عرض لكتاب “الكبابيش: قبيلة سودانية عربية” … ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 





عرض لكتاب "الكبابيش: قبيلة سودانية عربية"

The Kababish, a Sudan Arab Tribe

شارلس جبرائيل سيلقمان وبرندا زي. سيلقمان

C.G. Seligman and Brenda Z. Seligman

بقلم: آر. ديفسR. Davis

ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة لبعض ما جاء في عرض بقلم المفتش الإداري البريطاني آر. ديفس عن كتاب عنوانه "الكبابيش: قبيلة سودانية عربية" للبروفسيورشارلس جبرائيل سيلقمان وزوجه برندا زي. سيلقمان،وقامت بنشره "الجمعية الأفريقية" بهارفارد في ماساتشوستس في عام 1918م.  وبحسب ما جاء في الموسوعة البريطانية  للأكاديميين فإن لهذا العالم البريطاني المشهور والمتخصص في الطب البشري ثم في علم الأنثروبولوجيا والذي عاش بين 1873  و1940م   أعمالا مشتركة أخرى مع  زوجه (المتخصصة في المجالذاته أيضا)  منها كتاب "القبائل الوثنية  في السودان النيلي" الصادر في بريطانيا عام 1932م، ولهما أعمال عن السكان الأصليين في بلاد أخري كالفيداس في سيلان (تسمى الآن سيرلانكا)  ومينليزيا (تسمى الآن غينيا الجديدة في المحيط الهادي)، ونشر أيضا كتابا عمدة عن "الأعراق في أفريقيا" و"مصر والشعوب الزنجية في أفريقيا". عاش المؤلفان في السودان بين عامي 1909 – 1912م ثم بين عامي 1921 – 1922م.
كان أهم ما لفت نظري في هذا العرض أنه جاء من مفتش إداري خبر الكبابيش جيدا في غضون سنوات عمله بينهم  وتعلم لغتهم ، ولم تمنعه (وترهبه)  شهرة وعلم وريادة الاكاديميشارلس جبرائيل سيلقمان،  وكونه "أيقونة" في علم الأنثروبولوجيا،  من النظر الفاحص الناقد لما كتب عن تلك القبيلة بعد أن قضى بين ظهرانيها أسابيع  قليلة. في ما كتب ذلك الإداري مثال جيد على الدور الذي لعبه الإداريون البريطانيون في عهد الحكم الثنائي في التعريف بالسودان من نواح قد لا تخطر على بال أحد من نظرائهم اليوم من الذين انحصرت جل اهتمامات معظمهم في الحصول على مزايا الوظيفة والسلطة  وتحصيل الضرائب والعوائد  وتوزيع المواد الغذائية  دون الاهتمام  بالكتابة التوثيقية عن طرق عيش الناس  الذين يحكمونهم ولغاتهم وتقاليدهم وعاداتهم  وثقافتهم.المترجم.
*****            ********           ************    ***********      *******
من محرر المجلة:
لقد قام بروفسيورشارلس جبرائيل سيلقمان وزوجه برندا زي. سيلقمان بنشر العديد من الأوراق العلمية  المهمة عن مختلف القبائل في جنوب السودان، والتي سلطت الضوء على كثير مما كان مجهولا عن تلك القبائل.  بيد أنهما قاما في هذا العمل الذي نحن بصدده بدراسة واحدة من أشهر القبائل العربية في السودان، والتي زارها في شتاء عامي 1911 – 1912م.  لقد نجح المؤلفان في دراستهما هذه في  تطبيق الطرق الانثربولوجية التي لطالما أبدع في استخدامها من قبل  بروفسيور سيلقمان  من قبل  في  دراسة القبائل "المجهولة" التي  لم تتم دراستها من قبل. لا غرو إذن إن اكتشفا ما لم يسبقهما عليه  باحث أنثروبولوجي. لا يمنع هذا بالطبع أن يقوم موظفون حكوميون عاشوا بين ظهرانين هذه القبيلة سنين عددا (وليس أسابيع قليلة) ويتحدثون بلغتهم المحلية  بإضافة بعض  المعلومات  إلى ما سجله المؤلفان، وتصويب بعض ما وقعا فيه من هنات وأخطاء في بعض الأحايين. لذا نعد أنفسنا محظوظين بتلقي هذا العرض لدراسة بروفسيورشارلس جبرائيل سيلقمان وزوجه برندا زي. سيلقمان من السيد آر ديفيس، والذي عمل مفتشا لمنطقة الكبابيش لسنوات طويلة.
***  ****
جمعت مادة هذه الدراسة في غضون زيارة قصيرة قام بها المؤلفان لبادية الكبابيش في شتاء عامي 1911 – 1912م.  وبالنظر إلى الصعوبات الجمة التي واجهها المؤلفان، والتي كان من أهمها جهلهما باللغة العربية، وضخامة المعلومات التي جمعاها كما ونوعا، كان من المحتم أيضا أن تأتي الصورة التي أخذاها عن الكبابيش ناقصة ومبتورة ، وفي بعض الأحايين غير دقيقة تماما.
يعترف  د/ سيلقمان رسميا بأن الكبابيش ليسوا قبيلة  بالمعنى المعروف (إلا من ناحية سياسية) بل هم مجموعة من القبائل أصولها متباينة، وكانت تضم في الماضي قبائل عديدة لم تعد الآن تعد نفسها من قبيلة الكبابيش. بيد أن المؤلفان يذكران  في  دراستهما هذه  بعض العادات والتقاليد والأعراف التي لا توجد في الواقع إلا في الجزء الذي يعيش فيه ناظر الكبابيش، وفي الجزء الذي يقطنه "برارة" (ذوي أصول جعلية)  من الذين لم يلتحقوا بالكبابيش إلا أخيرا. يصف المؤلفان من جهة أخرى شكل خيام الكبابيش ويعدها خاصية تميزهم عن غيرهم، بينما هي في الواقع لا تختلف عن خيام  كل رعاة الإبل الرحل في كردفان وربما في غيرها كذلك. في ما جاء به المؤلفان تعميم كاسح في بعض النواحي واختصار مخل في نواحي أخرى.  فعلى سبيل المثال نجد أن فرع الكبابيش "أولاد عقبة" الذين يسكنون في شرق دار كبابيش ويربون الأغنام  يختلفون في لغة حديثهم عن الكبابيش رعاة الأبل في الغرب، ولا أرى غرابة في أن تكون عاداتهم وتقاليدهم مختلفة أيضا. كتب د/ سيلقمان أن الكبابيش "لهم مناسبة خاصة هي هجرتهم السنوية إلى الشمال الغربي ويطلقون على تلك المناسبة كلمة "نشق". أعد هذه الجملة مثالا جيدا على نوع الأخطاء (اللغوية)  التي وقع  فيها الكاتب إذ أن "النشق" ليس حكرا على قبيلة الكبابيش، وهي لا تعني على أية حال عملية هجرة بعض أفرع قبيلة الكبابيش إلى منطقة "الشمال الغربي" فقد سمعتها عند بعض أفراد الكبابيش بمعنى "الرحيل شمالا" ، فالهجرة السنوية إذن  تشمل كل الكبابيش إلى مناطق مختلفة. فأولاد عقبة مثلا يرتحلون نحو مناطق الجنوب الغربي  حيث يقع جبل أبو تبر.  و"النشغ" كما يجب أن يكتب (وليس "النشق") لا يعني البتة الرحيل نحو الشمال الغربي، بل تعنى – كما جاء في قاموس "محيط المحيط" – أن يفيض الماء في الأودية بعد هطول الأمطار (بحثت في ذلك القاموس فوجدت أن نشع الماء هو سيلانه، وأن  النشوغ هو جريان المياه في الوادي. المترجم).
يذكر د/ سيلقمان أمرين أجد صعوبة في تقبل أي منهما. يدعي د/ سيلقمان أن اللاحقة التي تضاف إلى آخر الكلمة  "أب – ȃb" في اسم فرع القبيلة يشير إلى أن أصلها من الشرق (وبالتحديد من البجا) ولكنه يقول أيضا في معرض نقاشه عن بعض العادات غير الاسلامية  في أوساط الكبابيش  إنها من بقايا عصور ما قبل الإسلام في جزيرة العرب أو من تأثير قبيلة البجا، ثم يضيف إن "ليس هنالك من أدنى سبب لتبني النظرية الأخيرة" ويقصد بها بالطبع  تأثير البجا على عادات الكبابيش. إن كان لنا أن نقبل السابقة، فإن  تأثير البجا يجب أن يشمل أكثر من ثلث قبيلة الكبابيش، وهذا يعني بالضرورة أن هنالك سببا قويا لنعزي وجود عادات غير إسلامية  مشابهة عند الكبابيش  للبجا. لا شك عندي في أن منظور الكاتب لهذا الأمر يحتاج لبعض الإصلاح.
يضخم د/ سيلقمان من ثروة الكبابيش تضخيما مفرطا ويفترض أن الثروة عندهم موزعة توزيعا عادلا، وهذا مما يجافي الحقائق. فالواقع يقول أن ثروة الكبابيش لا تزيد ولا تنقص عما هو معهود عند أي قبيلة في السودان،  وقد يعزى ذلك لكثرة عدد أفراد هذه القبيلة (لا يخفى خطل هذا التعميم الكاسح وعدم منطقية ما خلص إليه هذا المفتش البريطاني. المترجم). ففي المتوسط  فالكباشي يعد أفقر حالا من متوسط رجال المسيرية  والحمر، وأشد فقرا من أفقر رجال الكواهلة.  يمتلك الكبابيش أعدادا من الأغنام تعادل ستة أمثال ما تملكه من الإبل (لا غرو أن كان اسم القبيلة "الكبابيش"!) وأعدادا ما لديهم من الإبل تعادل ضعف ما لديهم من أبقار.  زعم د/ سيلقمان في مقاله أن من عادات الكبابيش أن يقدم الأب الموسر لابنه عند زواجه  مائة ناقة هدية عرس، بينما يقدم الأب الفقير 10 إلى 15 من الضأن،  ويقدم متوسط الحال منهم  نحو 5 إلى 6 من النوق لولده عند عرسه. لا أعتقد أن ذلك يمكن أن يكون صحيحا  فبحسب خبرتي في المنطقة  فعدد الأثرياء  الذين يمتلكون مائة ناقة في كامل  قبيلة الكبابيش قد لا يصلون إلى 12 رجلا، وهنالك رجال كثيرون من مختلف أفرع قبيلة الكبابيش لا يملكون حتى حوارا واحدا، وبحسب معايير الكبابيش فإنه لا يمكن أن نصف من يقدم لولده 5 إلى 6 من النوق بأنه  رجل فقير بأية حال من الأحوال.  يذكر د/ سيلقمان أيضا أن الدية عند الكبابيش تصل  إلى  30 ثورا، والواقع يقول أن بعض أفرع الكبابيش لا تمتلك ثورا واحدا.
ما ذكره د/ سيلقمان عن التنظيم  والتركيبة الاجتماعية  عند قبيلة الكبابيش فيه نظر. فالكاتب لم يوف ناظر القبيلة حقه باعتباره زعيم القوم وأهم شخصية في قبيلته، ويعمل تحت إدارته عدد من الشيوخ والعمد وغيرهم. قد يكون صحيحا أن بعضا من هؤلاء قد تكون لديهم بعض السلطات (المفوضة من قبل الناظر)، وبعضهم قد يكون مهابا مسموع الكلمة  في أوساط فرع قبيلته، بيد أنه من الواجب التنبيه على أن هؤلاء الشيوخ والعمد عادة ما يكونون من عوام الناس وعرضة للفصل أو العقوبة بالغرامة أو حتى بالسجن (سرا) من قبل الناظر. عادة ما يتم اختيار هؤلاء العمد  والشيوخ بالانتخاب المباشر من أفراد فرع القبيلة، بيد أن أمر تعيينهم في مناصبهم  رهين بموافقة الناظر  ولاعتبارات يراها  هو (وليس غيره) عند اختيار من ينوب عنه في إدارة شؤون أفرع القبيلة ، خاصة في جوانب التوريث.
ربما تسببت حقيقة أن أحد كبار مخبري دكتور سيلقمان كان هو الشيخ/ محمد التوم، ولا يخفى ما  لهذا الاختيار للمخبرين من تأثير في المعلومات عن ناظر القبيلة  ومدي سلطته  الفعلية وسلطة الشيوخ والعمد الآخرين، والحقيقة  هي أن كل من يعيشون في "فريق"  شيخ / محمد التوم  إنما يعتمدون اقتصاديا بصورة شبه كاملة على ما يجود به عليهم ذلك الشيخ. لقد كان الرجل يعطيهم الحيوانات التي يملكونها، ويمدهم بالطعام والملبس، بل ويدفع المهر لمن يرغب منهم  في الزواج.
لقد وقع المؤلفان بسبب جهلهما بلغة الكبابيش في أخطاء لفظية وأخطاء في تفسير ما سمعا (يذكر المفتش البريطاني هنا، ولأول مرة في نقده، أن للمقال كاتبان وليس كاتب واحد هو دكتور سيلقمان كما ظل يكرر! المترجم) . من أمثلة  ذلك خلطهما في الأسماء المحلية  للخيم والإبل والنجوم، وتخليطهما في أمور متشابهات أخر. كذلك انتقد الكاتبان اختيار الكبابيش لمعسكر إقامتهم  قرب بئر الماء وتجمع أعداد كبير من البهائم في مكان واحد مما جعل المكان ملوثا بعد أيام قليلة.  لعل المؤلفان لا يدركان أن الاعتبارات الصحية  ليس لها من كبير اعتبار عند الكبابيش والذين تأتي عندهم راحة ورفاه حيواناتهم وتوفير المياه والمرعي لها  في المقام الأول.
كذلك خلط  دكتور سيلقمان في وصف العلاقة بين الشيخ و"الغريب" الذي يقدم على الشيخ من فرع آخر من القبيلة ويقيم  كضيف في "فريق" الشيخ.  زعم دكتور سيلقمان أن مثل ذلك الرجل يسمى "محنة الشيخ "  بينما نعلم إن تلك الكلمة  لا تطلق على الرجل ولكن على المشاعر الطيبة بين الشيخ وضيفه، ويتعدى بالطبع استعمال تلك الكلمة لغير العلاقة بين الشيخ وضيفه.  يمكن أن تطلق كلمتي "سيد محنة"  عند  الكبابيش على أي شخص بغض النظر عن عيشه  مع الآخر أم لا. لعل ما يقصده دكتور سيلقمان فعلا يطلق عليه الكبابيش "جيران الشيخ"، بينما يسمون الضيق الثقيل "الملزق بالقوم" والذي يطيل المكوث  بـ "القعيد" (من وراء ظهره بالطبع!).
ذكر دكتور سيلقمان في مقال ترجمة لعدد من الأغاني الشعبية عند الكبابيش، وحفل ما جلبه الرجل من ترجمة ونسخ لحروف العربية باللغة الإنجليزية (transliteration)جملة من الأخطاء. وهذا مثال واحد للأغاني المعروفة عن الكبابيش والتي جانب المؤلفان في نقلها الصواب :
إن مشت مو سريعة
وإن ضحكت موقريقيعة
ضيفة بهم القيعة
تقول نوار في صقيعة
لا يسمح المجال هنا للتعرض الناقد والمفصل لكل فصول الدراسة الثمانية عشر عن حياة الكبابيش المختلفة ، ولا أزعم أني لي من العلم ما يجعلني أنتقد بعض ما ورد في كل الفصول. بيد أن بعض ما ورد في تلك الدراسة يستأهل الرد. فعلى سبيل المثال يقول المؤلفان أن  "ليس الكبابيش ألعابا منظمة  للأطفال والبالغين" وهذا قول باطل ، فالكبابيشيقومون – خاصة في أيام رمضان- بتناسي الجوع والعطش بالقيام بألعاب تستمر لساعات وساعات، ولهم ألعاب مميزة لا توجد عند غيرهم في كردفان مثل "أم البقرة" و "المنقلا" و أم البنات". ولهم ألعاب مبتكرة أخرى تدور في معظمها حول العصي وأخري عن سباقات الأبل (والثيران  أيضا).
كذلك أغلفت الدراسة في الفصل الثاني عشر ذكر ضريح "أبو غريبة "الموجود على حدود دار كبابيش، و ذكر المؤلفان "الحاج اللين" وكأنه من الكبابيش (بينما هو قرية في ضواحي أم كريدم ببادية دار حامد. المترجم). كان على المؤلفين أن لا يأتيا على ذكر " سيدي الحسن" ضمن ما ذكراه من قائمة  الأضرحة  إذ أن ليس لذلك السيد أي علاقة بالكبابيش.  كذلك فإن في ما ذكره دكتور سيلقمان عن الحلف بالأولياء والصالحين وبالقرآن وبالحنث بالقسم عند الكبابيش  فيه كثير من التخليط، فالكبابيش  لا يرون بأسا من الحنث بقسم  على "مصحف الحكومة" باعتبار أن ذلك أمرا قليل الخطر والضرر. كذلك أنكر المؤلفان  أن الكبابيش يمارسون أي نوع من العرافة  ((scryingوهذا ليس بصحيح،  فهم يضربون الرملخاصة لمعرفة من سرق بهائمهم  وممتلكاتهم الأخرى.
من المعروف أن أول ما يوصى به عالم الأجناس (ethnologist) هو أن يكون دقيقا في عمله كله، وأن يهتم غاية الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة. بالنسبة لي فإن ما كتبه دكتور سيلقمان يقصر عن بلوغ تلك الغاية. بيد أننا نلتمس العذر للدكتور سليقمانوالسيده سيلقمان للأسباب التي ذكرناها آنفا ولقصر المدة التي قضياها في دار كبابيش، بيد أن ما ذكراه من نظريتين حول أصل الكبابيش وعاداتهم وتقاليدهم ذات الأصل غير الإسلامي  سيثير بالقطع شهية الباحثين الآخرين (والمسؤولين كذلك) لمتابعة هذا البحث والتنقيب في شأن هذه القبيلة المتفردة والتي هي في الواقع تمثل مجموعة متعددة من القبائل.


alibadreldin@hotmail.com

 

آراء