زيارة إلى الخرطوم

 


 

 




A Visit to Khartoum

Prof. F. R. Stammersبروفيسور ف ر استامرز

ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة لبعض ما جاء في تقرير لممتحن خارجي بريطاني  قدم لكلية الطب بجامعة الخرطوم موفدا من الكلية الملكية  للأطباء لامتحان طلاب تلك الكلية في صيف عام 1961م. ونشر هذا التقرير في العدد رقم 29 من مجلة  كلية الجراحين الملكية بإنجلترا Surg Engl.  Ann R Coll لعام 1961م.
سيلمس القارئ  أن ذلك الممتحن الخارجي سر بما رأى من مستويات أكاديمية عالية للطلاب، ولعل غيره من الممتحنين الخارجيين لكليات الجامعة الأخرى في تلكم السنوات كانوا أيضا من المشيدين بمستويات طلاب جامعة الخرطوم. وهذا لم يتأت بالصدفة بالطبع، فلكل شيئ سببا، فكان لا بد أن يتميز أولئك الطلاب بسبب عملية المنافسة الحادة و"الاختيار/ الانتقاء الطبيعي"، وقلة عدد الطلاب المقبولين، وجودة الكادر التعليمي، وظروف وبيئة  العيش الممتازة  في جامعة الخرطوم والبلاد عموما آنذاك. وهذا بالطبع ليس من باب البكاء أو التباكي "على الأطلال" أو "النوستالجيا الحادة" على "زمن جميل" غابر، فمن يدري فقد كان يمكن لطلاب اليوم أن ينالوا من الثناء  من الممتحنين الخارجيين (إن كان هذا النظام لا يزال معمولا به) مثل ما ناله من سبقوهم من "المحظوظين" لو توفرت لهم ذات الظروف الموضوعية والذاتية!؟
المترجم
**********     ***********  ******     
كان النظام المتبع للممتحنين الخارجيين  – ومنذ سنوات- هو أن يقوم هؤلاء في غضون الأيام الأولى لزيارتهم  بمقابلة رؤساء الأقسام بالجامعة  وقادة الوحدات بوزارة الصحة، ومدير المستشفى المدني ورئيس معمل استاك. وكان من فوائد تلك المقابلات إعطاء الممتحن الخارجي فكرة عامة عن خلفية ومنطلقات سياسات الدولة فيما يخص الرعاية الصحية للمواطنين، وعن مقدار الحماس والرغبة عند المسئولين  لتقديم أفضل الخدمات الطبية والصحية. ويقوم الممتحنون الخارجيون بعد ذلك بزيارة لبعض أقاليم البلاد (كان نصيبي هذه المرة الجزيرة والاستوائية) ليروا بأعينهم الأحوال والظروف التي يعمل فيها الأطباء وغيرهم من مسئولي الصحة. وأخيرا يعود الممتحنون الخارجيون  ليشهدوا امتحانات الطلاب، وليناقشوا الأساتذة ورؤساء الأقسام عن عمليات التدريس  في الأقسام والمستشفيات، ويراقبوا الطلاب وهم تحت التدريب.
أود أن أشكر البروفيسور ها بتلر عميد كلية الطب ورئيس قسم التشريح فيها، والمسئولين في وزارة الصحة لتكرمهم بتنظيم هذه الزيارة لي، وفي وقت وجيز نسبيا،  للعمل كممتحن خارجي لطلاب الطب، وللتعرف على الخدمات الطبية المقدمة وتقييم عمل الأطباء والعاملين في وزارة الصحة  في بلد كبير كالسودان به نحو 11500000 نسمة.
وعلى الرغم من الوصف الدقيق لأقاليم السودان الذي تجده مفصلا في الكتب والمجلات والخرائط، فإنه من المستحيل أن يتخيل المرء الظروف والأحوال الحقيقة للسودان إلا بعد أن يراها رأي العين. ولقد كنت مهيأ ومستعدا  تماما لما أنا مقبل على زيارته، خاصة وقد سبق أن تعرفت على بيئة أفريقيا وخبرتها في غضون سنتين قضيتهما في خدمة دولة أفريقية مدارية  في الأربعينيات (أثناء الحرب العالمية الثانية)، وكابدت طقسها الحار ورأيت – على الطبيعة-   تأثيرات الأمراض المدارية الشائعة وسوء التغذية وسوء الاتصالات و فشو الأمية على مجمل الأوضاع الصحية والطبية في تلك الدولة  الأفريقية الفقيرة. وإذا أضفنا لقائمة مصاعب الدول الأفريقية الفقيرة نجد  أيضا الوضع المتخلف لبعض القبائل في جنوب السودان، وعادات الترحال المستمر عند بعض القبائل في مناطق أخرى، وسيول المهاجرين من دول أخرى في غرب أفريقيا وهم يعبرون السودان في  سفرهم البطيء للحج في مكة (ويحملون أحيانا من الأمراض ما الله وحده بها عليم)، إذن لأدركنا صعوبة بل وحرج الوضع الصحي والطبي في السودان. وعند حدوث وباء كالتهاب السحايا أو مرض النوم أو الحمى الصفراء ينتشر المرض سريعا ويصيب أعدادا كبيرة من السكان في وقت وجيز. وتنتشر الملاريا في الجنوب والمادورا (النبت) و البلهارسيا في الشمال، والسل بأنواعه في سائر أنحاء البلاد، والجزام (في مناطق محدودة وبأعداد قليلة من المرضى). و على الرغم من كل تلك الأعداد من الأمراض الفتاكة فإنه ليس بالبلاد حاليا سوى 250 طبيبا فقط (بمعدل طبيب واحد لكل 70 إلى 80 ألف نسمة)، يقبع معظهم في العاصمة بمدنها الثلاث (بحسب سجلات المجلس الطبي حتى أبريل 2012م  يوجد بالسودان الآن 41812 طبيبا. المترجم). ولعل هذه الأرقام تؤكد أن الاستراتيجة الأمثل للدفاع ضد هذه الأمراض الفتاكة هي الوقاية بالحفاظ على  مستوى معقول من الصحة العامة والنظافة واتخاذ كل الإجراءات المعروفة للحد من انتشار الأمراض المعدية. ويبدو لي أنه من البداهة القول بأنه في هذه المرحلة من تطور البلاد فإن الاهتمام بالطب الوقائي سينقذ أرواحا  من الموت والأمراض الفتاكة  بأكثر مما تفعل آخر صيحات الطب العلاجي والجراحة المتقدمة، وأنه من الواجب زيادة أعداد الأطباء المؤهلين حتى يمكن الاستجابة لكل احتياجات المواطنين في العلاج والوقاية من الأمراض، خاصة وأنه توجد أيضا  بالبلاد كثير من الأمراض الأخرى (غير الأمراض المدارية).  وهنا لا بد لي من أن أشدد على دور مساعدي الأطباء في عمليات العلاج والوقاية ضد كثير من الأمراض. وعادة ما يتم أختيار هؤلاء من بين أفضل  الممرضين المجيدين، ويتم تأهيلهم لمدة عامين كاملين. وتعاني البلاد كذلك من شح خطير في الأختصاصين في مختلف فروع الطب. ولهذا تعمل الدولة على نقل من يحتاجون لجراحات خاصة إلى الخرطوم بالطائرات، لأن معظم المستشفيات الإقليمية لا يوجد بها ما يكفي من التجهيزات أو الأخصائيين للقيام بتلك الأنواع من الجراحات. فعلي سبيل المثال لا يوجد (ولعددد من السنين)  جراح واحد بمستشفى مدينة جوبا، ولم يصلها  ومنذ ستة أعوام إختصاصي أمراض نساء وتوليد إلا هذا العام   رغم أن بالمدينة مستشفى يسع 400 سريرا.
الخرطوم
تتكون الخرطوم – بحسب ما تقول كتيبات السياحة الرسمية- من ثلاث مدن يربطها جسران (لم يكن كبري شمبات قد شيد بعد. المترجم) هي الخرطوم وأمدرمان والخرطوم بحري. وتعد أم درمان أكبر مدينة في السودان، وبها أكبر سوق شعبي كذلك، وغالب مبانيها من بيوت بنيت بالطين، خلا عدد قليل من المباني الحكومية. والخرطوم  على العكس من أمدرمان لها طابع عالمي، وهي المقر الرئيس للوزارات والمؤسسات المالية والتجارية  والحكومية الأخرى، وبها عدد من المدارس الجيدة ومستشفى ممتاز ومنازل جميلة، بل ومسرح مكشوف (open -air). وتزايد العمران في المدينة في السنوات الأخيرة فكثرت فيها العمارات ذات الطوابق الخمس أو الست. وتوسعت جامعة الخرطوم منذ أن رأيتها لآخر مرة منذ  تسعة أعوام (1952م)، فزادات المباني في كلية الطب وبني مستشفى مدني تدريسي  جديد مثير للاعجاب ويشير لروح تقدم لا تعرف التراخي أو الجمود. أعجبني في هذا المستشفى الحديث حسن تخطيطه وجودة تأثيثه وارتباطه الوثيق بالعملية التدريسية والتدريبية بكلية الطب. وكما هو الحال في بلادنا، فيساعد في التدريس للمواد السريرية (الاكلينيكية) مثل الطب والجراحة والتوليد بعض الأختصاصيين في وزارة الصحة. ولا تزال عمليات التطوير والتجديد في  هذا المستشفى تمضي حثيثا، فقد أنشيء قبل عام بنك للدم  وأضيفت عدة أجهزة لقسم الأشعة به (بما في ذلك جهاز متقدم  لتصوير القلب والأوعية الدموية angiocardiography). واستمرارا لعملية التطوير والتحديث بدأت الفتاة السودانية تقتحم وبقوة  مجال دراسة التمريض. وكانت آخر التطورات التي تعرفت عليها خلال زيارتي هي تعيين اختصاصين اثنين في مجال التخدير، أحدهما في كلية الطب والآخر في وزارة الصحة.
كان أكثر شيئ أعجبني  في كل ما رأيت من أعمال مجيدة  ومفيدة للمواطنين هي البيئة المحفزة (stimulating environment) للعمل التي لمستها عند كل من قابلتهم من العاملين في الحقل الطبي والصحي، وجلهم من المتميزين في تعليمهم وتدريبهم وتخصصهم. بيد أنه ما أن تغادر العاصمة لأميال قليلة فقط  حتى تصدمك الصحراء الواسعة وقراها التي تعيش عيشة بدائية وبالغة البساطة. ولا يخفي على أي مراقب ملاحظة مدى التفاوت المريع في كم ونوع الخدمات الطبية والصحية المقدمة للمواطن الذي يقيم خارج حدود العاصمة المثلثة. ففي خارج العاصمة يعمل الطبيب العمومي  في مختلف التخصصات (Jack of all trade).
سرني أن علمت أن كلية الطب بصدد زيادة عدد المقبولين بها إلى أربعين طالبا، وإلى خمسين في الأعوام المقبلة، وهي تعمل أيضا  على تأهيل أعداد أخرى من الأطباء للتخصص في فروع الطب الأخرى. وفي هذا الأثناء يمكن العمل على استجلاب من يرغب من الأخصائيين الشباب من بريطانيا العظمى للعمل في مساعدة السودانيين في المجالات الطبية المختلفة، ولا شك عندي أن هنالك رغبة كبيرة عند هؤلاء للمجيء للسودان لعامين أو ثلاثة للعمل في مناطقه المختلفة.
بعيدا عن الخرطوم
الجزيرة
تملكني الاعجاب لما لمسته من روح التقدم في هذه المنطقة، فمشروع الجزيرة توسع بما يزيد عن ضعف مساحته القديمة، وسيزرع  فيه قريبا مليونا من الأفدنة بالقطن، ذلك المصدر الوحيد للدخل في البلاد. ويقطن في الجزيرة نحو نصف مليون من الأنفس، منهم 30 ألفا من المزارعين، و200 ألفا من العمال الموسميين. ولمجابهة هذه الزيادة السكانية تفكر إدارة المشروع في إنشاء قرى جديدة بها كل ما يلزم لحياة معقولة من إضاءة في الشوارع وآبار ومدارس.
في الطريق إلى واد مدني عرجنا علي مركز صحي متميز بالحصاحيصا يقوم بتدريب القابلات والعاملات في مجال رعاية الطفولة والأمومة.
يقطن بمدينة وادي مدني حوالي 35 ألفا من السكان، وبها مستشفى ممتاز يسع لنحو 670 سريرا، ويتوقع زيادة سعته بـ 400 سريرا آخر. وبذلك المستشفى اختصاصي للطب وللجراحة وللتوليد كذلك، وبها مركز يتبع لمنظمة الصحة العالمية لمكافحة مرض السل، ومختبر مجهز تجهيزا طيبا، وقسم متقدم  للأشعة.
وإلى الجنوب توجد مدينة سنار (وهي تحتضن الخزان الشهير الذي يغذي مشروع الجزيرة بالماء اللازم لري القطن). وبتلك المدينة مستشفى أصغر وأبسط مما هو موجود بمدني وبه 400 سريرا، وبه أيضا جراح مختص وطبيب أمراض نساء وولادة. وملحق بالمستشفى قسم مختص بمكافحة الملاريا يتبع لمنظة الصحة العالمية.
ومن الآثار الضارة لمشاريع الري هي انتشار مرض البلهارسيا، وترى في كل مكان لوحات إرشادية تحث الناس على عدم  الاغتسال أو الاستحمام في قنوات الري، وتشاهد كذلك وسائل المكافحة المعتادة من أكياس كبريتات النحاس وغيرها. لقد رأيت في زيارة خاطفة لمستشفى سنار حالات متنوعة شملت على سبيل المثال لا الحصر حالات فتاق وكسور وحروق (من حرائق الغابات) وسل وبلهارسيا ومادورا (النبتة) وسوء تغذية وجزام وحالة نادرة من جحوظ عين واحدة.
الاستوائية
تختلف الاستوائية جدا عن ما شاهدته في الخرطوم والجزيرة.  فطبيعتها الجغرافية ليست صحراوية، ولكن بها تلال وأشجار كثيفة ومجاري نيلية تمتليء بعد هطول الأمطار فتغدو سيولا عارمة. وتتعدد  اللغات والأعراق في الاستوائية، وتختلف عن ما هو متداول في الشمال، فبالجنوب قبائل أكثر بدائية مما في الشمال، وتعاني من مشاكل تواصل فيما بينها بسبب اختلاف اللغات واللهجات. وتمثل اختلافات اللغات حاجزا قويا لدي المساعدين الطبيين (الذين هم عماد الخدمة الطبية في الجنوب) مما يجعل توزيعهم في مناطق الجنوب المختلفة معضلة كبيرة.
لقد كان دكتور عثمان إبراهيم نعم  الدليل والمرشد لي في أيامي في الجنوب، وقد أتى حديثا للجنوب وسيحل محل دكتور عباس حامد نصر حكيمباشي مستشفى جوبا ( ذو الـ 400 سرير)، والذي سينقل إلى كسلا  قريبا.
(سجل الكاتب بعد ذلك  وببعض التوسع ما رآه من تطور وتوسع في مباني كلية الطب، خاصة قسم الجراحة. المترجم).
اجتماع الممتحنين
شكرنا مدير الجامعة في اجتماعه بالممتحنيين الخارجيين للجامعة، وقمت بالرد عليه شاكرا إنابة عن بقية الممتحنيين.
قلت له إن الامتحانات قد مرت كلها بيسر وسلاسة، ووجدنا أن الطلاب يتمتعون بمقدرات ومهارات جيدة، وفي قليل من الحالات برز بعضهم بصورة لافتة  تنتزع الإعجاب. وذكرت له أن هذا إنعكاس لنوعية المدرسين والتدريس بالجامعة ولحسن اختيار الطلاب بها.
كان من ثمار امتحانتنا تلك أن زادت ثروة السودان بإثنين وعشرين طبيبا مؤهلا!


alibadreldin@hotmail.com
/////////////////

 

آراء