قلاقل في دارفور (2) … ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
Trouble in Darfur
من فصل في كتاب "المحاربون السودانيون ""The Fighting Sudanese
تأليف: ها . س. جاكسون H. C. Jackson
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذا تلخيص لما ورد في فصل بعنوان "قلاقل في دارفور" في كتاب صغير الحجم عنوانه "المحاربون السودانيون" صدر عام 1954م عن دار نشر ماكميلان بلندن لمؤلفه ها. س. جاكسون، والذي عمل في السلك الإداري في دولة الحكم الثنائي لخمسة وعشرين عاما متصلة في بربر وحلفا ومدني وغيرها من مدن السودان.
يشيد الكتاب بالسودانيين شعبا محاربا شجاعا، ويذكر طرفا مما شهده من حروبهم، وأهدى لهم كتابه هذا بقوله: "إلى شعب السودان، والذين خدموا بإخلاص وحاربوا بشجاعة من أجل حرية البشرية".
ونشر المؤلف أيضا كتبا أخرى عديدة عن السودان منها "عثمان دقنة" و"السودان: أيام وعادات" و"الزبير باشا السلطان تاجر الرقيق" و"السودان الحديث" ومقالات متنوعة منها مقال شهير عن الأمثال السودانية سبق لنا ترجمته. المترجم
************* **********
في 17 سبتمبر ( سنة 1921م. المترجم) غادر المندوب الأول الذي بعثه مفتش نيالا إلى الفاشر مدينته حاملا أنباء التمرد، وقطع المسافة بين نيالا والفاشر والبالغة 120 ميلا في المدة المعتادة وهي خمسة أيام.
وعلى الرغم من أن السيد ماكنيل مفتش نيالا لم يطلب عونا عسكريا، إلا أن السيد نكولوس نائب مدير مديرية دارفور أحس بأن الأخبار الواردة من نيالا خطيرة بما فيه الكفاية وأن عليه إرسال تعزيزات عسكرية لنيالا.
وعلى الفور أمر بأن تغادر الفاشر قافلة مكونة من أربعة وستين جنديا من فيلق عرب الغرب (Western Arab Corps) عند الساعة الثالثة من صباح يوم 23 سبتمبر وأعطيت لها أوامر صارمة بأن تكون في نيالا في أو قبل يوم 28 سبتمبر.
وتصادف أن كان الضابطان البريطانيان الوحيدان في الفاشر مريضين فتولى القيادة ضابط سوداني هو النقيب بلال أفندي رزق، في رفقة ضابط سوداني آخر هو ملازم ثاني سعد أفندي عمر كنائب له.
وفي غضون الأيام القليلة التالية بعث السيد ماكنيل من نيالا بخمس رسائل إضافية وصلت إحداها للفاشر في يومين فقط.
وكان واضحا أن السيد ماكنيل كان في حالة كرب شديد وخطر عظيم. فقد جاء في رسالته ما يلي : "لقد حصنت مباني المركز ونصبت أسلاكا شائكة حولها. وإلى الآن لم أتبين حقيقة الفكي السحيني أو أتلقى أي معلومات عنه. يبدو الأمر غريبا الآن، وأخشى أن تكون هنالك مؤامرة شاملة، وأن الأهالي بالمدينة والذين يدعون أنهم سيحاربون بكل ما لديهم من قوة على علم مسبق بهذه المؤامرة ... لدي الآن خطاب بعث به إلي الناظر أبو الحميرا مع مندوبين يفيد بأن لهذا الفكي عدد كبير من الأتباع، وسمعت من المندوبين أن للرجل نحو ثمانمائة أو تسعمائة من الجنود. ولدي شعور عميق بأن هؤلاء المندوبين من الخونة، بيد أني أصدق تقديرهما لعدد أتباع الفكي. حسنٌ... إن كان عدد هؤلاء كما زعم هذان الرسولان فسوف تكون أمامنا معركة حامية الوطيس. إن سمعة الدارفوريين أمام نيران البنادق ليست حسنة، وسنذيقهم إياها نارا لهبا. وليس أمامهم من سبيل غير إضرام أسقف بيوت المركز، ولكننا سنصمد حتى النهاية..... آسف جدا لأنني أشعر الآن بالاكتئاب، ولكن يجب أن لا تقلقوا علينا، وأن تدركوا أن كل فرد منا هنا سيفعل أقصى ما في وسعه.... وإن بعثتم لنا بتعزيزات فستجري الأمور على ما يرام."
وبدأت فرقة المشاة المحمولة سيرها ببطء نسبي، وقبل أن تقطع مسافة طويلة قابلت أحد رسل السيد ماكنيل وهو يحمل للمسئولين في الفاشر رسالة مكتوبة باللغة الإنجليزية لم يستطع أحد قراءة كلمة واحدة منها.
ولكن خمن النقيب بلال أفندي رزق، وبعد أن رأى بعض الكلمات مكتوبة بالقلم الأحمر على ظرف الخطاب، أن الأمر جد خطير فجذ في السير.
وعند منتصف الليل، وبعد أن كان الجنود قد ساروا ثماني ساعات، توقفوا لأخذ استراحة قصيرة، ولكن سرعان ما جاءهم مندوب يحمل رسالة إلى النقيب بلال أفندي رزق تنبئه بأن الحالة في نيالا حرجة جدا، وأن عليه أن يصلها ليلة الأحد أو قبلها.
وهب الجنود من فورهم عقب سماعهم لفحوى تلك الرسالة لمواصلة مسيرتهم القاصدة نيالا دون توقف ولم يضيعوا دقيقة واحدة إلا لتناول لقيمات، ولإطعام خيولهم وسقياها.
وفي العاشرة من مساء يوم السبت وصلت فرقة الجنود إلى منواشي وحينها لم تعد البغال التي كانت تحمل المؤن قادرة على مواصلة السير، ولم يكن هنالك من بد من إنزال ما عليها من أثقال، ووضعت على قليل من تلك البغال الذخيرة وملابس الضباط.
وواصل بعد ذلك الجند مسيرتهم وهم يرددون الأهازيج الحماسية في روح معنوية عالية وفي شوق عارم لخوض المعركة المنتظرة. وعند الثالثة صباحا من يوم الأحد لاحت لهم من بعيد معالم نيالا، والتي وصلوها بعد 48 ساعة من تحركهم من الفاشر، ودون أي خسارة في الرجال أو الخيول.
وفي الفاشر، وبعد مغادرة تلك الفرقة لها بساعات قليلة آب الرائد شون (وهو من الفيلق البيطري الملكي) إلى مطعم الضباط بعد يوم طويل قضاه في صيد البقر الوحشي.
وعندما سمع بأنباء القلاقل في نيالا تطوع من فوره للذهاب لنيالا، حيث أنه كان قد وعد زميلا له بزيارة السيد ماكنيل في نيالا في أقرب فرصة تتاح له.
كان الرائد شون يدرك مقدار الأخطار التي قد يتعرض لها في نيالا، بيد أنه لم يلق لها بالا وقام بتوديع الرقيب الذي يعمل معه وهو يقول : "من الممكن أن لا أعود ثانية... فلا تبتئس!"
بدأ الرائد شون رحلته في رفقة رجل شرطة وخادمين عند منتصف الليل، وقطع في اثنين وعشرين ساعة مسافة قدرها اثنين وسبعين ميلا قبل أن تنهار الجمال التي كانت تحمل الأمتعة.
عندها أركب شون خادميه على جمل واحد، ومضى مواصلا الرحلة الطويلة إلى أن انهارت قوى حصان رجل الشرطة الذي كان يرافقه، وبدأ حصانه هو في العرج.
لم يثنه كل ذلك فمضى في سيره مشيا بالأقدام تحت حر قائظ حتى وصل نيالا قبيل الساعة الثامنة من صباح يوم الاثنين 26 سبتمبر بعد رحلة عسيرة استمرت دون انقطاع ستين ساعة كاملة.
دلف إلى المدينة من الناحية الشمالية الشرقية فوجدها مهجورة خاوية على عروشها، إلا أنه وجد على الأرض بعض قصاصات من أوراق مكتوب عليها "لا تخافوا... هذه التعويذة (البخرات) ستحيل رصاص الحكومة إلى ماء" مما أكد له أن العدو كان قد حل بهذه المنطقة. سار شون نحو مبنى المركز حيث وجد السيد ماكنيل، وأفراد فرقة المشاة المحمولة ورجال الشرطة وبعض الكتبة والتجار، وكلهم في حالة من اليقظة والحذر والاستعداد لصد الهجوم المرتقب.
********* ******* *****
تقع نيالا على الخط الذي يفصل شمال السودان القاحل عن جنوبه الوافر الخضرة. وتعد تربتها الرملية الحصبائية امتدادا للظروف المناخية التي سادت المنطقة، إلا أن وجود أشجار الأكاسيا الصغيرة ومجموعات أشجار الدوم والتبلدي الضخمة تبين أن المياه الجوفية ليست غؤُوراً تحت الأرض، وعادة ما تهطل في فصل الصيف أمطار
تكفي لجني محصول وافر من الذرة والدخن والسمسم يسد حاجة سكان لا يقومون بكثير من الأنشطة البدينة.
وعلى بعد مائة وألف ياردة إلى الجنوب من مبنى المركز يوجد خور لا تجري فيه المياه إلا عقب هطول أمطار غزيرة، بينما تحيط بالمكان من جهتي الغرب والجنوب أشجار اللعوت الكثيفة.
وأما من جهة الشرق فتوجد مساحة خالية مفتوحة ليس فيها غير بعض قطاطي الأهالي وشجرة تبلدي ضخمة (ستبين لاحقا أهميتها في المعركة التي دارت بالمكان). وإلى الشمال يقع السوق، والذي بعث له ملازم ثاني سعد أفندي عمر مع خمسة عشر من الرجال من أفراد فرقة المشاة المحمولة.
قد يبدو للوهلة الأولى أن تشتيت قوة صغيرة كهذه ليس من الحكمة في شيء، ولكن - وكما أثبتت الأحداث لاحقا- فقد أنقذ ذلك التحرك الموقف في ذلك اليوم.
لم تكن لنيالا في أيام التمرد تلك أي نوع من الدفاعات، إذ لم تكن في أي مبنى فيها حلقات تحصين، وكانت أسقفها من القش اليابس والذي يسهل اضرام النار فيه.
ولا يوجد في السودان قاطبة إلا فيما ندر أي مبنى يمكن أن نطلق عليه بحق اسم "قلعة"، وحتى عند وجود هذه "القلعة" فهي في حقيقة الأمر لا تعدو أن تكون زريبة من نبات شوكي يحيط بمعسكر حربي.
وكانت سياسة الحكومة تعتمد على الدخول المسالم (الناعم) لضابط أو موظف مدني يطوف مع رجل أو رجلين من الجيش أو الشرطة. ولم تكن القوة العسكرية تستخدم إلا عندما تثور قبيلة جامحة (wild) وتتحدى السلطات أو تغير على جيرانها وتنهب أبقارها وعبيدها كما كان يفعل كثيرا منهم في الأيام الخوالي.
كانت نيالا مدينة تصعب السيطرة عليها، إذ لم يكن فيها ما يعرف عند العسكريين بـ (field of fire) فعند الخور في جهة الجنوب يمكن لجند العدو أن يحتشدوا دون أن نراهم، ولا يمكن لنا رؤيتهم وهم على بعد سبعمائة ياردة إلا بعد أن يعبروا بسلام التلال الرملية. ولا يمكن لمن وضعناهم من جنود الاستطلاع على سقف السجن أن يعلموا شيئا عن تحركات العدو إلا بعد أن يكون على بعد أربعمائة ياردة فقط منا.
وبعد عشرين دقيقة من وصول الرائد شون ثار النقع وغطت موجة عاتية من الغبار المكان معلنة عن بدء المعركة المنتظرة، وتعالت صيحات الدراويش وطبولهم وهم يرددون: "الدين منصور...منصور الدين....نجاهد في سبيل الله" ويندفعون للقاء جنود الحكومة. وكان ملازم ثاني سعد أفندي عمر مع خمسة عشر من جنوده يحرسون منطقة السوق في شمال شرق المدينة، بينما تمركز في جهة الغرب نحو ثلاثمائة وأربعمائة جندي من "قوات صديقة" كانوا (وباستثناء قوات سلطان كبكبيه) لا يعتمد عليهم. كان السيد ماكنيل قد صرف لهؤلاء الجند شارات حمراء ليميزهم عن قوات الفكي المهاجمة، إلا أن معظمهم أطلق ساقيه للريح لحظة المعركة، بينما نزع آخرون شاراتهم الحمراء وانضموا للمتمردين.
وفي مبنى المركز نفسه بقي السيد ماكنيل والرائد شون مع أربعين من المدنيين وحرس السجون بقيادة الملازم أول حسن محمد الزين مسلحين بالبنادق الصغيرة، وخمسين من رجال فيلق عرب الغرب بقيادة النقيب بلال أفندي رزق.
كان المتمردون يحملون الحراب والسيوف العريضة ويتقدمون على ثلاثة محاور وتحت رايات تسع نسج أو كتب على كل منها آيات قرآنية.، بينما أتى الفكي عبد الله السحيني مع مائتين إلى ثلاثمائة من الخيالة وتقدموا شرقا حتى يقطعوا الطريق على كل من يضطر للانسحاب والتراجع للفاشر. تقدم بعض المتمردين شمالا نحو قطاطي الأهالي فأضرموا فيها النيران.
وفي هذه العملية فقد المتمردون المئات من رجالهم، وكانت خسائرهم ستكون أفدح لولا خشية ملازم ثاني سعد أفندي عمر من أن تصيب نيرانه بالخطأ من هم بالمركز. كذلك أفلح سلطان كبكبيه في صد المعتدين من جهة الغرب. ولكن كانت الكثرة هي الغالبة فتدفق المتمردون عبر الأسلاك الشائكة واستولوا في أقل من عشرة دقائق على المركز، وقتل في ذلك الهجوم الرائد شون وثلة من رجال فيلق عرب الغرب. وقتل كذلك السيد ماكنيل وهو يحاول التسلل للإسطبل مع بعض رجاله من أجل الانسحاب ومعاودة الكرة مع العدو في يوم آخر.
وعند الساعة التاسعة إلا ربعا صباحا كان الموقف كالتالي: كان نحو خمسين من الدراويش يعيثون فسادا في المركز ويسلبون ويحرقون مباني الحكومة، (! المترجم) وكانت قطاطي الأهالي تحترق، بينما تمركز الفكي عبد الله تحت شجرة التبلدي الضخمة في شرق المدينة.
وبقي ملازم ثاني سعد أفندي عمر في منطقة السوق مع رجاله الخمسة عشر (والذين لم يهاجمهم المتمردون) دون ذخيرة بعد أن استنفدت بالكامل. وكان بقاؤهم في تلك المنطقة يعني الموت المحقق فقرر الرجل أن يغامر بمحاولة استعادة مبنى المركز، والذي كان جزء منه يحترق ربما بسبب نيران كان حراس السجن قد اشعلوها لطبخ طعامهم وذلك قبيل هجوم المتمردين.
وهكذا انتهى الفصل الأول من معركة نيالا.
alibadreldin@hotmail.com