنيوية الضيقة. 2
" كما يصبح مفهوم دولة إسلامية " تستعيد ألق الخلافة الإسلامية، الراشدية ونضارتها وعن دولة اشتراكية تقوم على دكتاتورية البروليتاريا الثورية، وتقضي على البورجوازية وعلى استغلال الإنسان للإنسان. وعن دولة اشتراكية تقوم على دكتاتورية البروليتاريا الثورية، وتقضي على البورجوازية وعلى استغلال الإنسان للإنسان " 3 ودولة عسكرية اسبارطية كدولة عبود لم يكن سوي خطوات الي الوراء اخّرت إنتاج الدولة الوطنية الحديثة وتلك قضية تعكس إنعدام الخيال السياسي لكل النخب السياسية التي حكمت السودان واخرها دولة الإسلاميون السودانية التي فشلت في تحقيق شعارها فاختارت ان تكون دولة للصفوة , او الجماعة , او العصبة التي انتهت الي دولة القبيلة ,وتلك ردة لم يشهدها السودان خلال المراحل التي اشرنا اليها
هذه المقدمة في التعريف المبسط للدولة تأخذنا مباشرة الي السودان وتطرح أمامنا سؤالا تاريخيا وملحا ,وهو هل توافرت هذه الشروط والعناصر في الدولة الوطنية السودانية منذ سنوات ما بعد الاستقلال وتحديدا خلال الفترات الديمقراطية التي حكمت فيها الاحزاب السياسية البلاد , ؟ وهل توافرت كذلك في ثلاثة أنظمة عسكرية جاءت السلطة عن طريق القوة ,وكان أخرها إنقلاب الإسلامويين بزعامة الجبهة القومية الاسلامية والذي مضي عليه حتى الان اربعة وعشرون عاما .
للأجابة علي السؤال في شقه الأول نري إن السودان لم يشهد قط بزوغ الدولة المدنية الديمقراطية الكاملة بالشروط العلمية التي ورد ذكرها , وكان هذا هو الحال ولايزال مستمرا وظل مرتبطا بمفهوم الأحزاب السياسية لهذه الدولة وهو مفهوم غريب مختل وقاصر, فالحزبين التقليديين وفق تركيبتيهما الدينية التاريخية ينظران الي الدولة وان لم يصرحا صراحة بأنها ملكية خاصة لهما حتي ولو وصلا الي السلطة عن طريق صندوق الأنتخابات , فهي في الذهن الحزبي هي التي تسخر اولا لمصالح اسرة زعيم الحزب وطائفة الحزب خصوصا تجارالحزب مكافئة لهم علي دورهم في تمويل الحزب , هو فساد لا تخطئه عين, ونعيد الي الأذهان هنا أنه بعد إنقلاب مايو69 المحاكمات التي جرت في أعقابه , وكانت معظمها ضد وزارء ومسئولون حزبيون مارسوا فسادا مكشوفا باحتكار أزلامهم للرخص التجارية الكبرى إستيرادا وتصديرأ خارج القنوات القانونية , بل إن هذا الصراع كان يصل أحيانا الي درجة رفض الإئتلاف كله قبل قوعة , أو فضه بعد حدوثة أذا لم يتفق الطرفان علي هذه (المكاسب ),وهي حالة تؤكد علي تغليب مصلحة فئة قليلة من الناس علي مصلحة كل الناس , بل ان مسئولا كبيرا في حزب الأمة أعلن صراحة من جهاز التلفزيون بعد إنتفاضة أبريل 85 بملكية حزبه لكل السودان "البلد بلدنا ونحن اسيادها "وليس الدولة فقط , ولايزال هذا المفهوم يسيطر باطنيا علي الصادق المهدي من منطلق وراثي هو الحركة المهدية وكذا ينسحب الأمر علي السيد محمد عثمان الميرغني عبر حزبه الذي يعتبره ملكية خاصة به وعليه ينظر الي الدولة السودانية جغرافيا وسياسيا من منظور الحيازة المطلقة ويختلف المهدي عن الميرغني ان الأول يتحدث دائما عن الديمقراطية وحتي وان لم يمارسها بينما الثاني يعتبرها كفرا بينا يعاقب المنادين بها عقابا شديدا غالبا ما يكون التحنيط أو النفي الأبدي الي جزر النسيان
طوال سنوات ما بعد الأستقلال لم يتطور الحزبان الكبيران الأمة والإتحادي الديمقراطي , فالأمة رغم رحابة عنوانه فأنه لايزال صيغة طائفية تضم داخلها الغالبية من الذين يؤمنون دينيا بالطريقة المهدوية , والذين يرون في الصادق المهدي امتدادا لجده ,وحتي يترسخ هذا المفهوم عاد الصادق وانقلب علي شعاره القديم فصل الحزب عن الطائفة , اي فصل الإمامة عن الزعامة وهو الأمر الذي قاد الي الإنقسام في الحزب الذي قاده هو ضد عمه الراحل الهادي المهدي في ستينات القرن الماضي, وها هو وبعد ما يقارب نصف قرن من الزمان يتبني الصيغة التي ثار ضدها فصار إماما لطائفة دينية وفي الوقت نفسه رئيسا لحزب يزعم بأنه حداثي وانه يدار بطريقة ديمقراطية. وتجزم الوقائع إن المساحة الديمقراطية الخادعة التي يصبغها المهدي علي الحزب هي من صنعه هو , وليس من صنع مؤسسات حقيقية كما هو معمول في الأحزاب الليبرالية, فالصادق المهدي هو واضع اسس ديمقراطية الحزب ,ومجترح افكارها , واداة تنفيذها ,وهنا لا تملك مؤسسات الحزب المختاره والتابعة إلا الإنصياع لإرادة الزعيم .
من هذه الخلفية يسير الميرغني بدوره في اتجاه تكريس ملكية الحزب الذي اصبح يشبه تنظيمات المافيا الايطالية في التراتب القيادي. وصار المقربون من الميرغني والاخرون من حزب الشريف الراحل اشبه بالطيور التي تتغذي من ظهور الكردن تنظفها من مما يعلق بها من باكتريا .
ازاء هذا المشهد يصبح مفهوم الحزب لطبيعة الدولة بأنها دولة القلة ,وليست دولة الجماعة , دولة الطائفة ,وليست دولة المؤسسات ,انظر قضية ابوحريرة في حكومة ما بعد الأنتفاضة حيث تعرض الرجل للمضايقة لدرجة دفعه لتقديم استقالته لأنه دافع عن مفهوم الدولة الحقيقي ,وكتب الراحل دراسة قيمة في ستة حلقات تحدث فيها عن مفهوم الحزبين الكبيرين للدولة والروح الإقطاعية التي اوصلت السودان الي حكم الأخوان المسلمين .
هذه المحصلة من الملاحظات جرت كخلفية تاريخية في أول حكومة وطنية بعد الإستقلال عندما أعتمدت المناطقية والنفوذ في إختيار نواب الحزب , والوزراء دون اللجوء للكفاءة ,أو الأمانة أو الشفافية ,تلك الشروط التي لم تكن موجودة اصلا في ثقافة الأحزاب , أما اذا جئنا الي التصور العسكري الإنقلابي لمفهوم الدولة فأننا نواجه بثلاثة نماذح , نموذج أول حكم عسكري في السودان برئاسة الفريق ابراهيم عبود 85—64 الذي نظرالي الدولة بأعتبارها دولة الضبط والربط المستمد من روح الجيش الأسبارطية, ودولة "العسكرتونكراط " التي سارعت الي حماية نفسها بمنظومة قوانين مقيدة للحريات ضد المعارضة ,ولا يمكن أن نعتبر المجلس المركزي كان شكلا من أشكال الديمقراطية الحقيقية , فقد كان جسرا لتمرير قوانين الحكومة العسكرية ,وظل المفهوم الصفوي للدولة يسيطر علي حكومة عبود حتي سقطت في ثورة شعبية عام 1964. , واستمد نظام عبود مفهومه للدولة من عدم إعترافه اصلا بالصيغة المدنية للحكم ونظرته للمدنيين من السياسيين بأعتبارهم "ملكيين"*غير منضبطين ,وغير قادرين علي ادارة الدولة , وكانت قضية عدم استقرار النظام الديقراطي والصراع المستمر من اجل المصالح احد اهم الأسباب التي بررت لعبد الله رئيس الوزراء يومذاك تسليم السلطة لكبار جنرالات الجيش انتقاما من معارضيه السياسيين .
أما النظام العسكرى الثاني , نظام النميري 69 - 85 فهو اول من أرسي لدولة الطبقات إنطلاقا من المفهوم الماركسي للدولة , وضمن ثقافة الإنقلابات العسكرية التي إجتاحت المنطقتين العربية والأفريقية حيث كان يطلق علي هذه الإنقلابات أسم الثورات ,وجري إقامة تحالف بين العمال والمزارعين والبرجوازية الوطنية بكون هذه الفئات دون غيرها هي صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير, و بالمقابل حرمت الأحزاب السياسية ,وحظر نشاطها وأعتبرت أحزاب رجعية ضد حركة التقدم.ولتسيير دولاب الدولة تم إختيار العقائدين ,واليساريين ليتولوا الوزارات والمناصب التنفيذية وأبعد قدماء رجال الخدمة المدنية لتحل محلهم عناصر (تقدمية ) جديدة وسط حركة تطهير واسعة شملت كل مرافق ( الدولة القديمة )
شابهت تجربة الأسلاميين في الوصول الي السلطة تجربة اليساريين الذين سبقوهم في هذا المجال ,بل كانت حافزا قويا لهم لتنفيذ أيدويولجيتهم وهو بناء "الدولة الأسلامية " ذلك الشوق القديم الذي طالما راودهم, ومثلما مارس اليسار تصنيفا إنتقائيا في لتحقيق دولته ,فعل الاسلاميون الشئء نفسه ,بل تفوقواعليهم بأعدادهم المسبق لمشروع متكامل للحكم ,كما لم يكونوا تجريبيين مثل نظام النميري الذي أجبرته الضغوط الداخلية وصراع الحرب الباردة علي ان يتخبط بين اليمين واليسار حتي رسي الي إختيار ما اسماه دولة الشريعة .
وفي سبيل إقامة دولتهم النقية الطاهرة ,فأن الأسلامويين قاموا بحركة تطهير واسعة للخدمة المدنية تحت شعار الصالح العام ,ودفعهم الي ذلك مفهوم إن الدولة المسلمة النقية لا يحققها الا مسلمون أتقياء أنقياء,وهكذا قادت هذ الانتقائية في النهاية الي إستدعاء القبلية في اقبح صورها كما جري تكريس سلطة العائلة في كل دوائرالحكم . وهو ما فاقم من أزمة الحكم في البلاد . ولم يكن الإسلاميون هم مبتدعوا شعار التطهير, فهو تراث ورثوه من ادبيات اليسار الذي أول من رفع هذا الشعار في ثورة اكتوبر الشعبية عام 64 ولكنهم طوره تحت نظرية التمكين التي تقول بالولاء قبل الكفاءة فأفرزت هذا الشكل الراهن من دولة الألكابونية .
مصادر
1- 2 ماكس فيبر - غوغل
3- جاد كريم الجباعي في ماهي الدولة الوطنية مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية
*الملكي اصطلاح عسكري يطلقه العسكريون علي المدنيين من المواطنين
sedig meheasi [s.meheasi@hotmail.com]
////////////