قلاقل في دارفور (/33) .. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 




قلاقل في دارفور (/33)

Trouble in Darfur

من فصل في كتاب "المحاربون السودانيون  ""The Fighting Sudanese

تأليف: ها . س. جاكسون  H. C. Jackson

ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذا تلخيص لما ورد في فصل بعنوان "قلاقل في دارفور" في كتاب صغير الحجم عنوانه "المحاربون السودانيون" صدر عام 1954م  عن دار نشر ماكميلان بلندن لمؤلفه ها. س. جاكسون، الذي عمل في السلك الإداري في دولة الحكم الثنائي لخمسة وعشرين عاما متصلة في بربر وحلفا ومدني وغيرها من مدن السودان.
يشيد الكتاب بالسودانيين كشعب محارب شجاع، ويذكر طرفا مما شهده من حروبهم، وأهدى لهم كتابه هذا بقوله: "إلى شعب السودان، والذين خدموا بإخلاص وحاربوا بشجاعة من أجل حرية البشرية".  ونشر المؤلف أيضا كتبا أخرى عديدة عن السودان منها  "عثمان دقنة" و"السودان: أيام وعادات" و"الزبير باشا السلطان تاجر الرقيق" و"السودان الحديث" ومقالات متنوعة منها مقال شهير عن الأمثال السودانية سبق لنا ترجمته.  المترجم
*************         **********
عند تقدم الملازم ثاني  سعد  أفندي عمر نحو المركز فر المتمردون وهم يسابقون الريح محاولين النجاة من زخات طلقات البنادق التي كان  يقذفهم بها رجال الشرطة وحراس السجون (وبعضهم كان مصابا بجراح خطيرة). واتخذ النقيب بلال رزق والملازم ثاني سعد  أفندي عمر وجندهما (والذين بلغ عددهم الآن ستة وأربعين رجلا)  وعدد آخر من الموظفين موقفا دفاعيا في جهة الشرق على بعد مائة ياردة  من مباني الحكومة، بينما كانت طبول نقارة الفكي السحيني تدق منادية جنده للتجمع حوله تحت شجرة التبلدي.
صدم الملازم ثاني سعد  أفندي عمر  عند استرداده للمركز عندما وجد أن ما كان عند فيلقه من الذخيرة قد أشرف على النفاد، بيد أنه سر أيما سرور عندما أخبره ابن لأحد الكتبة أن بالمخزن نحو أحد عشر ألفا من الطلقات النارية.
ساد الصمت مسرح المعركة لدقائق معدودة، ولم يكن الملازم ثاني سعد  أفندي عمر يريد أن يتيح للفكي السحيني ودراويشه فرصة إعادة تنظيم قواتهم ففتح عليهم نيرانا كثيفة لاستفزازهم كي يهاجموا قواته. وبالفعل فعلوا ما أراد لهم فعله، وكانت قوة نيرانهم  بسبب عددهم الضخم كبيرة جدا.
والآن بدأت أكثر حوادث تلك المعركة بطولة، إذ شاركت زوجات رجال الشرطة وحراس السجن الرجال في القتال. ومع أصوات الزغاريد العالية الحادة كن يقاتلن، ويحثن الرجال على الصمود، ويجلبن الذخيرة والماء من حوض كان على بعد خمسين ياردة جنوب  سور الأسلاك الشائكة المحيطة بالمركز.
لم يحفظ لنا التاريخ غير اسماء قليل من هؤلاء البطلات (بطلات من منظور الكاتب بالطبع.. المترجم) بكل، وهن: حمدة زريقة ومريم أم ديرا. وفي تلك المعركة استولت مريم على صندوق للذخيرة وحاولت فتحه برميه على الأرض مررا، إلى أن عثرت على فأس حطمت به الصندوق.  وفي قصة أخرى من قصص بطولات النساء قامت حمدة زريقة بمساعدة رجل اسمه زيتون كان يحرس نساء مدينته بسيف وحيد. جمعت تلك المرأة عددا كبيرا من الحراب، وظلت تقدم للرجل تلك الحراب واحدة بعد أخرى ليقذفها في وجوه المهاجمين. وكذلك أبدت شجاعة فائقة عندما تصدت لمن سرق متاع سيدها وناقته وحماره، وجرت خلفه وافلحت في إجباره على التخلي عن ما سرقه!
لم تكن هنالك لحظة من لحظات المعركة لم تشارك فيها النساء بجهد ما. وعندما كانت البنادق تصبح حارة لا يمكن مسها، كن يجلبن الماء في جرار ويقمن بتفريغها علي البنادق حتى تبرد.
ورغم صمود المدافعين، فقد ظل المتمردون يتقدمون رغم  خسارتهم لأرواح بعض منهم مع كل ياردة يكسبونها، ولكن بدا تقدم المتمردين برغم كثافة النيران المصوبة تجاههم وكأنه تصديق لنبوءة الفكي السحيني بأن رصاص الحكومة سيستحيل ماء.
ومضت المعركة تزداد أوارا، ومع مرور الدقائق والساعات أخذت ذخيرة جند الحكومة في النفاد، حتى حدث فجأة ما قلب موازين القوى، وكانت تلك من اللحظات العابرة والتي كثيرا ما غيرت نتيجة الحرب في كثير من أرجاء العالم عبر تاريخه. شاهد أحد جنود الحكومة الفكي السحيني من على بعد مائة وخمسين ياردة  في رفقة حامل الراية وضارب النقارة ونافخ البوق (البروجي). أطلق الجندي طلقتين ناريتين على ضارب النقارة والبروجي فصمتا وإلى الأبد فتزعزع المهاجمون لهنيهة إلا أنهم استفاقوا  بعيد تلك الصدمة واستأنفوا الاندفاع. وانتهز الملازم ثاني سعد  أفندي عمر السانحة وأمر أحد رقبائه المجيدين  بالتصويب على الفكي السحيني وحصانه، وما هي إلا لحظات وقد هوِي الفكي جريحا من على فرسه، والذي أصيب هو الآخر في مقتل.
وجَم المهاجمون عندما رأوا رأي العين زعيمهم مجندلا على الأرض، فلم يكن الرجل بالنسبة لهم قائدا عسكريا فحسب، بل كان رجلا ذا قدرات غير طبيعية نجح باستغلالها في غسيل أدمغتهم وإيهامهم بأنه النبي عيسى. وبسقوطه سقطت هممهم وانحسر هجومهم.
ولم يبق أمام المتمردين إلا أن بنسحبوا ليتبعهم جنود قوات سلطان كبكبيه الصديقة، ويمطرونهم زخات من نيران طلقات البنادق التي ورثها هؤلاء من رجال الشرطة الذين سقطوا صرعى.
وعند العصر وارت قوات الحكومة جثث  قتلاها الثرى، وظل رجال الحامية المنهكون واقفين وسط أكوام قتلى المتمردين وجرحاهم  وهم في ضيق من أنينهم وتأوهم، يحرسون المركز ويترقبون هجوما جديدا من المتمردين لم يقع أبدا (لم يذكر المؤلف ما فعل بمن قتل أو جرح من أتباع الفكي السحيني. المترجم).
وكانت فرقة المشاة المحمولة قد سارت في غضون الخمسة وسبعين ساعة الأخيرة نحو عشرين ومائة ميلا، وقضت ليلة كاملة دون نوم أو راحة وهي في أقصى درجات الاستعداد، وخاضت معركتين شرستين، ومع ذلك فقد توجب عليهم  مكابدة  ليلة أخرى ملؤها السهد والترقب. ولم يكن حال المدنيين الذين كتب عليهم القتال بأحسن حالا من العسكريين، فقد كانوا قد قضوا الأسبوع الماضي كله في كرب وضيق وتحسب.
ونفخ جندي حكومي بوقه ليعلن للناس أن المركز ما زال في يد الحامية، وأن النصر كان حليف الحكومة.
لم يعرف العدد الحقيقي لمن قتل من أتباع الفكي السحيني في تلك المعركة، إلا أن حقيقة أن ستة عشر الفا من الطلقات (rounds) قد صبت نيرانها عليهم تكفي للتدليل على أن عدد القتلى لا بد أن يكون كبيرا.
ولم يبق من الناجين من أُتُونُ تلك المعركة كثير من الرجال ليحكوا تفاصيل ما حدث وكم كان عدهم.
غير أن شهادة أحد سجناء سجن نيالا واسمه الغالي تاج الدين (وقد ثبت فيما بعد أنه كان قد أتهم زورا وبهتانا بخيانة الأمانة وأدين بها) قد تلقي بعض الضوء على ما حدث في غضون ساعات ذلك الهجوم والذي كان السجين يراقبه من باب السجن المصنوع من الأسلاك.
ذكر ذلك السجين أن عدد الدراويش الذين هاجموا المركز يساوي تقريبا ضعف عدد أفراد قبيلته عندما يخرجون في استعراض عسكري (parade)، مما قد يعني أن عدد المهاجمين كان  يتراوح بين أربعة وخمسة آلاف رجل. ولكن لا ينبغي افتراض أن كل هؤلاء كانوا مشتركين فعليا في المعركة، فمعلوم أن بعضهم كان قد وضع كقوة احتياطية في الخور. ويعني هذا أيضا  أن نسبة عدد جنود الفكي الحسيني إلى عدد جنود الحكومة ومن معها كان أربعين إلى واحد في الهجوم الأول، وربما ثمانين إلى واحد فيما تلاه من هجوم.
لقد انتصرت القوات الحكومية حقا، إلا أنه كان انتصارا مأساوي الكلفة.
فقد قتل في المعركة الرائد شون والسيد ماكنيل مع أربعة من الكتبة. وقتل سبعة عشر من فرقة المشاة المحمولة، وكان عدد أفرادها خمسة وستين جنديا. وقتل  نصف عدد رجال الشرطة الأربعين.  
وبالجملة يمكن القول بأن نصف عدد المدافعين قد قتل في تلك المعركة،  وكان عدد القتلى يساوي ضعف عدد الجرحى مما يشير إلى ضراوة المعركة وإصرار المحاربين من الجانبين على انتزاع النصر.
وتم فيما بعد  منح قواد المعركة مثل بلال رزق وحسن محمد الزين نيشان الخدمة الممتازة (Distinguished Service Order) بينما نال الضابط  سعد عمر "الصليب العسكري The Military Cross ، ومنح الآخرون ما يستحقونه من تكريم نظير ايقافهم لتمرد كان من الممكن أن يقود لو كتب له النجاح إلى تمرد واسع الانتشار. وبالفعل كانت قد سرت في بعض مناطق كردفان ودارفور إشاعات عن هزيمة الحكومة شجعت قيام ثلاث حوادث محدودة للتمرد، إلا أن الحكومة قامت، وبسرعة، بإخماد تلك الحركات في مهدها فلم تقم  لها  قائمة.
لم تنس الحكومة دور النساء اللواتي شاركن في تلك المعركة فتم منحهن من أبقار كانت الحكومة قد صادرتها من المتمردين الذين ساهمت أولئك النسوة في دحرهم. وبذا تم تأمين أمر معاشهن في مستقبل الأيام.
******    *******    ***********
من أحداث تلك الأيام الغريبة قصة مندوب كان قد أرسل للفاشر فور انتهاء المعركة وحمل صندوقا مغلقا به قائمة بأسماء من قتلوا أو جرحوا في المعارك خشية أن تصل لعاصمة المديرية أنباء كاذبة واشاعات مغرضة عن أعداد قتلى وجرحى المعركة. ولكن كان ذلك جهدا ضائعا إذ إن أحد خدم السيد ماكنيل كان قد انسل خلسة من نيالا مع أول اشارة لبدء المعركة وهرب للفاشر التي تبعد مائة وعشرين ميلا  يسابق الريح فوصلها في  أربعين ساعة فقط، وهناك أشاع أخبارا وأرقاما كاذبة عن حصاد تلك المعركة. كانت حكاية ذلك الرجل وجبنه مصدرا للتندر والأغاني السفيهة، والتي عاشت بعد مماته لسنوات وسنوات، وظلت متداولة حتى بعد أن طمر النسيان اسم ذلك الخادم.
وظل الناس لعهد طويل يتداولون في جلسات سمرهم المسائية قصص تلك المعركة ويتحدثون عن شجاعة من شاركوا فيها وعن من قاتلوا ببسالة رغم جروحهم النازفة  حتى نفدت ذخيرتهم، ويحكون حكاية الغالي تاج الدين، ذلك السجين البريء، والذي جلبت له زوجه سيفا له مقبض فضي منع به من أراد من المسجونين الهرب والالتحاق بجنود الفكي السحيني، وهو يصيح فيهم: "الدين منصور".
وبقي الناس يذكرون حامد طمبل، ذلك الصبي الغض الذي كان أحد حراس خيول المركز، والذي قتل بمفرده اثني عشر من جنود الأعداء (من وجهة نظر الكاتب بالطبع. المترجم.) ، ولم يفقد حصانا واحدا مما كان يحرسه.
أما حارس السجن العريف موسى رحمة فقد أبى بشمم أن تنتزع من فخذه اليمنى إلا بعد انتهاء القتال حربة من النوع الذي يشابه صنارة صيد السمك، وتهتك الجسد عند دخولها وعند إخراجها أيضا. وطلب الرجل من رفيق له أن يكسر رمح الحربة  ثم ربط فخذه بلفافة قماش  ومضي يزحف على مؤخرته  مستندا على يده اليمنى وساقه اليسرى حتى وصل خط اطلاق النار على بعد ثلاثين ياردة.
كانت تلك بعض لمحات لصور من البطولة والبسالة التي سجلتها ذاكرة من شهدوا تلك الموقعة، ولا ريب أن هنالك ما يماثلها أو يفوقها من صور بديعة قبرت مع من فقدوا أرواحهم وهم يقاومون ذلك التمرد.
******    *******    ***********
طافت بخاطري ذكرى تلك المعركة وأنا في زيارة لمدينة أبي حمد بمديرية بربر حين طلبت زيارة  قبور الجنود السودانيين والبريطانيين الذين قتلوا في المعركة التي دارت في السابع من أغسطس من عام 1897م  أثناء حملة النيل. وكما نبه من قبلي السير رينال روود (شاعر ودبلوماسي وبرلماني بريطاني شهير. المترجم)  فقد نبهت أنا أيضا إلى ضرورة أن تكون زيارتي لتلك القبور في النهار، إذ إنه (وكما يعتقد بعض الأهالي) ما أن يرخي الليل سدوله فإن الجنود السودانيين الأحد والعشرين يقومون على حراسة  قبري الضابطين البريطانيين الرائد هـ. م. سيدني والملازم اي فيتزكلانس المدفونين بقربهم  ويطلقون النار على كل من يقترب من المقبرة!!!   

alibadreldin@hotmail.com
////

 

آراء