مسيحيون في أوساط المسلمين: الجمعية الكنيسة التبشيرية في السودان الشمالي. عرض وتلخيص: بدر الدين الهاشمي
مسيحيون في أوساط المسلمين: الجمعية الكنيسة التبشيرية في السودان الشمالي (1)
Christians among Muslims: The church missionary society in the northern Sudan
هيزر شاركي Heather Sharkey
عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا عرض وتلخيص موجز لمقال للدكتورة الأميريكية هيزر شاركي (الأستاذة المتخصصة في تاريخ ولغات وحضارات الشرق الأوسط والأدنى في جامعة بنسلفانيا) نشر في العدد رقم 43 من "مجلة التاريخ الأفريقي" التي تصدرها دار نشر كيمبردج في عام 2002م..للكاتبة عدة كتب ومقالات عن السودان ومصر منها كتاب "العيش مع الاستعمار: الوطنية والثقافة في السودان الإنجليزي المصري"، وكتاب "الإنجيليون الأمريكيون في مصر" و"الهوية والمجتمع في الشرق الأوسط المعاصر" و"تاريخ الصحافة العربية في السودان". كنت قد عرضت لعدد من كتابات الدكتورة شاركي في مقالات سابقة.
أتقدم بالشكر للدكتورة شاركي لإرسالها لي المقال.
****** ****** ****** ******* *********
تعرض الكاتبة في مقالها تاريخا يتسم بالحياد لجمعية الكنيسة التبشيرية (CMS) والتي حلت بالخرطوم بعد عام واحد فقط من دخول الاستعمار البريطاني – المصري للسودان (أي في عام 1899م)، بيد أنها لم تفلح إلا في تنصير فرد مسلم واحد بعد ستين عاما من العمل التبشيري النشط. وقف وراء تلك النتيجة المخيبة لآمال رجال التبشير المسيحي موقف الحكومة الاستعمارية التي لم تشأ أن تثير متاعب مع مجتمع إسلامي متحفظ كانت في غنى عنها، فمنعت التبشير في أوساط المسلمين إيثارا للسلامة. كان لفشل عمليات التنصير تلك سبب مهم آخر إلا وهو شدة معارضة المسلمين لأي محاولة لردهم عن دينهم، وحرمة تبديل المعتقد الديني عندهم وعقابها بالقتل (مع ترحيبهم الشديد بمن يصبأ عن دينه ويسلم). تأكد ذلك ليس في السودان الشمالي فقط بل في مناطق إسلامية أخرى مثل إيران وأفغانستان وشمال نيجيريا، بينما نجحت عمليات التنصير تلك في مناطق أخرى مثل جنوب آسيا.
حاولت الجهات الكنسية التبشيرية المختلفة كسر الحظر الذي فرضه الحكم الاستعماري على عمليات التنصير (المباشر) عن طريق القيام بأعمال خيرية إنسانية كفتح المدارس والمستشفيات تضمن جذب قلوب وأفئدة المستفيدين من تلك الخدمات وتنشر العقيدة المسيحية بطريق غير مباشر. بالطبع لم تفلح تلك المحاولات التنصيرية بيد أنه من الواجب القول أن تلك المدارس والمستشفيات كانت هي السابقة في تقديم خدمات تعليمية وطبية لكثير من السكان خاصة فيما يخص تعليم البنات.
لم تفلح مدارس الكنيسة التبشيرية بالسودان في خلق طبقة صفوية مميزة كما حدث في مناطق أخرى من العالم (كجنوب آسيا) إذ أن غالب طلاب تلك المدارس كن من بنات فقراء المدن المهمشين اجتماعيا ومن ذوات الأصول الاجتماعية المتواضعة. كان تعليم هؤلاء يركز في الأساس على التدبير المنزلي أكثر منه على القراءة والكتابة. شمل ذلك لاحقا تعليم الصبية (الوثنيين) في جبال النوبة من الناطقين بغير العربية أيضا، حيث كانت تلك المدارس تصر إصرارا غريبا على تعليم التلاميذ بلغة عربية دارجة (من تأليفهم) مرسومة بالحروف اللاتينية، وهو أمر عديم الفائدة العملية، ويزيد طين خريجي هؤلاء المدارس بلة، ففرصهم في التوظيف والتقدم الاجتماعي محدودة أصلا بسبب عوامل الأثنية أو الجندر أو المكانة الاجتماعية.
تكونت جمعية التبشير المسيحية في 1799م كواحدة من عديد المؤسسات التبشيرية التي صوبت نحو أفريقيا وآسيا في القرنين التاسع عشر والعشرين مع توسع الإمبراطوريات الأوربية، وهي موقنة بأن لها دورا "رساليا" لنشر المسيحية في أوساط المجتمعات الأفريقية والآسيوية وغيرها بمن فيها من مسلمين ويهود وهندوس وبوذيين وأقباط وأرمن. ولضمان وصول رسالتهم لتلك الشعوب كان عليهم تعلم اللغات والديانات المحلية، بل وقاموا بترجمة الإنجيل والكتب المسيحية الأخرى إلى اللغات المحلية. كانت تلك الكتب تحمل عناوين موحية من قبل "المسيح من أجل الهند" و"المآخذ على الإسلام".كان نجاح الجمعية في عمليات تنصير غير المتعلمين من ممارسي الديانات المحلية أكبر مما عند سواهم، وأتاحت لهم الجمعية لغة أجنبية ولغة محلية (هجينة) وفرصا للصعود والترقي في السلم الاجتماعي. وفي المقابل تعذر على مبشري الجمعية تنصير من لهم كتب سماوية يقرأونها مثل يهود المغرب والشيوخ المسلمين في جنوب غرب نيجيريا وساحل كينيا ومصر، وهؤلاء كان بمقدورهم أيضا أن يضايقوا أو يهددوا أو يحاكموا من يتنصر من جماعتهم، وبل وكان بمقدورهم فتح مدارس خاصة بهم تغنيهم عن المدارس الكنسية البريطانية.
مع نهاية القرن التاسع عشر إزداد نشاط الجمعية التبشيري بفعل تمدد سطوة الإمبراطورية البريطانية، وتوهم أفراد الجمعية أن بمقدورهم العمل بسهولة في تنصير المسلمين، خاصة وأنهم تحت "حماية" المستعمر القوي. بل إن بعض غلاة المتحمسين في بريطانيا كانوا يؤمنون أن سيطرة المستعمر الأوربي العسكرية على بلدان مثل شرق أفريقيا والجزائر وشمال نيجيريا وسينقامبيا (دولة تجمع السنغال وقامبيا أنشأتها بريطانيا وفرنسا) كفيلة بالقضاء على الإسلام فيها. ولكن على العكس ازداد مبشروا الجمعية على أرض الواقع الأفريقي قلقا وهم يرون الإسلام يزداد انتشارا في هذه المناطق وغيرها.فشهدت تلك الفترة منافسة وصراعا محموما بين أنصار الكنيسة والمسلمين امتد للصحف، والتي كتب بعضها ينادي بأن تختار أفريقيا بين الإسلام أو المسيحية فليس ثمة خيار آخر، ووصفت صحيفة أخرى في عام 1885م المحمدية (الإسلام) بأنه "ليس حليفا مشكوكا في أمره، بل خصم معلن".
كانت لدى الجمعية الكنيسة التبشيرية الرغبة في الدخول للسودان منذ أن قتل في عاصمتها غردون (الحاكم المبشر والشهيد عند مسيحي وصحافة بريطانيا) في عام 1885م، وكان ذلك الاستشهاد دافعا لتأييد الرأي العام البريطاني لفكرة استعادة (أو غزو) السودان، فقام أفراد الطبقات الدنيا والمتوسطة بجمع التبرعات لحملة استعادة السودان "إحياء لذكرى غردون الشهيد المسيحي". وكإجراء مؤقت سعت الجمعية لاستخدام وجودها في مصر (التي إحتلها بريطانيا في 1882م) من أجل التنصير، فقد كانت في منتصف القرن التاسع عشر تؤمل أن يقوم أقباط مصر– بعد "تأهيلهم"- وعوضا عنها بتنصير المسلمين، بيد أنها في آخر ذلك القرن غدت تهدف لتنصير المسلمين والأقباط معا خدمة لمصالح الإمبراطورية البريطانية، أو كما كانت تزعم. في أعقاب استعادة السودان حانت الفرصة للجمعية كي تبدأ نشاطها في السودان فأعلنت عن فتح الباب لتعيين مبشرين جدد.
ساهم المبشرون في إعطاء الإستعمار واجهة أخلاقية وذريعة للقيام بإحتلال البلدان "غير المتمدنة / المتحضرة" بإنشائهم– ودون عون حكومي- للمدارس والعيادات والمستشفيات خدمة للمتنصرين المحتملين. بيد أن العون الذي كان يتوقعه المبشرون من السلطات الحكومية لم يأت ، فقد كان المستعمرون سعداء بأن يعمل المبشرون فقط في أوساط معتنقي الديانات المحلية ويساهموا في توطيد أركان السلم السياسي في مناطقهم النائية، ويعملوا من أجل مصلحة الحكومة من على البعد. بيد أن الأمر مختلف جدا في مناطق المسلمين، إذ أنها لها تقاليد دولة قديمة ذات تنظيم عسكري، وكان المستعمرون - وعلى رأسهم اللورد كرومر وكتشنر- يخشون– إن سمح للمبشرين بتنصير المسلمين أو حتى مجرد مناقشة الأمور الدينية معهم - من إثارة مشاعرهم الدينية والثورة عليهم، وربما إعادة إحياء روح الجهاد ضد الامبريالية التي دعت لها المهدية في نهايات القرن التاسع عشر. زاد المستعمرون البريطانيون على ذلك بتطمينهم للقيادات الدينية في السودان الشمالي بأنهم يحترمون الإسلام وشعائره ومؤسساته، وأتبعت القول بالعمل فقامت بتدريس اللغة العربية والدين الإسلامي في المدارس الحكومية، ودربت بعض خريجيها للعمل في سلك القضاء الشرعي، وسهلت أداء فريضة الحج لمكة. ومن جانب آخر، ولكسب ود المبشرين أيضا سمح كرومر وكتشنر لهم بالعمل في الجنوب (تحت خط العرض 10) حيث لم يكن الإسلام منتشرا، وخصوا بالذكر فشودة، والتي كانت محل صراع بين بريطانيا وفرنسا قبيل تلك السنوات. رضيت الجمعية الكنيسة التبشيرية بتلك القسمة فأفتتحت أول إرسالية لها في ملكال في أواخر عام 1905م. سمح كرومر وكتشنر أيضا للجمعية بفتح مدارس ومستشفيات في شمال السودان لخدمة المسيحيين الأجانب كالأقباط واللبنانيين والأغريق الذين تقاطروا على السودان من أجل العمل في خدمة الحكومة الجديدة أو لبدء أعمال تجارية فيه. ولتقليل فرص التنافس الحاد بين المذاهب المسيحية المختلفة ولضمان توزيعها توزيعا عادلا تولت الحكومة أمر تفريق المبشرين من مذاهب مختلفة على سائر الأجزاء الجنوبية من البلاد، ومنحتهم الحق في إنشاء المدارس والمستشفيات، فتخلصت بذلك من عبء مالي ثقيل، وجسدت وعضدت أيضا كيان السودان الجنوبي ككيان منفصل عن السودان الشمالي، وفصلت بين شعبيه.
أنتج النشاط التبشيري الطويل المدى في أوساط القبائل الجنوبية"الوثني" نظاما تعليميا أثمر عن طبقة صفوية مؤثرة من المتعلمين المسيحيين خرج من بين صفوفهم فيما بعد متحدثون وسياسيون وقادة للحرب الأهلية بين أعوام 1955 – 1972م و1983 – 2005م، وكما ذكرنا فقد منع البريطانيون النشاط التبشيري في البدء ثم سمحوا ببعضه بصورة متواضعة، لم يسمح فيها بغير نشاط متواضع للكنائس في أمور التعليم والصحة والحياة السياسية أو الاجتماعية، وظلت المدارس التي أنشأها الميشرون في الشمال تخدم أبناء وبنات الجاليات الأجنبية المسلمة والمسيحية واليهودية، وتخدم أيضا السودانيين المسلمين من ذوي الأصول المسترقة (والذين بلغ تعدادهم بحسب أحد الإحصائيات ثلث سكان السودان الشمالي في نهاية القرن التاسع عشر)، وساهمت مساهمة كبيرة في تعليم البنات (خاصة أولئك اللواتي كن من طبقات فقيرة وأصول متواضعة) في وقت لم يكن فيه تعليم البنات أمرا مقبولا.بدأت الجمعية الكنيسة التبشيرية عملها في السودان الشمالي بفتح عيادة طبية في أمدرمان في عام 1900م، بينما قام النمساويون الكاثوليك وكذلك المشيخية الأميريكة بإفتتاح مدرستين للبنين لها في الخرطوم أثارت غيرة الجمعية الكنيسة التبشيرية فلحقت بهم وأفتتحت مدرسة لها في الخرطوم في عام 1902م. ولما كانت تلك المدرسة التي أنشأتها المشيخية الأميريكة مخصصة للبنين، كان لزاما على الجمعية الكنيسة التبشيرية أن تقيم مدرستها تلك للبنات. صادفت سنوات إنشاء تلك المدرسة اقتحام النساء البريطانيات للعمل في مجال التبشير في المناطق المدارية، وكان هذا أمرا مشجعا للطالبات في تلك المناطق للالتحاق بمدارس منفصلة للبنات تقوم بالتدريس فيها نساء راهبات. لم تعمر المدرسة التي أنشأتها على عجل الجمعية الكنيسة التبشيرية طويلا بعد أن بدأت بـ 13 طالبة من بنات الحبوش من ذوات الأصول المسترقة اللواتي ولدن مسيحيات، ثم أجبرن على اعتناق الإسلام خلال فترة المهدية، وكانت المعلمة في تلك المدرسة امرأة أثيوبية ملونة اسمها ست نور دستا كانت قد بيعت في سوق الإسكندرية المفتوح للنخاسة، ثم قيض لها أن يشتريها قسيس أمريكي ويلحقها بالعمل في الكنيسة كطاهية أولا ثم كمعلمة. أفتتحت من بعد ذلك مدرسة قبطية لتدريس بنات الموظفين المصريين. كان البريطانيون آنذاك يرون أن الوقت لم يحن بعد لاستقدام راهبات بريطانيات (عَزْباوات بالطبع) للعمل في السودان السودان، فقاموا بتعيين سيدة سورية تدعى ست سعدة حداد للعمل كمدرسة في تلك المدرسة للقيام بمفردها بتدريس البنات من عمر 5 إلى 15 سنة.
بعد سنوات من افتتاح تلك المدارس أنشأ القائد المهدوي السابق الشيخ بابكر بدري أول مدرسة سودانية لتعليم البنات، وإزداد إقبال الآباء السودانيين على تعليم بناتهم خاصة عند معرفتهم أن المدارس تقوم بتعليم البنات شئون التدبير المنزلي وأعمال الإبرة والرعاية الحديثة للمنزل والطفل، وهذا مما يزيد فرص تزويجهن! كانت النتيجة هي تقاطر البنات المسلمات السودانيات للإلتحاق بمدارس البنات المسيحية .ذكرت المؤلفة أن ناظرة مدرسة الجمعية الكنيسة التبشيرية بين عامي 1904–1930م أوردت في كتاب مدرسة الإتحاد العليا المعنون "واحد وعشرون عاما من التقدم" مقالا بعنوان "اجعلوا من بنتي سيدة إنجليزية
Make my daughter like an English sitt
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]