نساء شمال السودان في عهد الإمبراطورية (الإمبريالية) البريطانية. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
Chronicles of Progress: Northern Sudanese Women in the Era of British Imperialism
هيزر شاركيHeather J. Sharkey
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذا تلخيص موجز لبعض ما جاء في مقال للدكتورة الأمريكية هيزر شاركي الأستاذة المتخصصة في تاريخ ولغات وحضارات الشرق الأوسط والأدنى في جامعة بنسلفانيا نشر في العدد رقم 31 من "مجلة تاريخ الإمبراطورية والكومنويلث TheJournal of Imperial and Commonwealth History" في عام 2003م. وللكاتبة عدة كتب ومقالات عن السودان ومصر منها كتاب "العيش مع الاستعمار: الوطنية والثقافة في السودان الإنجليزي المصري"، وكتاب "الإنجيليون الأمريكيون في مصر" و"الهوية والمجتمع في الشرق الأوسط المعاصر" و"تاريخ الصحافة العربية في السودان". كنت قد عرضت لعدد من كتابات الدكتورة شاركي في مقالات سابقة.
********** ****************
عكف المؤرخون منذ سنوات التحرر من الاستعمار في منتصف القرن العشرين على دراسة آثار الاستعمار الأوربي على المجتمعات الآسيوية والإفريقية، ويتفق كثير منهم على أن الاستعمار قد أفلح في إحداث الكثير من التغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسة بعيدة الأثر في المجتمعات المحلية، غير أنهم يختلفون حول تقويم نتائج تلك التغيرات. فهنالك جدل ونقاش لا يكاد يتوقف حول أسئلة مثل: هل أدى الاستعمار لتنمية أكبر وأوسع أم أنه أدى إلى إعاقة عملية التنمية؟ وهل حقق الرفاهية أم سبب البؤس؟ وبرزت أسئلة مشابهة في الدراسات التي ركزت على النساء من نوع: هل خرجت النساء من فترة الاستعمار وهن أكثر أم أقل قدرة للحصول على فرص للقيادة والتعليم والمهن والدخول المناسبة. وهل صرن أكثر أم أقل حرية وتحررا من قيود التقاليد الاجتماعية؟
فبينما ذكر بعض المؤرخين أن سياسيات حكومات الاستعمار في مناطق كبيرة من شرق وجنوب أفريقيا كانت قد حرمت النساء، خاصة في المدن، من فرص العمل في الوظائف التي تجلب دخلا منتظما، يجمع كثير من الكتاب على اختلاف خلفياتهم وأيديولوجياتهم على أن عهد الاستعمار البريطاني في السودان كان قد شهد تقدما ملحوظا في مجال المرأة، خاصة في المناطق الحضرية.
ويستعرض هذا المقال بعض جوانب التطور (المتصور) لنساء شمال السودان المسلمات في النصف الأول من القرن العشرين من خلال النقاشات والحوارات التي كانت تدور في أوساط المسئولين البريطانيين والمبشرين (من الرجال والنساء)، وفي أوساط رجال الحركة الوطنية الأوائل، وفي أوساط النساء السودانيات المثقفات والناشطات. والملاحظ أن هذه المجموعات الثلاث تتفق جميعها على أن المرأة السودانية في بدايات القرن التاسع عشر كانت "متخلفة"، وقدمت لها عددا من الوصفات كي تتحرر من حالة التخلف وأن تتطور. غير أن ذات المجموعات تختلف فيما بينها أشد الاختلاف هم ماهية المقصود بتطور المرأة ، وعن من يجب عليه أخذ زمام المبادرة في بدء عملية التطوير هذه.
وعقب خروج الاستعمار البريطاني من السودان في عام 1956م طفق المسئولون والإداريون البريطانيون الذين وضعوا سياسات الدولة في الحديث والكتابة عن الآثار الإيجابية التي خلفها حكمهم في السودان، وعن التطوير الذي أحدثوه بذلك البلد في شئون المرأة، خاصة في جوانب الصحة والتعليم، كأحد جوانب مآثر وخير الاستعمار المهمة. ولكن يجب تذكر أن كل برامج التطوير التي قامت بها الحكومة الاستعمارية لصالح النساء والفتيات الصغيرات كانت قد أتت متأخرة نوعا ما، إذ لم تبدأ تلك البرامج والخدمات الاجتماعية إلا بين سنوات الحربين العالميتين، وكانت تحت تأثر ضغوط الحركات النسائية في بريطانيا، والتي غدت ذات نفوذ متزايد في شئون الحياة العامة. وبعبارة أخرى، فإن "تنمية" و"تطوير" نساء السودان لم تكن من هموم الإدارة البريطانية إلا في مرحلة متأخرة في عهدها، حين فرغت من إرساء قواعد سلطتها في البلاد. ففي غضون سنوات العقدين الأولين في ذلك العهد انصب اهتمام الحكومة البريطانية - المصرية على تثبيت وجودها العسكري وإقامة بيروقراطية وبنية تحتية محلية. ولم يقم ويطور ذلك الحكم أي خدمات اجتماعية إلا خدمة لمصالحه الذاتية. ففي مجال التعليم أنشأت الحكومة المدارس لتدريب طلاب يمكن تعيينهم ككتبة في السلك الإداري، وأقامت المستشفيات خدمة للعاملين في جيشها. ولم تلق الحكومة في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى بالا للمرأة إلا عندما يتعلق الأمر بالحصول على أيدي عاملة رخيصة وبضمان الصحة والسلامة الشخصية لمنسوبيها.
ولعل سبب عدم اهتمام الحكم الاستعماري في سنواته الباكرة بأمر النساء هو فقدان التواصل الاجتماعي وسيادة ثقافة الفصل بين الجنسين حينذاك، ولم يكن الرجل لبريطاني ليقابل امرأة سودانية إلا حين يغشى "الأنادي" أو حين يقوم بتصوير بعض النساء السودانيات (ربما على سبيل الدراسة أو الذكرى أو التوثيق مثل ما قام به بعض الأطباء من تصوير لنساء بغرض تسجيل العادات السودانية من ملابس وشلوخو"دقشلوفة"). بل إن قليل منهم كانوا يقومون بالتقاط صور ذات إيحاءات جنسية لنساء وفتيات صغار وهن عاريات الصدر، وكانت تلك الصور تجمع في شكل "البوم" وتباع كبطاقات بريدية postcards(فعل المستعمرون الفرنسيون ذات الشيء، فقد كانوا يلتقطونصورا لنساء محجبات، وأخرى لنساء عاريات الصدر،وذلك كنكات أو ملح بصريةvisual jokesمن النوع الذي يروق للزبائن الفرنسيين).
وقامت الحكومة الاستعمارية أيضا ومنذ عام 1899م بتنظيم أمور العمل، خاصة بعد إلغاء تجارة الرقيق (وليس بالضرورة الرق نفسه). فقد كان الاستعمار يخشى من أن يهجر المسترقون السابقون مزارعهم ويهاجرون للمدن، مما يخلق نقصا في العمالة الزراعية يسبب بدوره تذمرا في أوساط ملاك تلك المزارع قد يدفعهم للتمرد على الحكومة. وكان الاستعمار يخشى أيضا من أن تتجه المسترقات السابقات للعمل في مجال البغاء وصنع وبيع الخمور (البلدية)، فسن عددا من القوانين لمحاربة ما أسموه "التشرد" ولتنظيم (وليس منع) بغاء النساء. وكان خوف الحكومة من البغاء (والخمور البلدية) يرتكز أساسا على الخشية من تفشي الأمراض المنقولة جنسيا مثل الزهري (السفلس) في أوساط الجنود والمواطنين وكلفتها المالية. فقد جاء في تقرير حكومي أرسله أحد الأطباء في عام 1907م أن ذلك المرض كان شائعا في المدن السودانية، وضرب مثلا بمدينة دنقلا والتي زعم أن نحو 90% من رجالها كانوا مصابين بذلك المرض. ولذا قامت الحكومة بسن تشريعات تقضي بضرورة الفحص الطبي الدوري على العاهرات كشرط من شروط تجديد رخص عملهن.
ويتضح مما سبق أن اهتمام الحكومة بصحة أولئك النسوة لم يكن من أجلهن، بل من أجل الحفاظ على النظام نفسه. وكذلك كانت الحكومة تعد أولئك النسوة من أهم أسباب انتشار الأمراض، ولا تنظر إليهن كضحايا لتلك الأمراض. وكان وجود أولئك النسوة المصابات بالأمراض المنقولة جنسيا في مستشفيات الحكومة أمرا محرجا ومنفرا لغيرهن من النساء (من زوجات وبناء الطبقة العليا في المجتمع). ويشبه ذلك ما كان يحدث في الهند عندما عزفت نساء المسلمين والهندوس من ذوي الطبقة العالية من ارتياد المستشفيات (الحكومية) التي كان تغشاها النساء من ذوات الأصول "الوضيعة".
وكان الرجال البريطانيون في خلال العقدين الأولين لحكمهم للسودان لا يشجعون نسائهم على زيارة البلاد أو العيش فيها. ولكن خالفت مجموعة من المبشرات البريطانيات والأمريكانيات ذلك الأمر وحللن بالخرطوم في عام 1900م، وحاولن (بحذر)، وبالتعاون مع نسوة مصريات ولبنانيات، الاختلاط بالنساء المحليات عن طريق فتح عيادات طبية ومدارس للبنات لتعليمهن مهارات أصول الصحة والتدبير المنزلي من طبخ وخياطة وغيرها، وتطبيب النساء السودانيات في منازلهن في عدد من المدن السودانية.
ولم تبدأ الحكومة في تعليم النساء إلا في عام 1921م حين أنشأت (وبحذر شديد) كلية لتدريب المعلمات، واشترطت أن تكون أوائل الملتحقات بها ممن وصفتهم السلطات بأنهن من "العوائل السودانية العربية المحترمة" (أي بعبارة أوضح تم استبعاد بنات الذين كانت لهم أصول مسترقة). وحرصت الكلية أيضا على تعليمهن اللغة العربية وأصول الدين الإسلامي. وما أن حل عام 1930م حتى كان بتلك الكلية ما يزيد على 1800 طالبة.
وفي ذات العام (1921م) تم افتتاح مدرسة تدريب القابلات (الدايات) في أمدرمان تحت قيادة امرأة بريطانية قوية الشكيمة هي مابل وولف. وكانت السيدة وولف تدرك أن قابلات شمال السودان كن يقمن بتوليد السيدات، ويمارسان أيضا الختان الفرعوني، فحرصت على تعليم المتدربات على إجراء عمليات ختان أخف وطأة مما كان يمارس في كافة أنحاء شمال السودان.
وفي عام 1925م أقامت الحكومة البريطانية برنامجا صغيرا لتدريب النساء على مهنة التمريض، وألحق بقسم النساء في مستشفى أمدرمان الذي كان قد أفتتح حديثا. وواجهت الحكومة بعض الصعوبات في البدء في إقناع الفتيات بالالتحاق بذلك البرنامج نسبة للسمعة السيئة (غير المستحقة بالطبع) التي كانت شائعة عن تلك المهنة وممارساتها. ولكن تغيرت مع مرور السنوات آراء آباء الفتيات عن هذه المهنة فتزايدت أعداد المتقدمات لبرنامج تدريب الممرضات.
وتزايد اهتمام الحكومة بين سنوات الحربين العالميتين بتعليم وصحة المرأة، وكان مرد ذلك سببان أولهما هو تحسن الوضع الاقتصادي والسياسي للبلاد مما مكنها من تقديم مزيد من الخدمات الاجتماعية للسكان (ومن ضمنهم النساء). وكان السبب الثاني هو ضغوط النساء البريطانيات الموجودات في السودان ومطالبتهن المستمرة للمسئولين (الذكور) بضرورة الالتفات لمشاكل المرأة السودانية وضرورة وضع حلول لها. ومن أمثلة ذلك المطالبات المستمرة للسيدة قريس ماري كراوفوت (زوجة مدير إدارة التعليم) والتي أقنعت الحكومة بضرورة فتح مدرسة القابلات في 1921م. وكانت تلك السيدة قد شهدت في 1919م عملية ولادة لسودانية في الخرطوم، فروعت مما رأت وسعت لقيادة حملة لتغيير ما شهدته من ممارسات غير آمنة. ومن ما هو مدون في سجلات الحكومة الاستعمارية أن السير ليس استاك استدعى للقصر الجمهوري مدير المخابرات وأخبره بأنه كان في الليلة السابقة مدعوا لحفل عشاء مع مجموعة البريطانيين، والتقى هناك بسيدة سببت له كثيرا من الحرج بسبب إصرارها على مناقشة أمر الخفاض الفرعوني وعدم قيام الحكومة بعمل أي شيئ من أجل منعه، وهو لم يكن قد سمع أصلا بذلك النوع من الختان ولا يعلم إن كان يمثل "مشكلة"! وصدم الرجل ويستمع (مرغما!) لتفاصيل ما يفعل بالبنت في عملية الختان الفرعوني، وبدأ يفكر في سن قانون يمنع تلك الممارسة. وتدل هذه القصة على تباعد الرجال البريطانيين (من الحكام وغيرهم) اجتماعيا عن محكوميهم، وعدم معرفتهم بالثقافة المحلية والعادات الاجتماعية السائدة، خاصة عند النساء.
وفي عام 1926م التفت الحكومة الاستعمارية لأمر الختان الفرعوني فأصدرت أوامر لكل المآمير في المدن بما يجب عليهم العمل حيال قضايا الاغتصاب، وذكرت (ولأول مرة) صراحة أن اغتصاب فتاة مختونة فرعونيا أمر متعذر إلا إذا تم تخدير الفتاة أو تم استخدام آلة حادة. ولذا يجب أن تعد حالات الاتهام بـ "الاغتصاب" في حالة الفتيات المختونات هي "محاولة اغتصاب"، أو "اعتداء assault" أو "استخدام قوة جنائية Criminal forceضد امرأة".
وحاولت الحكومة الاستعمارية في السودان في عهد السير جون مافي (بين عامي 1926 – 1934م) أن تمنع تسريب أي معلومات عن الختان الفرعوني للشعب (والصحافة) البريطاني بدعوى أنه ليس من المصلحة تداول مثل هذه المعلومات بين "المهوسيين / المتعصبين cranks" في بريطانيا، و قد يؤثر سلبا على مهنة القبالة (فن توليد النساء) بالبلاد، وسيفتح الباب لتدخلات من بريطانيا في الشأن السوداني! (أوردت المؤلفة في قائمة المراجع أن الحكومة البريطانية منعت السيدة مابل وولف في خطاب رسمي من ذكر أمر الختان الفرعوني في مؤتمر عالمي للصحة في المناطق الحارة).
ومع تبدل المسئولين البريطانيين في مواقع السلطة تبدلت سياسات الحكومة تبعا للأخلاقيات والمبادئ والمعتقدات التي يحملها كل مسئول. فعند تولي (الرجل المثقف) دوقلاس نيوبولد منصب السكرتير الإداري ازدادت قوة الحملة المناهضة للخفاض الفرعوني، حين حث إدارة الصحة لإصدار بيان يوضح رأي الحكومة في هذه العادة البربرية، والإجراءات التي ستتخذها الحكومة عمليا لكبحها من حملات توعية وقوانين وغيرها. وقام نيوبولد بتكوين لجنة من مؤيدي حملته من كبراء المجتمع لمساعدته في القضاء على تلك الممارسة. وأخيرا تم في عام 1946م إصدار قانون يجرم القابلات (الدايات) إن قمن بإجراء تلك العملية، ولكن دون مسائلة لمن تجرى عليهن العملية (أو أوليائهن). وتذهب بعض المصادر لنسبة الفضل في إصدار ذلك القانون لكونستانسهيدليسون زوجة الحاكم العام، والتي زعمت أنها اكتشفت فجأة أن تلك العادة لا زالت تمارس، فأسرعت لزوجها مطالبة إياه بإصدار قانون يحرم تلك الممارسة.
وكان شأن المرأة السودانية، ومنذ بدء العهد الاستعماري البريطاني، يمثل عند الرجال البريطانيين أكثر الأمور غموضا في "القارة السوداء" والتي كانوا لا يعلمون عنها إلا أقل القليل. بل نشر ونجت حاكم السودان العام بين عامي 1899 – 1916م في مقال له عن إنجازات كلية غوردون في تخريج كتبة صورة لفتاة سودانية سوداء ترتدي ثوبا تقليديا وكتب تحتها: "بنت السودان: صورة من الماضي ما زالت تعيش بيننا في الحاضر"، وكأنه يصور المرأة السودانية كقوة من قوى الرجعية والتخلف.
ويتضح مما سجل في الأدبيات المنشورة في سنوات الاستعمار وبعدها أن ما كان يأخذه البريطانيون والبريطانيات على نساء شمال السودان في تلك السنوات هو عزلتهن عن المجتمع وعدم قدرتهن على خلق علاقات اجتماعية في حفلات الشاي التي تقيمها زوجات البريطانيين (حتى في وجود أزواجهن)، وإصرارهن على إجراء الختان الفرعوني لبناتهن، وميل معظمهن (خاصة من لديهن خدم في المنزل) لعدم القيام بأي نشاط بدني داخل أو خارج المنزل والاكتفاء بالجلوس أو الاتكاء طوال اليوم!
أرسل نائب سكرتير مؤتمر الخريجين في عام 1939م رسالة إلى السكرتير الإداري مفصلا برنامج عمل مقترح لمحو الأمية، وألمح في رسالته لتقاعس الحكومة عن الإسراع في محوها، إذ أن أكثر من 99% من السكان هم من الأميين. وكان الرجل يشير إلى الذكور بالطبع. أما بالنسبة للإناث فقد أضاف نائب السكرتير : "أما بالنسبة لتعليم البنات، فهو في حالة مزرية من التخلف، ولا يمكن مقارنته بحال التعليم في أي قطر آخر". وظل أمر "تعليم البنات" من شواغل الحركة الوطنية منذ ذلك التاريخ.
وكان قواد الحركة الوطنية هم من صغار الموظفين السودانيين النشطين والمتفائلين الذين تبنوا أفكارا تدعوا للتحديث والتطوير والتقدم الاجتماعي. غير أنهم كانوا يدركون – كوطنيين- أنهم إن أفلحوا في قيادة بلادهم في مستقبل قريب فإن المرأة السودانية بوضعها الجاهل المتخلف الذي هي عليه ستكون عقبة كداء في طريق التحرر والتقدم المنشود. ولذا كان من الواجب عليهم وضع أمر "إصلاح شأن المرأة السودانية" كأحد أهم أجنداتهم الوطنية.
ولعل أول من دعا لتعليم المرأة من رجال شمال السودان كان هو الشيخ بابكر بدري (1861 - 1954م)، والذي لم يكن يصنف كشخصية راديكالية، فقد كان منقدامى محاربي المهديةوأشتغل بالتجارة وكان مسلما ملتزما تلقى تعليما دينيا تقليديا. وتقدم في عام 1903م ذلك الشيخ للحكومة بطلب لفتح مدرسة للأولاد في مدينته رفاعة، وبذا بدأ مهنة وحياة جديدة في عالم التدريس. وبعد عام من ذلك تقدم بطلب آخر لفتح فصل دراسي لتعليم البنات. ولعل دافعه في ذلك الطلب كان بسبب قيام بعض المبشرات البريطانيات والأمريكانيات بافتتاح مدرسة للبنات في العاصمة. وكان في تخطيط الشيخ - كما صرح لاحقا- أن تعلم مدرسته البنات القراءة والكتابة والقرآن، وأيضا مبادئ التدبير المنزلي من خياطة وغيرها، لتؤهل البنت لتغدو "ست بيت" جيدة عند زواجها.وبعد موافقة حذرة من الحكومة أفتتح بابكر بدري مدرسة البنات في 1907م ببناته وبنات أقربائه ليطمئن ويقنع بقية العائلات في رفاعة. وحرص الشيخ على أن لا يتقابل الأولاد و البنات أبدا في ساعات الدراسة في المدرسة (قيل أن السلطات البريطانية كانت قد رفضت لعدد من المرات طلب الشيخ بابكر بدري لفتح مدرسة للبنات برفاعة، فقام الشيخ بحلق شعر إحدى بناته وأدخلها فصل الأولاد. المترجم).
وأتى جيل من خريجي كلية غوردون، تعلم الآداب العربية والأجنبية وأعجب بما قرأه من قصص يقابل فيها الشباب الفتيات المتعلمات الناضجات الواعيات ويتزوجوهن فيما بعد بناء على رغبتهم هم، وليس رغبة الأهل. وكانت مثل تلك الآراء في السودان تعد غاية في الراديكالية في بدايات القرن العشرين. ومع مقدم عشرينات وثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين بدأت مدارس البنات في الظهور والتوسع. ووصف مسئول بريطاني ما يحدث يوم تسجيل التلميذات للمدرسة، حيث يحضر للمدرسة ضعف عدد ما يمكن قبولهن،وسجل ما نصه: " ... يأتي الآباء ومع قليل منهم الأمهات أيضا مع بناتهم ... تأتي البنات وهن في حالة من الانبهار والدهشة البالغة، بعيونهن الواسعة، وشعورهن السوداء المضفورة، وعلى آذنهن حلقات ذهبية، وهن يرتدين أفضل ملابسهن وشباشبهن المطرزة...".ولم يكن القبول للمدرسة مبنيا على قواعد واضحة ومنصفة دوما، فقد كانت الإدارة البريطانية تضع اعتبارا كبيرا لآراء وخيارات العمد والشيوخ وغيرهم من كبراء المدينة، وكانت الأولوية في القبول تعطى دوما لبنات الأسر "المعروفة" من طبقة الصفوة في المجتمع. ولعل هذا كان ديدن الاستعمار البريطاني الشديد الحساسية للطبقات الاجتماعية في المجتمع في كل الأمور تقريبا المتعلقة بالمحكومين السودانيين.
وبلغ من تعلق الرجال السودانيين بتعليم المرأة أن طالب في الخمسينيات وفد من بعض رجال أمدرمان (والذين أتيحت لهم فرصة السفر لخارج السودان) السلطات بأن يدخلوا زوجاتهم للمدارس بعد أن رأوا المنافع التي تجنيها بناتهم من تعليم المدارس. بل وظهرت عند بعضهم ميول للتزوج من مصريات وسوريات أكثر تعليما وأشد تحررا. ومن هنا قررت السلطات فتح فصول لتعليم الكبار أدخل فيها هؤلاء زوجاتهم لمحو أميتهن.
وبدأت في الثلاثينيات بعض المطبوعات السودانية (مثل "النهضة" و "الفجر") في تناول قضايا المرأة السودانية مثل الختان الفرعوني والعادات والممارسات الأخرى كالشلوخ والوشم وغير ذلك. فقد نشرت مجلة "النهضة" في أول عدد لها مقالا كتبه من سمى نفسه "حمدي" ورد فيه أن المرأة نصف المجتمع، ولذا ليس من المستغرب أن تخصص المجلة لقضاياها خاصة في الصحة والتعليم حيزا كبيرا. ثم توالت في أعداد المجلة التالية مقالات لحمدي تسير في ذات الاتجاه وتنحو نفس المنحى. ووجدت مقالات الرجل استجابات متباينة عند جمهور القراء تراوحت ما بين الرفض التام والقبول المتحفظ.
ودخلت السينما للسودان في العشرينيات، وغدا المتعلمون السودانيون بالأفلام المصرية والبريطانية والأمريكية من المغرمين. وكان لهذه الأفلام بالغ الأثر في تغيير فهم الكثيرين منهم للعلاقات بين الجنسين، واختيار شريك الحياة.
لم تختف أو تنحسر كثيرا ممارسة الختان الفرعوني خلال الفترة الاستعمارية، ويعزي البعض ذلك لأن الحملة ضد ذلك الختان كان قد قادها الحكم الاستعماري. وصمت قادة وأعضاء مؤتمر الخريجين عن ذكر تلك القضية من قضايا المرأة السودانية. وفسرت بعض المصادر البريطانية ذلك الصمت بأنه نتيجة عدم تصور بعض هؤلاء للحياة من دون ختان فرعوني(!)، أو لأن تناول هذا الأمر علانية قد يسبب الحرج لكثير من الأطراف، خاصة وأن المستعمرين كانوا ضدها ويعدونها ممارسة بربرية بشعة، بينما كان البعض الآخر يعتقد أن هذا "شأن نسوي بحت" لا يصح أن يتدخل فيه الرجال، وينتقص من "مروءة" المرء أن أتى له علي ذكر في محفل علني. بل ووقف أحد الخريجين (واسمه أمين بابكر) في عام 1942م خطيبا في جمع من السودانيين والبريطانيين في "دار الثقافة" ودافع عن الختان الفرعوني (بعد إدخال بعض التعديلات عليه) وعدد أسبابا صحية ودينية واجتماعية يراها تؤيد الختان. وتصدي لأمين بابكر دكتور عبد الحليم محمد ففند ما أتى به ذلك الخطيب وأعاد ما هو معلوم عن مضار تلك العادة، وقال إنه ما ممن دليل على أن الختان يقلل من شهوة المرأة للجنس، أو أن له علاقة طهارة المرأة ونظافتها الشخصية (وبعد مرور أكثر من 70 عاما لا زال مجتمعنا يناقش ذات المواضيع! المترجم)، وأن العفة والرغبة والشهوة كلها أمور ترتبط أشد الارتباط بظروف وتعليم وأخلاقيات الفرد والمجتمع.
ومن العجيب أن من وقفوا مع الحملة المضادة للختان الفرعوني لم يكونوا من الوطنيين العلمانيين، بل كانوا من كبار رجال الدين (مثل المفتي)وزعماء الطوائف الدينية (مثل علي الميرغني (1878 – 1968م وعبد الرحمن المهدي (1885 – 1959م)، والذين نشرا بيانا مشتركا في الصحف وغيرها يعارضان فيه ممارسة الختان الفرعوني، ويدعوان لاستبداله بختان السنة. وقد يقول قائل بأن ذلك الموقف من الزعيمين الطائفيين ربما كان من باب الملق والممالأة للمستعمر البريطاني.
سجلت سوسن سالم إسماعيل في كتاب لها باللغة العربية عن "الجذور التاريخية للحركة النسائية السودانية" صدر عن دار نشر مدبولي عام 1990م أن المرأة السودانية وحتى النصف الأول من القرن العشرين كانت تعيش عيشة الإماء. ونشرت في عام 1981م بخيتة أمين إسماعيل – بالاشتراك مع كاتبة بريطانية هي مارجوري هول كتابا بالإنجليزية عنوانه Sisters under the sunذكرتا فيه إن المرأة السودانية في المناطق الحضرية كانت تعيش في سنوات الحكم الاستعماري حياة عقيمة تبلد العقل والاحساس. وكانت نسوة الأجيال السابقة بحسب ما جاء في ذلك الكتاب - يقضين كامل يومهن في الجزء الصغير المخصص لهن في الدار، والذي عادة ما يكون بالغ الحرارة (خاصة في شهور الصيف) وقذرا خانقا قليل التهوية، وكأنه سجن ضيق لا سبيل للفرار منه. ولم يكن لديهن فرصة للخروج من أسوار "محبسهن" أو ممارسة الرياضة أو حتى التمشي خارج الدار. وكن أميات راضيات بمصيرهن وكأنه قدر محتوم، وقابلات بالقبوع في الدور كبهائم في أقفاص لا حيلة لها ولا قوة، يقتلهن الملل واللامبالاة، فيلجأن للشعوذة للحصول على لحظات فكاك عابرة من إسار رتابة حياتهن.
وعلى وجه العموم نجد أن غالب الكاتبات السودانيات يوافقن على أن القرن العشرين قد جلب للمرأة السودانية تحسنا لا تخطئه العين في كافة أحوالها المعيشية والتعليمية ووفر لها فرصا عديدة لم تكن متوفرة من قبل. وأكدت هؤلاء الكاتبات أن نساء ورجال السودان (وليس الحكم المستعمر) هم من بادروا بتغيير أنفسهم ونمط حياتهم. وبالطبع فإن تقويم هؤلاء النسوة هو تقويم استعادي retrospective) ) وليس معاصرا، إذ أن غالب نساء السودان لم يكن ينشرن مقالات أو كتب قبل أعوام الخمسينيات، وكانت نسبة الأمية بينهن حتى نهاية الحرب العالمية الثانية تتجاوز نسبة 99%، وانخفضت إلى 96% عند نيل السودان لاستقلاله في عام 1956م، ورغم أن هذا الانخفاض قد يبدو ضئيلا إلا أنه كان بالغ التأثير.
وعلى الرغم من أن هنالك ما يشير إلى أن هنالك عددا (ربما قليل نسبيا) من النساء كن يحفظن القرآن قبل عام 1990م، وأن بعضهن كن يقمن بتحفيظ البنات القرآن في مدارس دينية (خلاوى)، فليس هنالك من دليل على وجود كتابات نسائية في تلك السنوات. وبعد تلك الفترة بأعوام طويلة ظهرت كتابات لمتعلمات سودانيات مثل ملكة الدار محمد (حوالي 1922 – 1969م) والتي تخرجت في كلية المعلمات بالعاصمة، ثم تدرجت في سلم الترقيات حتى صارة مديرة لأحدي مدارس البنات. وتشهد حياة ملكة الدار على الصعوبات الجمة التي لاقتها النساء وهن يجاهدن كي يجدن فرصا للتعليم والتوظيف. فقد اضطرت كطفلة أن ترتدي جلباب أخيها وعمته حتى تقبل كـ "تلميذ" في الخلوة. ثم اضطرت بعد ذلك بسنوات للسفر من منزل أهلها في الأبيض خلسة إلى العاصمة كي تلتحق بكلية المعلمات وتتخرج مدرسة مؤهلة. وعند عودتها للأبيض ووجهت بعداء وعنف جسدي من أخيها الذي لم يكن موافقا أصلا على سفرها للعاصمة. وفي الأربعينات بدأت ملكة الدار في الكتابة الأدبية، ونالت في عام 1947م جائزة في مسابقة قومية بقصة قصيرة لها تدور حول تفشيالجهل في إحدى القرى، وعن غيرة الرجل (الزائدة) وحراسته (المفرطة) لشرف المرأة. وفي الستينيات نشرت ملكة الدار رواية يعد بعض النقاد أول رواية سودانية اسمتها "الفراغ العريض" (ورد في موسوعة الويكيبيديا أيضا أن "ملكة الدار كتبت "الفراغ العريض" في النصف الأول من الخمسينيات ونشرت بعد وفاتها بقليل في أوائل السبعينيات. وتدور الرواية عن حياة المرأة السودانية المتعلمة وغير المتعلمة والتحولات التي حدثت في المجتمع السودانيبعد الحرب العالمية الثانية. وتغوص الرواية في المجتمع متناولة مناخ القمع الذكوري على الأنثى في سياق لوصف تفاصيل البيت السوداني بكافة زواياه،وانهماك المرأة طوال الوقت في الواجبات المنزلية. فالرواية قد تعد عبارة عن سيرة ذاتية للكاتبة تسرد كل ما تعرضت له من خلال البطلة منى ولكن فيسرد يأخذ شكل الحميمية الشديدة مما جعل تلك البطلة نموذجا للمرأة السودانية". المترجم). وتعرضت ملكة الدار مرة أخرى لعنف ذكوري من نوع آخر، إذ كانت قد تزوجت لفترة قصيرة، انتهت – كما ورد في كتاببخيتة أمين إسماعيل و م. هول- عندما قام زوجها بتزوير توقيعها والاستيلاء على كل ما كان عندها من مدخرات.
ولم تظهر أي كتابات نسائية صحفية في الأربعينيات سوى تلك التي حررتها نفيسة كامل في الصحيفة المحلية "كردفان". وكانت نفيسة كامل قد تخرجت في مدرسة إرسالية (مسيحية)، غير أنها أصرت على إكمال تعليمها من منزلها حتى بعد أن تزوجت وأنجبت 12 بنتا أعقبتهم بأربعة من البنين! ولما كان من غير المقبول في تلك السنوات أن تكتب المرأة اسمها كاملا في صحيفة، فقد لجأ رئيس تحرير "كردفان" لكتابة اسمها هكذا: ن. كاملإخفاءًالجنسها. وساد ذلك الإخفاء في الإذاعة السودانية أيضا، إذ اشتركت مدرستان في تقديم بعض البرامج الحوارية في إذاعة أم درمان، وطلبا عدم ذكر اسميهما مخافة أن يتعرف الناس على صوتيهما (قد يذكر المخضرمون منا صوت المرحوم السراج (أو الصباغ) وهو يقدم في نهاية الخمسينيات وربما بداية الستينيات تمثيليات "فرقة السودان للتمثيل والموسيقي" عندما يعلن عن اسماء من شاركوا في التمثيلية، ويذكر اسماء الرجال، وعندما يأتي للنساء يكتفي بالقول: "بالاشتراك مع إحدى الآنسات". المترجم).
وبعد عام الاستقلال (1956م) بدأت مجموعة صغيرة النساء في الكتابة الصحفية، وكانت غالبية ما كتب في تلك الفترة يدور حول مفاهيم تحرير المرأة، والمساواةبالرجل، ومحاربة العادات الضارة وغير ذلك من قضايا المرأة المباشرة. ثم ظهرت مجلة شهرية هي "صوت المرأة" كانت رئيسة تحريرها فاطمة أحمد إبراهيم، وهي مجلة لاقت ذيوعا وشهرة عالية في أوساط النساء، خاصة بعد انخفاض نسبة الأمية بينهن.
(تناولت بعد ذلك الكاتبة باستفاضة كتابات المرأة السودانية حتى السنوات الحالية، واختتمت مقالتها بنص للدكتورة رقية أبو شرف الأكاديمية والنسوية self – defined feminist جاء فيه: " لا يمكن أن نعد النساء السودانيات هم ضحايا سلبيات للتقاليد الثقافية ولتوقعات المجتمع . وما زلن – كغيرهن في كثير من المجتمعات الإفريقية- يجاهدن ويكافحن كفاحا مضنيا من أجل المساواة الاجتماعية". المترجم)
alibadreldin@hotmail.com
///////