مذكرات في الصحافة والثقافة: عن محي الدين محمد وكمال الجزولي
صديق محيسي
21 October, 2013
21 October, 2013
اسدي لنا صديق العمر الكاتب والباحث والشاعر كمال الجزولي خدمة كبيرة بإعادة سؤاله الدائم الملح عن اختفاء مفكر سوداني كبير اسمه محي الدين محمد لمع اسمه في ستينات وسبعينات القرن الماضي كأشهر باحث وناقد ادبي في ذلك "العصر" ومن كثرة اهتمام الجزولي بهذا المفكر الكبير اتصل بي قبل سنوات وانا في دولة قطر يسألني مزيدا من المعلومات عن محي الدين و كان يحرر يومذاك ملحق الصحافة الادبي وارسلت له ما جادت به الذاكرة من ذكريات مع الرجل .
برز محي الدين محمد كناقد ادبي وباحث فكريي في فضاء الادب العربي المعاصر في عصر برز فيه شعراء اكثر شهرة امثال بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي في العراق وخليل حاوي ونزار قباني وعلي احمد سعيد "ادونيس"في منطقة الشام, ومحمد الفيتوري وجيلي عبد الرحمن وتاج السر الحسن ,ومحي الدين فارس في مصر والسودان , ومحي الدين من جيل الشعراء السودانيين المار ذكرهم ,عاصرهم وشعراء مصر الحداثيين صلاح عبد الصبور واحمد عبد المعطي حجازي ونقادها رواد الواقعية الاشتراكية محمود امين العالم وعبد العظيم انيس ومحمد مندور وغيرهم من عمالقة ذلك الجيل .
ومن بين النقاد والباحثين الذين جايلهم محي الدين ,صبري حافظ دكتور الادب الانجليزي بجامعة قطر حاليا والراحلان غالي شكري ورجاء النقاش نجما النقد الحديث في سنوات الستينات والسبيعينات .
كان الاديب والصحفي الراحل حسب الله الحاج يوسف هو المكتشف الاول للمفكر السودانى محى الدين محمد الذى كان يكتب بحث الشهر فى مجلة الاداب التي كان يمتلكها الروائي اللبناني سهيل ويراسلها من السودان حسب الله, وبحث الشهركان سهيل ادريس يختار له الكتاب من ذوي الوزن الفكري وليس اي كاتب.
وفي عصر النهوض القومي العربي عصر الستينات والسبعينات كانت الاداب المجلة الاشهر والمنبر الذي يطل منه الكتاب والشعراء من انحاء العالم العربي, وكانت كتابات محي الدين الجريئة تثير جدلا واسعا في الاوساط الثقافية العربية حتي اصدر كتابه " ثورة علي الفكر العربي المعاصر"والذي تناول فيه منهجية العقل العربي الرعوى في ذلك الوقت ومقارنته بالعقل الصناعي الغربي, وكيف تطور الأول حتي اصبح عقلا مرسلا بضم الميم لا مستقبلا بضمها,وقصة السائح والبيضة التي اوردها الصديق كمال خير دليل علي الذهنية العربية التي لاتهتم بعامل الزمن, وعندما اصدر محي الدين كتابه ذاك في عصر الستينات لم يشب عن الطوق مفكرين عربا امثال محمد عابد الجابري ونصر حامد ابو زيد ومحمد اركون الذين سبقهم محي الدين بخمسة عقود عندما تناول اشكالية العقل العربي وربما كان بعضهم في سن الشباب وفي بداية خطواته في عالم الكتابة, او لم يولد بعد .
ومحى الدين للذين يسمعون باسمه لاول مرة من ابناء هذا الجيل هو سودانى نوبى تربطه صلة قرابة شديدة باسرة شورة منهم محى الدين الذى كان وكيلا لوزارة المالية فى ستينات القرن الماضى , ومحجوب المعلم والنقابى اليسارى المعروف, لفت حسب الله الحاج يوسف نظرنا الى هذا الباحث الجاد فصرنا نتابع كتاباته فى الاداب وغيرها من المجلات المصرية حتى اصدر كتابه (ثورة على الفكر العربى المعاصر) الذى احدث بالفعل ثورة فى العالم العربى فتناولته الصحافة الادبية المصرية واللبنانية , فاشاد به غالى شكرى , وصبرى حافظ وجورج طرابيشي, وهاني الراهب, اطلق محى الدين محمد صرخته المطالبة بتغيير الذهنية العربية المتخلفة المتواكلة حتى يلحق العرب بمسيرة الحداثة والحرية ترجم محيي الدين" الصخب والعنف لوليام فوكنر"واول من لفت علي رواية موبي ديك لهيرمان ميلفيل وسلط الضوء على الروائى السورى المعروف زكريا تامر عندما اشاد بجموعته القصصية صهيل الجواد الابيض بل كان هو مكتشفه حسب اعترافات تامر نفسه, كان حسب الله الحاج يوسف على صلة وثيقة بمحى الدين يراسله بانتظام ويزوره فى القاهرة كلما حج اليها , ومن كثرة عشقه لهذا الناقد الكبيرسعى الى اقناعه بالعودة الى نهائيا السودان , فدعانا الى تشكيل لجنة للاعداد لهذه الزيارة ,كان ذلك فى بداية الستينات, ذهبنا محى الدين فارس, ويوسف الشنبلى, ومحمد احمد العمدة ,ومحمود مدنى,ومحجوب الزعيم , ودفع السيد عبيد يتقدمنا حسب الله
الى محطة السكة الحديد لاستقبال الناقد الكبير الذى نزل ضيفا على حسب الله فى غرفته المتداعية فى مبنى صحيفة اكتوبر بالقرب من صحيفة السودان الجديد قبل ان ينتقل الي ابناء عمومته محي الدين شوره في منزله الحكومي بالمقرن, ومحجوب شوره النقابي والمعلم المشهور في منزله بحي كبار الموظفين بالقرب من السكة الحديد.
جال حسب الله مع محى الدين الصحف لايجاد وظيفة الله , فعرض عليه محجوب محمد صالح ان يشرف على الصفحة الادبية فى الايام ولكن محى الدين فضل العودة الى القاهرة ليواصل عمله مترجما فى مصلحة البريد وكاتبا معروفا فى المجلات العربية, وفي دار الثقافة بشارع الجامعة ادهش محي الدين محمد الحاضرين في محاضرة كان يلقيها الصادق المهدي عن السندكالية وكان الصادق اثر عودته من بريطانيا في بداية الستينات معجب بهذا المذهب واخذ يروج له عبر المحاضرات والندوات وداخل الجمعية التأسيسية , وكانت دفوعات محي الدين الفكرية ان السودان مجتمع زراعي ولم يبلغ الشأو الصناعي الذي بلغته اوربا , وعليه فأن نظرية المهدي لاتصلح للسودان لكون حركته النقابية في طور التشكل , وصفقنا طويلا
لمحي الدين اذ بز بثقافته الموسوعية الصادق المهدي والذي اصرعلي ان السودان قابل للسندكالية, والسندكالية حسب الغوغل "هي مذهب سياسي اقتصادي مناهض للرأسمالية وينادي بجعل الطبقة العاملة تسيطر على الاقتصاد والحكم. من الوسائل التي يتبعها النقابيون لتحقيق أهدافهم هي تأسيس الاتحادات العمالية والقيام بالإضرابات النقابية أو السندكالية هي مذهب تغييري جذري يستهدف إحداث التغيير الاشتراكي - في المجتمع لا عن طريق الاستيلاء على الدولة ومؤسساتها، كما جاء عند المذاهب الاشتراكية والشيوعية، بل عن طريق سيطرة العمال على وسائل الإنتاج والتوزيع والتبادل. وتدير المصانع ووحدات الإنتاج والعمل مجالس عمالية نقابية "
في بداية السبيعينات جاء محي الدين محمد الي الدوحة ليعمل متعاقدا مع التلفزيون القطري كرئيس للقسم السياسي , اختاره الطيب صالح الذي كان وكيلا لوزارة الثقافة والاعلام لهذه الوظيفة القيادية من بين عدد من الذين تقدموا لها, وامتاز عليهم محي الدين لإجادته اللغة الانجليزية نطقا وترجمة , واصاب رجاء النقاش رئيس تحرير مجلة الدوحة بعد الدكتور محمد ابراهيم الشوش ذعر شديد من وجود محي الدين في قطر وتعاونه مع المجلة في عهد الشوش ,وعندما احس محي الدين بهذا توقف من تلقاء نفسه عن الكتابة في المجلة مترفعا عن تصرفات النقاش الذي كان يخاف ان يحل محله كرئيس للتحريروهوامر لم يرد علي باله كما حدثني الصديق الراحل عبد الواحد كمبال, كنا كمبال وانا نزور محي الدين ونسهر معه احيانا في شقته الفخمة في عمارة المالكي, كان متواضعا تواضع العلماء ودودا مع الجميع, غادر محي الدين عائدا الي القاهرة في عام 87 علي ما اظن ومن ذلك اليوم انقطعت اخباره إلا من نذر يشير علمت منه انه طريح فراش المرض و الشيخوخه , اقترح علي اتحاد الكتاب السودانيين وعلي رأسه الصديق كمال ان يتحروا اخبار هذا المفكر الكبير وان يصلوه اذا تيسر ذلك, بل ان يكرموه في زمن جار حكامه الجددعلي الفكر والثقافة وعلي كل شيء, شكرا مرة اخري للصديق كمال الذي تذكر هذا الهرم الفكري محي الدين محمد .
sedig meheasi [s.meheasi@hotmail.com]