قصة أول مفصول للصالح العام بعد الاستقلال (الحلقة الثانية) … بقلم: محمود عثمان رزق
محمود عثمان رزق
6 July, 2014
6 July, 2014
morizig@hotmail.com
تنبيه:
لقد كتبت الحلقة الأولى ونشرتها قبل عدة سنوات وضاعت مني الحلقة الثانية بعد أن كتبتها فتكاسلت عن كتابتها مرة أخرى، ولكن الحمد لله وجدتها أخيراً وها أنا أنشرها الآن. ومن لم يقرأ الحلقة الأولى أو نسي محتواها فيمكنه الرجوع إليها في "منبر الرأي" في هذه الصحيفة "سودانايل" وسيجدها مأرشفة تحت اسمي.
الحلقة الثانية :
إنّ فكرة إحالة الموظفين للصالح العام انتقلت من حزب الأمة وعبدالله خليل كما ذكرنا في الحلقة الأولى إلى الأحزاب الأخرى وأول من تلقفها عن عبد الله خليل هو الحزب الشيوعي السوداني الذي له اليد العليا في نشر الفكر الإقصائي عموماً وخاصة من الوظيفة حتى صار سلوكاً عاماً لم تنفك عنه كل الحكومات حتى هذه اللحظة. وربما يتنكر حزب الأمة لهذا المسلك الكريه الشائن ويحمّله للسيّد عبد الله خليل وحده كقرار فرديّ لا يمثل رأي الحزب. وهذا لعمري عذر مقبولٌ لو أن حزب الأمة أصدر بياناً في حينها أدان فيه فصل السيّد منصور أحمد الشيخ عن عمله وأبان فيه أن قرار السيّد عبد الله خليل هو مسلك خاطئ وغريب على الساحة السياسية السودانية حديثة الولادة آنذاك. ولو فعل حزب الأمة ذلك لتحمل عبد الله خليل وحده وزر هذه السنة السيئة ولكن بما أنّ شيئاً من ذلك لم يصدر من الحزب فإنّ حزب الأمة يتحمل المسؤولية الأدبية لهذا السلوك غير العادل وهذه السنة السيئة.
وبما أنّ الزعيم الشيوعي المرحوم الشفيع أحمد الشيخ الفزاري هو شقيق عمنا المرحوم منصور أحمد الشيخ قد عايش الحدث وتأثر بظلم أخيه وفصله للصالح العام، فلا شك أنّ ذاكرته قد اختزنت من حيث لا يشعر فكرة الإقصاء في عقله الباطن، ولا شك أنّ الشفيع قد ناقش حدث فصل أخيه مع رفاقه في الحزب الشيوعي مما ساعد على انتشار الفكرة وخزنها في العقل الباطني لكثير من الشيوعيين وهم لا يشعرون. وعندما قامت ثورة أكتوبر وتكونت حكومة وطنية جديدة شارك فيها الحزب الشيوعي بعدد من الوزراء والنواب حينها بدأ المدفون في العقل الباطن (أو اللاشعور)الشيوعي يظهر للسطح في سلوكٍ إقصائيٍ منظم ومرتب ومقصود. يقول الزعيم الإتحادي عبد الماجد أبو حسبو عليه رحمة الله في مذكراته واصفاً ذلك السلوك الأقصائي وشاهداً على عصره: "بدأ الشيوعيون-كدأبهم كلما واتتهم الفرصة- يخلقون المشاكل ويضعون العراقيل أمام الحكومة. واستطاعوا عن طريق أغلبيتهم الميكانكية في المجلس أن يستصدروا القرارات التي تتسم بالفوضى وعدم تقدير المسئولية، حتى خلقوا في الحكم وللحكم المصاعب التي انعكست على الرأي العام وعلى أجهزة الدولة والأداء فيها. فلقد استصدروا قراراً بتكوين لجنة باسم "لجنة التطهير"، وكان الغرض من تكوينها تطهير جهاز الحكومة من كل العناصر غير المنتجة، أو التي أدخلت في ظروف الحكم العسكري دون أن تكون مؤهلة لما استخدمت من أجله، أو أنها استخدمت أساساً لغير ما حاجة إليها. وقد وضع على رأسها وزير (شيوعي) هو أحمد سليمان (المحامي)، فأخذت اللجنة تفصل كل من لم يكن شيوعياً أو موالياً للشيوعية، وكل من كانوا يعتبرونه عدواً لهم دون اعتبارٍ لأهمية الشخص وخبرته وكفاءته في العمل. فكان يكفي أن يأتي شيوعيٌ مهما كان موقعه في إحدى الوزارات ليقرر أمام اللجنة أنّ وكيل الوزارة التي يعمل بها رجل رجعيٌ حتى تقوم اللجنة بفصله عن العمل أو إحالته إلى التقاعد. وهكذا أصبحنا نسمع كل يوم عن فصل العشرات من أقدر وأكفأ الموظفين لا لسببٍ إلا لأن الشيوعيين لا يريدونهم. فضجت مرافق الدولة، وأصبح كل موظف جالساً في مكتبه ينتظر أن يسمع إقالته إو إحالته للمعاش في أيّة لحظة. ووقف دولاب العمل وتعطل كل شيء وكان من نتيحة هذه السياسة أن فقدت البلاد الكثير من العناصر القادرة المقتدرة، وأصبح الشيوعي مهما كان وضعه في المرفق الذي يعمل فيه هو مصدر القوة ولذلك شاع الإرهاب في كل مرافق الدولة" (أبو حسبو، جانب من تاريخ الحركة الوطنية، ص. 191). والجدير بالذكر أنّ عبد الماجد أبو حسبو صاحب الكتاب والنص أعلاه كان ثالث ثلاثة كوّنوا أول خلية شيوعية سودانية في مصر عندما كانوا طلبة فيها. وأبو حسبو هو في الحقيقة أستاذ الزعيم الشيوعي عبد الخالق محجوب وهو الذي درّسه الفكر الإشتراكي، إلا أن الرجل ترك الشيوعية واصبح من زعماء الحزب الإتحادي الديمقراطي ولذا هو عالم ببواطن الحزب الشيوعي جيّداً.
وكما يقول المثل : "التسوي كريت في القرض تلقى في جِلِدا". فكما ترصّد الشيوعيون بشكل منظم ومرتب ومقصود بخصومهم السياسيين من الإسلاميين والوطنيين فقد ترصّد بهم خصومهم أيضاً وكانت نتيجة هذا الصراع أن دخل السودان في دورة إقصائية خبيثة لم يستطع أن ينفك منها حتى هذه اللحظة. وكرد فعل لتصرف الشيوعيين غير المسئول مع خصومهم انتهز خصوم الحزب الشيوعي فرصة نادرة حين تلفظ أحد سفهاء الحزب في ندوة عامة بألفاظ مشينة في حق بيت النبوة صلوات الله وسلامه عليهم أغضبت الحضور فعبأت الأحزاب الشعب ضد الحزب الشيوعي وطالبوا بحله و تطهير الساحة السياسية من دنسه ومكره فأُجبر الحزب على العمل السري من باطن الأرض،فظلّ تحتها فترة من الزمان ليخرج مرة أخرى في فجر الخامس والعشرين من مايو في زيّ الضباط الأحرار بقيادة العقيد جعفر محمد نميري. وعندما استقر الأمر لهم وجعلوا النميرى واجهةً يعملون من ورائها "رجعت حليمة لي قديمة" لتمارس سياسة التطهير مرة أخرى بعد أن خلا لها الجو فرفعت شعار "الحسم الثوري" عالياً هذه المرة وقد أسكرتهم كلمات الشاعر محجوب شريف رحمة الله عليه بصوت الفنان وردي:
بيك يامايو يا سيف الفدا المسلول نشق أعدائنا عرض والطول
حلفنا نقيف ونتحزم
نشد الساعد المفتول
عشان نبني إشتراكية...حباب الإشتراكية
وبالفعل أُحيل عدد كبير جداً من الموظفين والمعلمين وأساتذة الجامعات للصالح العام بتهمة الرجعية وعداء الإشتراكية. والحزب في كل ذلك يصول ويجول وهو سكران بالسلطة التي يشارك فيها ويراوده حلم السيطرة عليها سراً كاملة في خطة مستقبلية. فعندما حان وقت تحقيق الحلم الكبير سولت للحزب نفسه الأمارة بالسوء قتل أخيه في محاولة إنقلابية دموية لتصحيح مسار الثورة، إلا أن السحر انقلب على الساحر فهبت على الحزب ريحٌ صرصرٌ عاتية فتركت قادته كأعجاز نخل منقعر وشنقت الحزب سياسياً وفككته وجعلته كهشيم المحتظر فلم تقم للحزب قائمة حتى هذه اللحظة، ولم يتعافى الحزب من هذه الضرية العنيفة التي راح ضحيتها عمي الشفيع أحمد الشيخ الفزاري-رحمة الله عليه - فشنق مع من شنق مع أنّه لم يكن يعلم بالإنقلاب أصلاً.
ورجع نميري من ساحة المشانق والإعدامت وقد "شمّ الدم وقال حرّم" ليتتبعن كل من أيّد أو شارك الشيوعيين في إنقلابهم عليه، وبالفعل أحال للصالح العام كل الشيوعيين بل كل من خالفه الرأي من غيرهم، فسجنّ من سجن وشرّد من شرّد. ولكن الأيام دول بين الناس و"كرسي الحلاق" لا يتسمّر فيه أحد، فذهب نميري وجاء من بعده من أضاقوا المايويين أصناف العذاب ففصلوا منهم خلقاً كثيراً وسجنوا بعضهم وشردوا آخرين.
ثمّ جاءت الديمقراطية الثالثة وجاء معها الشيوعيون واليسار مرة أخرى وهم يحملون معهم نفس الحقد القديم والأفكار الإقصائية فصوبوا سهامهم هذه المرة نحو الجبهة الإسلامية القومية قاصدين محوها من الخارطة السياسية فحرّكوا مذكرة الجيش الشهيرة ضدهم فكانت تلك هي غلطة الشاطر التي أورثت الندامة. وفي الحقيقة لم تكن الجبهة غافلة عن أمر الجيش والمخابرات زهي تتخلله لمتابعة أمرهم فمكرت بهم قبل أن يمكروا بها فكانت الإنقاذ وما أدراك ما الإنقاذ!
أذكر أنني زرت المرحوم محمد إبراهيم نقد رحمة الله عليه في بيته بالرياض في أول التسعينات فقال لي : "إن الحركة الإسلامية تسير في خطانا خطوة خطوة وسوف يحدث لها ما حدث لنا". والأمر لم يكن ضرباً من الغيب بالنسية لنقد لأنّ السياسات والوسائل التي اتخذها الإنقاذيون كانت هي نفس السياسات والوسائل التي اتخذها الشيوعيون من قبلهم ومن ضمنها وسيلة الوصول للسلطة عن طريق الإنقلاب، ومنها أيضاً وسيلة التخلص من الخصوم بفصلهم وإحالتهم للصالح العام.
وها هو مهندس الإنقلاب الدكتور حسن الترابي يعترف بذلك في كتابه "حركة الإسلام: عبر المسير لاثني عشر عاماً" حيث يقيّم أداء الحركة في الحكم فيقول: "إنّ أبناء الشريحة القيادية لحركة الإسلام كانوا قد عاشوا عهداً طويلاً أيام الدعة الأولى في غربةٍ وجدالٍ وخصامٍ إذ أحاط بهم طيفٌ من عُشّاق المذاهب الإشتراكية والليبرالية. ثمّ لمّا بلغوا أشُدهم واقتحموا السياسة عهدوا صنوفاً من المشاق والمؤذاة من متعصبة الطائفية رمياً بالحجارة وضرباً بالعصي ليصدوهم ويحموا الأتباع من الوعي والإنصراف. ثمّ تعرضوا لسنوات طوال أيام مايو لملاحقاتٍ، ومراقباتٍ وتشريداتٍ وسجون وصنوفِ أذىً في الإعلام. فما عجب لما استوى لهم الأمر منقلباً وتمكنوا من القوة بثورة الإنقاذ أن يأخذوها حاملين رواسب الثأرات المستفزة فيقابلوا الآخرين جميعاً بروح المقاصة والمجازات بالمثل بما يكاد ينسي مقاصد الجهاد ووصايا القرآن للمتقين الصابرين بكظم الغيظ والعفو والسماحة وسنة الرسول صلى الله عليه وسلّم باطلاق العدو المغلوب." (الترابي، عبرة المسير، ص. )
هكذا سرت الروح الإنتقامية في السياسة السودانية حتى نسي الناس العدل والمبادئ وكل القيم الحميدة التي من المفروض أن تبنى عليها السياسة في بلادنا. روح إنتقامية بدأت بعبد الله خليل ثمّ سرت حتى وصلت الإنقاذ ولا أحد يعلم متى ستغادر جسد السياسة السودانية إلا الله تعالى الذي عنده علم الأرواح. ومن الجدير بالذكر أنّ سياسة الإقصاء من أجل الصالح العام قد يكون ضد أفراد وقد يكون ضد حركات أو أحزاب سياسية بأكملها.وللأسف تجدنا نفعل ذلك بأنفسنا وكأنّنا في بلدٍ فيه فائض من الخبراء والمؤهلين، وكأن ساحته السياسية فيها آلاف الأحزاب الناضجة، وكأنّ ميدان السياسة فيه لا يتسع إلا لفريقٍ واحدٍ يضطر ليلعب ضد نفسه لأن الميدان لا يتسع لفريقٍ منافس.
وللأسف إن سياسة الإقصاء تشبه أحزابنا تماماً لأنّ أحزابنا السياسية في السودان في الأصل هي أحزاب شمولية والدليل على ذلك هو الآتي:
1- الروح الإنتقامية التي تسري في عروقهم وتدفعهم لرفض التكامل والتعاون والمشاركة والتفاوض مع بعضهم بعضا لبناء هذا الوطن المنكوب بهم. فلا تكاد تقرأ مقالاً أو تعليقاً، أو تسمع محاضرة، أو تدخل في نقاش مع شخص متحزب إلا وظهرت لك تلك الروح الإنتقامية الخبيثة مهما حاول صاحبها حجبها عن الناس بلباقة وأدب.
2- الدليل الثاني على شمولية هذه الأحزاب هو وجود تلك القيادات على رئاسة الحزب منذ عهد الإستعمار الإنجليزي على بلادنا.
3- إسراع المعارضة في كل الأزمان لحل القضية السياسية بقوة السلاح
4- ليس لقواعد الحزب في بلادنا دور يذكر في رسم سياساته
5- عدم وجود دساتير ديمقراطية تدرّب قواعد الحزب على تداول السلطة سلمياً داخل الحزب، ولذلك تكثر الإنشقاقات داخل أحزابنا وتتطور لتصل درجة العصيان المسلح.
6- ميلان أحزابنا لعقد إتفاقيات ثنائية لحل المشاكل القومية دليل سادس على شمولية أحزابنا.
وللأسف لا يوجد لأيّ حزب من الأحزاب السودانية برامج علمية مدروسة وحتى الذين شذّوا عن القاعدة فسياساتهم وبرامجهم تبخرت في هواء التجربة العملية وأصبحت حبراً على ورق وكما قال علد الماجد أبو حسبو: "فبالرحوع إلى مكتبة أيّ حزبٍ فإنّك لا تجد أدباً حزبياً أو دراساتٍ يمكن أن تحدد سياسته تحديداً قاطعاً"(أبو حسبو، جانب من تاريخ الحركة الوطنية، ص. 192). ولهذا لا تجد موقفاً مبدئياً ولا سياسةً مكتوبة ً واضحةً تجاه هذه الخطيئة تبيّن موقف أيّ حزب منها .
وفي الختام نؤكّد أن سياسة الفصل للصالح العام عارٌ في جبين العمل السياسي السوداني، ويتحمل وزر هذه السنة السيئة السيّد عبد الله خليل رحمة الله عليه ومن ورائه حزب الأمة. وكذلك يتحمل وزر انتشارها والعمل بها على أوسع نطاق كل من الحزب الشيوعي السوداني والعسكريين والمايويين ومن بعدهم الحركة الإسلامية التي تفننت في الموضع أيّما تفنن. أمّا الأحزاب الأخرى لا ندينها لأنها لم تصل لسدة الحكم أصلاً ولهذه العلة لم تظلم والظلم من شيم السياسة والأحزاب السودانية. ونتمنى أن يكون هذا المقال دافعاً للأحزابلتتبنى في دساتيرها موقفاً واضحاً من سياسة الفصل للصالح العام وبهذا التبني يصير لنا مرجع نستطيع أن نحاكم به الحزب إذا وصل لسدة الحكم وإلا سوف يحمل الشعب وزر أخطاء قادة الحزب للحزب نفسه عندما ينجرف أولئك القادة نحو الهوى والطغيان.
////////////