محمد أحمد محجوب / وجه آخر
عبد الله الشقليني
5 September, 2013
5 September, 2013
(1)
تَطُول شَمَّام السَحاب مويتَكْ تَبِلَّ الرّيقْ
صوتك رَعَد عَبادي هبَّ قام شِرِّيق
خَلَفَكْ وَد الإمام حجراً حَتَلْبُو غريق
(2)
وُلِدَ الرائد ) محمد أحمد المحجوب ( في ( الدِّويم ) عام 1908 م ، ذات العام الذي استشهد فيه ( عبد القادر ود حبوبة ) . سيفٌ دخلَ الغِمد ، وسيفٌ خرج . من مُقل التاريخ ننظر مرايا الأرض والنبات والحجر ، ونُقلب الأنفس التي سجّلت سيرتها أقلامٌ لم تستطع أن تقول كل شيء، فبقي الكثير مطوياً في الصدور. وجاء رحيله في منتصف السبعينات جرحاً في ضمير كل مثقفٍ حُر.سيأتي يومٌ للذين يعرفون كيف تُستَخرجُ اللآلئ من بطون الأصداف.
من باب المحبة وجدنا طريقاً ندلُف منه إلى سيرته الأخرى، من بابٍ غير الذي يدخل منه كل الناس.
عال المقام . شامخٌ هوّ. نهض على ساقين وارتفع كنخلة باسقة ،ولودٌ بالرُطب . هو من الجيل الذي حَمل راية الثقافة في زمان عسير، بين فكي أسد الإمبراطورية المترامية الأطراف ،حين كان شاباً أيام الحاكم العام (السير جون مفي ) .تلك حلقة من حلقات النار التي تعبث من حول العصافير المُحلقة،من شباب الجيل الذي حمل لواء مؤتمر الخريجين .
نهضت الإوَز البيضاء من أبناء المؤتمر ، تُحلق في سربٍ مهيب . ليس بالدِّماء وحدها تنال البلدان استقلالها لاحقاً، وقد دفعت الشعوب السودانية من أدناها إلى أقصاها فاتورةً عصيّة على النسيان ، ليس أقلّها كسر المربع الإنجليزي الحربي على يد البطل( عثمان دِقنة ) وصحابه ،حين ترصد المستعمر في جبال شرق السودان ، أو الستة عشر ألف، الذين نحرتهم المدفعية الغاشمة خلال ست ساعات في ( كرري ) صبيحة الثاني من سبتمبر 1898 م ، وكمٌ هائل من المقاومين انتشروا من أقصى الوطن وبعِيد أريافه، وجباله التي حارب أهلها وكتبوا تاريخاً مضرّجاً بالدماء، فَدَتْ الوطن حتى كسرت شوكته آلة الحرب المتقدمة . وابتلع الجميع موسى القهر في زمان صعب فيه على الجميع الاستسلام .
(3)
شاعراً كان ( المحجوب ) ومهندساً أول أمره ،ثم قاضٍ ومحامٍ ،ثم صحافي مقتدر و خطيب سياسي مُفوه . ترشح لرئاسة مجلس وزراء السودان في بواكير حكومة السودان الأولى عام 1954 قبل الاستقلال . غالبه ( الأزهري ) فغلبه . تقلّد منصب وزير خارجية السودان عندما كانت الأنظار تثب إلى مكانة الوطن وكرسيه الذي اقتعد بين الأمم الناهضة ، ثم رئيساً للوزراء عام 1965 م ...، ثم مرة أخرى عام 1968 .
(4)
سنذهب إلى غير ما يرغبه الذين وقفوا ضده ، وإلى أبعد من آفاق منافسيه ، فهو في أجلّ مكانة وأعمق معرفة وثقافة من مُجايليه ، لذا كان غائم التاريخ،مُغطى بالأستار،مبتور السيرة ، إلا النذر اليسير الذي دونها هوَ ، لغةً عربية أو إنجليزية في كتبه النثرية أو من خلال فضائه الشِعري .
عن سيرته وعن سيرة أمثاله جاء أصحاب المكر السياسي ، خفيضي سقف المعارف، يدنسون تاريخه وتاريخ قادة مؤتمر الخريجين ، يسقطون على سيرتهم كل الأوصاف الجائرة قولاً وفعلاً ،ليغسلوا أحقادهم بتزوير التاريخ . إن هزائم الحاضر صنيعة أناس معروفي الأسماء ومعروفٌ تنظيمهم الذي إليه ينتمون .
(5)
حمل ( محمد أحمد محجوب)مع رفاقه الشباب في بداية ثلاثينيات القرن الماضي راية الثقافة مدججة بمعرفة العصر، التي شربت من دور النشر العربية ومن التراث العربي بقدر ما كان متوفراً . ومن المكتبة الإنجليزية بكل فخامة إرثها القانوني والهندسي والثقافي والأدبي والفلسفي والشِعري. ومن خلال تراجمها الإنجليزية من الأدب الروسي والألماني والفرنسي والنرويجي ، مدخلاً لفهم قضايا الآداب المقارنة ، ونشوء قضية النقد الذي يحفز الملكات الإبداعية ويفتح صندوق العقل للتحديات ، لقد كان (المحجوب) مهندساً ، وقاضٍ ومحامٍ له صولات ، ثم مُحرراً من صحافيي مجلة ( النهضة) لصاحبها ( محمد عباس أبو الريش) ثم من بعد صحافياً في مجلة ( الفجر ) التي كان يرأسها ( عرفات محمد عبد الله ) ،حامل الشعلة الثقافية الوطنية ورائد العمل العام، الذي شارك في الحركة الثائرة عام 1924م. فمن شعلة الأخير أوقد ( المحجوب) ناراً ، استدفأ بها كثيرون من شباب ذلك الجيل . إن قفزات الإبداع خطو عصيٌّ ،لن تنسى الأرض موضع قدمه ، مثل شاعرنا الفخم ( التجاني يوسف بشير)، الذي لامست إنسانيته رومانسيته وحسه المرهف ، فسطا الذين استأمنهم شِعره المكتوب بخط اليد ، فنسبوه لأنفسهم ، وليست مصر بعيدة . فقد أفسحت للوقائع أن يفلت كثيرها من قبضة التاريخ ، ليأتِ أبناء من جيل آخر ، في مُقبِل الأيام ، نحن نزعم أنهم سوف ينحِتون الصخر ، ويعيدون رسم جرائم السَّطو وتمثيل وقائعها ، لتستعيد الأجيال اللاحقة شيئاً، أكبر من وطن يظنه البعض متنزهاً خلفياً لجارةٍ شقيقةٍ لبلادي ، أو مستَعْمِرة سابقة ،دفعت ثمن أن تحوز السودان، فكانت الغاصِب الأضعف والشقي الذي دفع المال ولم يكن نِداً ، فأضحت مصرَ تابعة . يتنازع البعض من وطننا في أمر محبتها ، من آثار هجين الجينات واختلاط الأنساب. وهي مُدللةٌ،لا تبادلنا ريق القبلات ، بل تسرق ماء الحياة إن كان إليه من سبيل.
(6)
أمسك (المحجوب) الشاعر بعيون الآداب ، النثر والشعر .و حين اتسعت رؤاه ، تحلّق من فوقنا تحت القبة السماوية الزرقاء . كانت له صداقة عِرفان مع المُبدعَين (عبد الله ) و(محمد )،ابني (عشري الصديق) . أحدهما لم تستطع نبال ذكائه أن تطول لتلحق بأبناء العشائر والقبائل . ولم يُقْبَل في (غردون التذكارية) ، فالتحق بالقوات المسلحة ، التي كانت لا تفرق بين الأعراق. شهد بطولات للجيش السوداني . دونها الآن ما يحدث في السودان حين ساد أصحاب التأهيل الأضعف ليكون الوطن البلاد ضَيعةً للتنظيم العالمي .
(7)
على عهد الحاكم العام ( سايمز) ،دخلت الحركة الوطنية في الثلاثينات مرحلة جديدة، وأبدى هو اهتماماً بالإنتليجنسيا.تأكد للحاكم العام أن تشجيع الجمعيات التبشيرية وإبعاد الشماليين من الجنوب يؤدي بالضرورة إلى خلق عداء للمصريين و الشماليين ، ورفض ( سايمز) إتِّباع سياسة سلفه (السير جون مفي ) الخاصة بتطوير الجنوب بمعزل عن الشمال والتي ستؤدي للانفصال بينهما ، فاتبع سياسة جديدة للتقريب بينهما ، ولذلك نرى الحاكم العام ( سايمز ) يبشر بمبادرة ، يهدف من خلالها وفق رؤاه بناء أمة حديثة ،عن طريق إدارة عامة متقدمة ،ليس بالتعاون مع السلطات العشائرية و القبلية والطائفية، بل بالتعاون مع الإنتليجنسيا السودانية، وفي نظره لم تكن الإنتليجنسيا هدامة أو ثائرة ، ورغم أن التعاون معها ينطوي على مخاطر ،إذ من الأفضل أن تظل تلك الفئة متغربةً في بحور الثقافة، بعيدةً عن مجريات أمور بلادها، وهي رؤية كذبها التاريخ إذ تطورت همومها تلك الطبقة المتعلمة ، وتصدر طموحاتها الشأن العام ومصير الدولة آخر المطاف. قدم (سايمز ) مذكرة عن الإعلام الثقافي لمديري المديريات الشمالية عام 1938 وأبرز بوضوح معالم سياسته المتضامنة مع المتعلمين . |4|
( 8 )
أفادت الحركة الوطنية أيما فائدة من سياسة ( سايمز ) الذي اهتمّ بالبعثات لإنجلترا وغيرها لتأهيل السودانيين . وبدأت الفئة قليلة العدد حملتها الثقافية ثم الوطنية التي مهد لها مؤتمر الخريجين ،وتطوره آخر المطاف إلى المطالبة بالحكم الذاتي ، ثم انقلبوا جميعاً إلى السياسة المباشرة مع بدء الأربعينات بإرسالهم مذكرة مؤتمر الخريجين الأولى عام 1942 م ،التي احتوت رؤى جديدة في زمانها ، وتضمنت مطالبات متقدمة معنى ومبنى ، وتلخصت مطالبها في الآتي :
إصدار تصريح مشترك في اقرب فرصة ممكنة من الحكومتين الإنجليزية و المصرية بمنح السودان بحدوده الجغرافية حق تقرير مصيره بعد الحرب مباشرة وإحاطة ذلك الحق بضمانات تكفل حرية التعبير عن ذلك الحق حرية تامة كما تكفل للسودانيين الحق في تكييف الحقوق الطبيعية مع مصر ، باتفاق خاص بين الشعبين المصري والسوداني .
تأسيس مجلس أعلى للتعليم أغلبيته من السودانيين وتخصيص ما لا يقل عن 12% من الميزانية للتعليم .
تأسيس هيئة تمثيلية من السودانيين لإقرار الميزانية والقوانين .
فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية .
إلغاء قوانين المناطق المقفولة ورفع قيود مزاولة التجارة والانتقال داخل الأراضي السودانية عن السودانيين.
وضع تشريع يحدد الجنسية السودانية .
وقف الهجرة إلى السودان فيما عدا ما قررته المعاهدة الإنجليزية – المصرية .
عدم تجديد عقد الشركة الزراعية بالجزيرة .
تطبيق مبدأ الرفاهية والأولوية في الوظائف وذلك بإعطاء السودانيين فرصة الاشتراك الفعلي في الحكم بتعيين سودانيين في وظائف ذات مسئولية سياسية في جميع فروع الحكومة . قصر الوظائف على السودانيين . أما المناصب التي تدعو الضرورة لشغلها بغير السودانيين فتملأ بعقود محدودة الأجل ، يتدرب في أثنائها سودانيون لشغلها في نهاية المدة.
تمكين السودانيين من استثمار موارد البلاد التجارية والزراعية والصناعية .
وضع قانون بإلزام الشركات والبيوتات التجارية بتحديد نسب معقولة من وظائفها للسودانيين
وقف الإعانات لمدراس الإرساليات وتوحيد برامج التعليم في الشمال والجنوب .|4|
*
وجد (المحجوب) في تلك الفترة مدخلاً وهو مُتكئاً على تراث ثقافي ضخم ، وكان لإسهامه الثقافي في جمعيتي ( الهاشماب ) و ( أبوروف ) أعظم الأثر ، له ولغيره من تلك الفئة ، التي منها كان الرعيل الأول من أصحاب التعليم والثقافة ،تقلبوا في بحورها ، ثم انقلبوا إلى السياسة المباشرة .
(9)
نقطف من مقال للمحجوب في مجلة الفجر ، المجلد الأول ، العدد الثاني والعشرين ، 16 يونيو 1935م ، ما نراه صفحة مورقة،تكشف عمق بصيرته النقدية ، كان المقال تاريخاً دقيق الحِرفية ، لم يتناول الكثير من تناول إبداعات كُتاب مرموقين في مصر من أمثال سلامة موسى ولطفي السيد ومحمد حسين هيكل ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي وتوفيق الحكيم وغيرهم من كتاب مصر، الذين نهضوا بالأدب والقص في فترة تلت كتابة المقال ، ولا يخرج عن تاريخ العصر آنذاك ،و يمثل مقاله نقداً لأدب مصري خلال فترة سابقة في مصر الثلاثينات ،قبل النهضة الكبرى :
{ حديث الأدب القومي في مصر ذاتها جديد لم تمض عليه سنوات ، وحتى الآن لم نر نتاجاً جديراً بأن يسمى قومياً . فشوقي وحافظ وأحمد محرم كانوا يقرضون الشعر على طريقة العرب ويسوقون الحديث عن النوق والخيام والهوادج ويغزلون في سعاد ودعد وهند ، ولا يحفلون بزينب وفاطمة وبثينة . وما كنت لتلمح اثر مصر في قصيدهم إلا عندما يمتدح شوقي خديويها أو يرثي أحد أبنائها ، أو عندما يتغنى حافظ بالوطنية المصرية ويدفع الشعب للقيام بواجبه . والعقاد والمازني لا فرق بين شعريهما في المعاني والتخيلات وبين شعر " توماس هاردي " أو " شلي " أو " بيرنر " ، فهو شعر إنجليزي في لغة عربية . وأما النثر فحتى بداية هذا القرن كان سجعاً مقفى ، وما "حديث عيسى بن هشام " للمويلحي ببعيد . وأما كتاب العصر فهم بين نزوعهم إلى التجديد واللحاق بالغرب ، وبين محافظتهم على أسلوب " عبد الحميد الكاتب " وبيان " الجاحظ" ، لم يتقدموا خطوة إلا ليتأخروا خطوات ، وأدباء الشباب الذين يحاولون إدخال القصة أو الأقصوصة والمسرحية إلى اللغة العربية لا تتعدى كتاباتهم الترجمة إذا كانوا أمناء والمسخ إذا كانوا ممن ينتحلون فضل الغير . والأثر الأدبي الذي قرأته ورأيت بين سطوره حياة مصرية صحيحة هو كتاب " الأيام " للدكتور طه حسين ،ولكني ما كنتُ لأخطئ هنا و هناك لطريقة " أناتول فرانس " في معالجته لتاريخ حياته في كتابيه " بيير نوزير " و " كتاب صديقي " ، وكدت أتهم الدكتور بأنه مُقلد لا يستطيع الابتكار ، ولكن طلاوة الأسلوب وتلاحق الصور البيانية وغرر المعاني حملتني لأغفر الذلّة وأشيد بفضل الدكتور على الأدب المصري خاصة والأدب العربي عامة . والكتاب الثاني لكاتب مصري شغلته السياسة والكتابة في الصحافة عن التوفر لفنه وتجويد أدبه ، ألا وهو الأستاذ فكري أباظة ، وكتابه هو " الضاحك الباكي " حيث وجدت في الكتاب صوراً من الحياة المصرية لا غبار عليها مجلوة في أسلوب سهل فكه ، تتمثل فيه روح عصره السمحة الفكهة ، ولكن ما في الكتاب من ضعف لغوي وضعف فني في سبك القصص جعل الكتاب في مرتبة أقل مما يستحقها موضوعه . والأثر الثالث لكاتب مشهور بارع مشرقه حلو الفكاهة مغرب فيها ألا وهو الأستاذ المازني . وكتابه الذي نشير إليه هو " صندوق الدنيا " ، ولكن الأديب لم يخل من التقليد والنقل في بعض الأحيان من بعض كتاب الغرب المشهورين بالفكاهة والسخرية أمثال " مارك توين " و " جيروم جروم " وهكذا نرى أن الأدب القومي لم تقم للآن في مصر دعامته ، واذكر أني كتبت في رسالة لصديقي الأستاذ حسونة القصاص المصري في عرض الحديث عن الأدب القومي قائلاً ( وأي خير في أن نقرأ لـ " أناتول فرانس " و " برنارد شو " و " كانت " ونُخرج خليطاً من الأدب إن استطعنا معرفة أمه فلن نستطيع معرفة أبيه ) . والأدب المصري سيطول جهاده قبل أن يكون قومياً بالمعنى الصحيح ، وذلك لأن كثيراً من الكُتّاب في مصر يقرءون ويُكثرون القراءة ولكنهم لا يهضمون ، ولذلك يكون نتاجهم نصف غربي إن لم يكن غربياً من رأسه حتى القدم . والسب الآخر في تعسير خلق الأدب المصري القومي راجع لاختلاط الأجناس في مصر حتى أصبحت مصر تسمى أم الدنيا بحق وحقيق }|3|
(10)
تحدث المحجوب عن الأدب السوداني في ثلاثينات القرن الماضي ، وأوضح أن بلادنا مرت بها قرون من الجهل الحالك ، وشُغِلَ أهلها بضرورات الحياة ورد الغزوات والانهماك في الحروب الأهلية ، حجبت عنهم التفرغ للدراسة والتحصيل ، وفي العهد التركي المصري كانوا يجدّون في تحصيل علوم الدين ولم يلتفتوا للأدب إلا قليلاً . وجاءت المهدية وانشغل الناس بالحروب والدفاع عن الدولة الوليدة آنذاك . وأشار أنه في ظل حكومة المستعمر في زمان الثلاثينات تعرف الطلاب من أساتيذهم المصريين ونهلوا من علوم اللغة العربية وفقهها وآدابها ، فكان معظمهم المنتجون مقلدون لأساتذتهم ، وجاء شعرهم مثلاً لشعر قدماء العرب في لغته ومادته وتصويره، ولم تخرج الموضوعات عن مدح أو رثاء أو شعر في ليالي المولد النبوي أو رأس السنة الهجرية ، ولم تمتد لخلق أي أدب قومي .
وتحدث المحجوب عن جيل العقد الثاني والثالث في زمان الاستعمار ، وكيف نهض الشباب بظمأ شديد للاستزادة من اللغة الإنجليزية والعربية والدخول لعوالم فنون الأدب والشعر من نثر وقصص ودراما . ونهلوا من كل حدب وصوب ، وكان للأدب المصري حظه من النهل ، حتى حسب البعض أن الأدب المصري يخلو من العيوب ولا يعتوره النقص أو القصور ، ولكن الإطلاع والصبر على المعرفة قاد الكثير من الشباب في ذلك الزمن لإتقان فن النقد ، وذكر المحجوب مثلاً لذلك مقال فخم انتقد فيه صديقه ( محمد عشري الصديق ) كتاب ( صندوق الدنيا) للمازني ، نشرته له ( السياسة الأسبوعية ) ، رأى فيه المحجوب أنه من خير ما قرأ في النقد الأدبي ....|3|
(11)
انتهى ما اقتبسنا من مقال للمحجوب وما حاولنا تلخيصه من مقاله الثري عن ( الأدب السوداني والأدب المصري ) وتلك اللآلئ من قطوفٍ في النقد وتطواف على مصادر المعرفة المتاحة في ذلك الزمان . يتعرف المرء على وجه غائم للمحجوب ، لم يتعرف عليه أهل السياسة إلا في لغة المحجوب في البرلمان الوطني أو المنظمات الدولية حين تقلد وزارة الخارجية أو رئاسة الوزراء، فكان علماً من أعلام فقه السياسة الدولية، قائداً بكاريزما أهّلته ليعين الكثيرين من وزراء وقادة الدول العربية والإفريقية حين كان التّماس في السياسة الدولية لمن هو أقدر و أعْرَف .
(12)
ربما غطس المحجوب الشاعر والأديب في بحيرة السياسة ، انتزعته من عوالم الثقافة والشِعر ، حين امتد به العمر . نافس الأزهري في مطلع الخمسينات في رئاسة وزراء أول حكومة وطنية عام 1954م ، وفي جلسة البرلمان وبعد إجراءات حلف اليمين اقترح " ميرغني حمزة " انتخاب " إسماعيل الأزهري " رئيساً للوزراء وثناه " بلن ألير " ، ومن الجانب الآخر للثقل الانتخابي اقترح السيد " الصديق المهدي " انتخاب السيد " محمد أحمد محجوب" وثناه السيد " بوث ديو" . صوت للأزهري (56) عضواً وصوت للمحجوب (37) عضواً . |2|
كان المحجوب خصماً نداً وزعيماً للمعارضة وبقدرعالٍ من الكفاءة الاقتدار ، لكنه وفي مرحلة الديمقراطية السودانية الثانية،لن يخرج كثيراً عن قيم تكشف سيطرة الجندر ، آحادي الهوى . أظهرته خصومته "للحزب الشيوعي السوداني " ونوّابه في البرلمان، لاسيما السيدة " فاطمة أحمد إبراهيم "، أول برلمانية في تاريخ العالم العربي والإفريقي، وكشف الصراع السياسي الكثير من خبايا المجتمع التقليدي ، ونحن من قبل ومن بعد لا نُحاكم التاريخ بمقاييس اليوم .
كثيرون من أصحاب الهوى السياسي العام ، يريدون أن يحيلوا "المحجوب" وكثير من رواد مؤتمر الخريجين إلى مثقفين جرجرتهم حياة الطوائف التقليدية إلى حوزتها.كان "المحجوب " مُرشحاً تدعمه الطائفية في مناطق بينها وبين المعرفة بيدٌ دونها بيدُ . وهي قضية كل الأجيال التي صارعت المستعمر من شباب مؤتمر الخريجين ، فحاربهم المستعمر أيام " مفي " بتقريبه زعماء العشائر والقبائل والعصبيات الطائفية وإعطائهم من السلطة أكثر مما يستحقون. فاضطر كثيرون أن يخضعوا لاحتواء فيضان الطائفية التي نشأت وأعانها المستعمر بالمال والسلطان ، ليكسر شوكة المطالبين بخروجه من البلاد. تبنى المستعمر بنيان الطائفية مرحلة إثر أخرى، ليحقق قبولاً في مجتمع متعدد الأعراق ، ليس من السهل حكمه بدون الإدارة الأهلية ، التي تعرف المداخل والمهارب والنجوع والفلوات والآكام . وتمكنه من حكم البلاد بأقل كلفة .
(13)
سيظل حلف الطائفية قدراً، يحتاج الكثير من الحفر عن علاقة مؤتمر الخريجين وشبابه الناهض أيام المستعمر ، وكيف قادتهم ديمقراطية ( وست منستر) إلى صندوق الانتخاب ، وديمقراطية ( الصندوق ) الذي تتقاطع مع أحلاف زعماء العشائر والطوائف السودانية ، الذين مكّنهم المستعمر ليصُد بهم غلواء المطالبات بالحرية . قضية لما تزل تقرع الأذان : الطائفية والقبلية والاصطفاف وراء صناديق الانتخاب، من وراء ميول العامة عبثاً بعواطفهم لصناعة وجهٍ مشوهً من وجوه الديمقراطية ، لم يستطع فيه أهل السودان أن يؤسسوا ديمقراطية حرة نزيهة تناسبهم ، ليأتيها المواطن مؤمناً بالقيم النبيلة وبالتطور ، لا امتهان متعة العبودية العاطفية الذليلة ...
(14)
جمع ( المحجوب) في بيته ،أيام القمة العربية التي أسموها باللاءات الثلاث في الخرطوم،أغسطس عام 1967 ،حين كان رئيساً للوزراء .على انفراد هو مع الزعيمين العربيين اللذان اختصما فترة من الزمان: (جمال عبد الناصر) رئيس مصر، والملك (فيصل آل سعود) ملك المملكة العربية السعودية .أمسك المحجوب بكاريزما حضوره البهي وحفرِه في البنية الثقافية للشخصيات التي تزعمت السلطة في الزمان والمكان . أزال الاجتماع إحن الصدور وضغائنها ، وخرج الزعيمان من بيته بالصفاء إلى السماء العربية وتقاربت الدولتان من بعد هجرٍ وعداوة . كذا تمتد مدية الخير لدى ( المحجوب ) ، وتُمطر السماء صلحاً .قررت القمة العربية في ذلك الاجتماع دعماً لدول المواجهة ، وتعهدت كل من المملكة العربية السعودية والكويت والمملكة الليبية الالتزام بإزالة آثار عدوان إسرائيل في يونيو 1967 ، ونالت مصر (95) مليون جنيهاً إسترلينياً بما عوضها تغطية عائد دخل قناة السويس الذي فقدته ، ونال الأردن (40) مليون جنيهاً إسترلينياً. ورفضت القيادة السودانية بكل أطرافها أن يُمْنَح السودان دعماً مالياً ، حين تدفق الدعم العربي لدول المواجهة مع إسرائيل .|2|
(15)
تلك قضايا ربما تُخرجنا عن قضية المحجوب والأدب والنقد، وتتقاطع قضية المثقف والسياسي ، أو المثقف والسلطة . وهزائم المثقفين أمام المؤسسات التقليدية للمجتمع ، تظهر كل النقائض . أرجو ألا يحسب الذين يقرءوا أننا اصطففنا وراء أهل الدكتاتوريات مع العسكر المؤدْلَجين ،كالذين نصبح ونمسي وننام ونصحوا وهم بيننا كالطاعون الذي حيَّر أطباء السياسة وعلماء الاجتماع واختصاصيي علوم النفس البشرية.غطتنا بثقلها الكآبة ونحن نتقلب على جمار الفاقة وأثقال الأمراض المتوطّنة التي نهضت من قبورها لتجد مكاناً لها ،في دولة رحّلت ثرواتها البترولية خارج الوطن ،دون أن يشعر الممسكين بالسلطة بأدنى إحساس بتأنيب الضمير ، وأضحى الفساد سمة تظهر موسومة في الخدود ، تعرفها قبل أن يرتد إليك الطرف .
المراجع :
|1| مشاهدات شخصية.
|2| مذكرات خضر حمد : الحركة الوطنية السودانية ، الاستقلال وما بعده.
|3| نحو الغد ، محمد أحمد محجوب
|4| تاريخ الحركة الوطنية السودانية ، بروفيسور محمد عمر بشير، ترجمة الجنيد علي عمر ، هنري رياض،وليم رياض .
عبد الله الشقليني
7/8/2013
عبد الله الشقليني
abdallashiglini@hotmail.com