مروءة شباب تستعيد روح السودان الأصيلة

 


 

 


khalidtigani@gmail.com

لولا أمل يشرق في سماء السودان من جديد, ويمنح رجاءً في المستقبل, أيقظته مبادرات مروءة شبابية جددت روح السودانيين الأصيلة في النجدة والشهامة لما كان هناك من داع أصلاً للعودة إلى الكتابة بوادي غير زرع يرد إليك صوتك حسيراً وإن أسمع من به صمم, مع شكر وتقدير مستحقين للقراء الأفاضل الذين ما انقطع سؤالهم مشفقين ومفتقدين لهذا القلم الذي غاب مضطراً لأسباب خارج عن الإرادة لثلاثة أشهر.
وجزى الله الشدائد خيراً, على محنتها لطائفة من السودانيين الذي مسهم الضر جراء سيول وأمطار لم يحسن ولاة أمرهم إدارتها لا تنبيهاً قبل وقوعها وأخذ ما ما يلزم من احتياط واجب لها في عصر تُنذرك فيه وسائل العلم المتقدمة مبكراً بخطرها, ولا هي بادرت إلى نجدتهم ومد يد العون لهم في نكبتهم بعد أن وقعت, كما ينبغي لأي حكومة مسؤولة أن تفعل.
لقد ولد من رحم هذه المأساة الإنسانية التي دهمت هذا النفر العزيز من السودانيين فجر أمل جديد لهذه الأمة, وهل من أمل وبشرى أكثر من أن تتجدد للسودان روحه وهو يرى طائفة من شاباته وشبابه الغض الإهاب ينبرون لإطلاق مبادرة نفير لغوث أهلهم وبني جلدتهم في زمن عز فيه صاحب سلطة نصير.
لا نريد أن نفسد حديث متطلع إلى مستقبل مشرق بإهدار وقت ثمين في حاضر مزر لا نحتاج أن نقيم عليه دليلاً, ولكن لا بد مما ليس من بد, والقليل من الذكرى يكفي "لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهن شهيد", لم تكن مثلبة السلطة أنها أغفلت عن التنبيه ولا تقصيرها في القيام بالواجب, فحسب, بل في تقديري مأزقها أكبر من ذلك بكثير هو عجزها أن تمنح مواطنيها مجرد الإحساس أنها تحس بمعاناتهم وتقف إلى صفهم وتبذل قصارى جهدها لعونهم وإن قصرت ذات اليد عن الإحاطة بخسائرهم.
أهدر المسؤولون وقتاً ثميناً في البحث عن توصيف مخفف لما حدث خشية أن ترهقهم تسمية الأشياء بمسمياتها تكلفة سياسية لا يبدو أنهم مستعدون لدفعها, غير عابئين بما يدفعه بسطاء من غمار الناس من خشاش ما يملكون, ومن أرواحهم العزيزة. ولو أنهم أنفقوا معشار ما بذلوه من جهد في التقليل من شأن ما حدث والبحث عن مبررات واهية للتهوين منه في عمل جاد لربما كانوا أنقذوا أرواحاً وأقالوا عثرات, وقاموا ببعض واجبهم.
ولم يتأخروا في التجاوب والتحسب للطوارئ مع تبعات ما حدث بالجدية والسرعة المطلوبة فحسب, بل واصلوا ممارسة شؤونهم المعتادة مثل إقامة المآدب الرمضانية في ملهاة لم نسمع لها مثيلاً, والأنكي ما سيق بعدها من تبريرات واهية.
ليست المشكلة هي وقوع كوارثة طبيعية قاهرة, أو أحداثاً طارئة تخرج عن مألوف استعداد أية حكومة, وليست المشكلة أن تعجز إدارة حكومية عن الوفاء بكل متطلبات هذه الطوارئ إن فاقت قدراتها وإمكاناتها, تلك هي مسائل مادية يمكن تعويضها وقد يحدث لدول كبرى ذات صيت أن تعجز عن مواجهة طوارئ عاتية ولذلك تبادر إلى طلب العون والغوث.
إلا أن ما لم يحتج إلى إمكانات مادية لتداركه ولا إلى عبقرية لفهمه, غياب الإحساس الإنساني بالمشاركة للضحايا في مصابهم وهو ما افتقده المنكوبون مما زاد من حسرتهم على مصابهم الأليم في أحبائهم أو في مساكنهم ومتاعهم. ولم يكن الرسول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم يخصف نعله ويرقع ثوبه عن قلة حيلة بل تلك هي أخلاق القائد القريب من غمار الناس عن معايشة لهمومهم وشؤونهم, لا انتظاراً لتقارير باردة أو تصريحات باهتة.
ولا نلقي القول هنا على عواهنه من غير سند أو دليل عليه, لقد كانت ثالثة الأثافي بلا جدال تلك السقطة غير المسبوقة لوسائل الإعلام الرسمية المرئية والمسموعة وما جاورها, اللهم إلا نفراً قليلاً حاولوا جهدهم أن يسهموا بشئ من أجل مواطنيهم المنكوبين, فقد طفقت في سلوك معيب تحتفل بالبرامج الغنائية والطرب بلا توقف طيلة الأيام الفائتة والأزمة تتفاقم ومواطنوهم في العراء, وكأن ما يجري على مقربة منهم لا يعنيهم في شئ أو يحدث في بلد آخر.
لقد كان هذا التعاطي الإعلامي غير المسؤول سبباً كافياً لأن يثير السخط والسخرية معاً على السلطة, فحتى لو كان ما حدث من بنات أفكار قادة هذه الأجهزة لكن الأولى بالمسؤولين زجرهم وتوجيههم إلى مواساة الناس في مصابهم, ولكن الصمت في ظني إن لم تكن التوجيهات هي تلك التي جعلتها سادرة في غيها.
وكيف تريد السلطة من مواطنيها أن يقتنعوا بأنها تمثلهم أو تحس بهم وهي لا تكاد تشعرهم بأنها تأبه لحالهم, وينسى أهل الحكم كيف أنهم في العام المنصرم في مثل هذه الأيام حينما وقت حادثة الطائرة المؤسفة التي أودت بحياة نفر كريم من أبناء هذا البلد من المسؤولين سارعت إلى إعلان الحداد وتحويل كل البرامج التلفازية والإذاعية طيلة أيام العيد إلى متابعة شأن هذه المناسبة الحزينة, فما الفرق, وما الذي يجعلها تغفل هذه المرة عما حاق بمواطنيها وتعمد مع سبق الإصرار والترصد في محاولة بائسة إلى الإلهاء بتجاهل كارثة السيول والأمطار, ولو بخدمة خبرية ذات مغزى.
لقد كشفت أحداث السيول والامطار هذه عن قلة كفاءة وتدني وتراجع في أداء الجهاز التنفيذية بدرجة مريعة, كما كشفت عن غياب كامل للأجهزة السياسية والمنظمات الفئوية التي يعج بها المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية وينفق عليها بسخاء, فلم يسمع لها أحد حساً ولا خبراً, إلا محاولات لاحقة تهدف إلى رفع الحرج السياسي الذي خلفه هذا الفراغ العريض أكثر من واجب القيام بالمسؤولية, والأجدى للقائم بأمرها أن ينشغلوا بإصلاح حالهم المائل هذا بدلاً عن البحث عن مشاجب لتعليق الفشل الذريع عليها, أو عرقلة جهود الذين بادروا إلى سد الفراغ ب"عمل ضرار".
لقد كان مثيراً للاستغراب تبخر كل تلك القدرات في الحشد والتعبئة في امتحان حقيقي لعمل إنساني لا يبتغي المرء منه غير خدمة غمار الناس, وبدت كأنها مصممة لخدمة زينة السياسة وصولجان السلطة, ولذلك عجزت أن تنهض لمهمة هي من صميم واجبها.
ولكن قيض الله لهذه الأمة خيراً أن ينهض من بين كل هذا الركام ومن تحت الرماد أمل جديد أحيته تلك الثلة المجيدة من الشابات والشباب الذين استنفروا أنفسهم ونذروا جهودهم واستحثوا ذوي المروءة من أجل يرموا بسهمهم في نجدة الملهوف وإغاثة المحتاج ورعاية ذوي الحاجات من مواطنيهم الذين وجدوا أنفسهم فجأة بلا معين ولا نصير ممن بأيديهم الأمر.
إن اعظم ما كشف عنه نداء النفير الذي أطلقه هؤلاء الشباب أن المعدن النفيس لا يصدأ أبداً وأن موروث السودانيين المركوز من القيم وحميد الاخلاق والمروءة والنجدة والهمة سعياً للخير لا تزال حية باقية في النفوس, ليس كأئناً اسطورياً كطائر الفينيق ينهض من تحت الرماد, بل هي حقيقة ملموسة استعادها هذا الجيل الجديد بمبادرته الجريئة وهمته العالية, لقد هزموا اليأس الذي بدأ يدب في النفوس أن السودانيين ما عادوا هم من سار بذكر محاسنهم وفضائلهم الركبان, وأن بلدهم لم يعد ذلك الوطن الذي أحبوه حتى أصبحث الهجرة حلماً ومطلباً لكل من استطاع إليها سبيلاً.
لقد كانت فكرة بسيطة ومباشرة تجاوب معها الناس من كل الأطياف كما لم يتجاوبوا من قبل, لأنها مست عصباً حساساً وحركت ما كانت تجيش به النفوس, وأهم من ذلك كلها أنها امتلكت الصدق وحققت المصداقية لأنها لم تسع إلا إلى تحقيق مصلحة عامة وقيام بواجب تجاه من ينتظر إنقاذه من محنته, ليس مطلوباً من هذه المبادرة العملاقة في معانيها الكبيرة في مقاصدها النجاح الكامل للوصل إلى كل محتاج, بل المطلوب من هؤلاء الشباب أن يحتفظوا بجذوة الأمل هذه حية, وأن يبثوها إلى كل الجيل الجديد في كل أنحاء السودان, وأن يتواصل عطاءهم بقدر المستطاع في أصقاع بعيدة من السودان ظلت مأسيها نسياً منسياً.
لنر سواعدهم الفتية وجهودهم المقدرة تنطلق إلى دارفور, وإلى جنوب كردفان وإلى النيل الأزرق, وإلى الشرق, وإلى شمال السودان ليرموا بسهم في استعادة اللحمة الوطنية وجدانياً, وأن يتطلعوا بثقة إلفى المستقبل لأنه ملكهم وهم من يصنعون مجده.
ومن خلال مبادرة نفير نحي العشرات من المبادرات الشبابية التي ظلت ولا تزالج تعمل في استعادة الوعي, وفي خدمة المجتمع في مجالات شتى لا يضرهم أن الناس لا يذكرونهم, ولكن جاء الوقت لنقول الآن فقط نحن مطمئنون إلى مستقبل السودان, لقد نهض شبابه يستعيدون قيمه الأصيلة, ويجدون في الإصلاح من قاعدة الهرم إلى قمته.
من صحيفة إيلاف السودانية
الاربعاء 14 أغسطس 2013          


 

آراء