من ذكريات بعض زوجات موظفي القسم السياسي بحكومة السودان (1926 – 1956م). عرض: بدر الدين الهاشمي
حكايات السودان: من ذكريات بعض زوجات موظفي القسم السياسي بحكومة السودان (1926 – 1956م) -1
Sudan Tales: Recollections of some Sudan Political Service wives (1925 -1956)- 1
Rosemary Kenrick روزماري كينريك
عرض وترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
هذا عرض وترجمة لبعض ما ورد في كتاب للسيدة روزماري كينريك نشر في عام 1987م عن دار نشر اولينادر في كيمبردج ببريطانيا، وقامت فيه المؤلفة بجمع بعضا من ذكريات زوجاتموظفي القسم السياسي الذين عملوا في خدمة حكومة السودان بين عامي 1926 و1956م. والسيدة كينريك هي زوجة مساعد مستشار الحاكم العام للشئون الدستورية والخارجية، وقد عاشت معه لفترات عديدة في تلودي (1945 – 1946م) ورشاد (1946 – 1949م) وأمدرمان (1949 – 1953م) والخرطوم (1953 – 1955م).
وقدم للكتاب أ. ر. والميسلي القنصل السياسيpolitical counsellor في السفارة البريطانية بالخرطوم بين عامي 1963 و1965م لافتا النظر إلى تزايد إهتمام كثير من الكتاب بسنوات الإمبراطورية البريطانية الأخيرة، ليس من باب الإهتمام فقط بكل ما مر بها من أحداث درامية جسام، بل بالممثلين من الرجال والنساء الذي شاركوا بصورة أو بأخرى في تلك الأحداث الدرامية. وقرظ القنصل البريطاني ما قامت به الكاتبة من تسجيل ذكريات وتجارب الزوجات البريطانيات اللواتي عشن مع أزواجهن في السودان، فحفظت بذلك تلك الذكريات من الإندثار بفعل تطاول السنوات ورحيل من عاصروا تلك الحقبة المهمة من تاريخ البلاد في غضون سنوات الحكم الإستعماري. ولم ينس أن يشيد الرجل بأولئك النفر من زوجات الموظفين البريطانيين اللواتيأحببن السودان وأهله، وعشن - بصبر مذهل - حياة ترحال قاسية في بوادي السودان المقفرة، وساهمن بقدر ما يستطعن في تطوير الحياة الإجتماعية حيث وجدن. ولا يصنف القنصل ما قامت به الكاتبة كتاريخ عادي مجرد، بل يعده عرضا جذابا ممتعا لبعض جوانب الحياة اليومية لعالم اندثر منذ عقود، قامت فيه صفوة أجنبية قليلة العدد، ولخمسين عاما ونيف، بحكم قطر واسع مترامي الأطراف وقاسي المناخ والطبيعة، وتهيئته لنيل الإستقلال.
ومن باب التعريف بالسودان أوردت المؤلفة قائمة بأهم الأحداث التي مرت بالبلاد، بدءًا من الغزو المصري – التركي عام 1821م ومرروا بالغزو البريطاني – المصري عام 1899م ، وبدء غرس 10000 شجرة في الخرطوم عام 1905م، وافتتاح أول مدرسة أولية للبنات في رفاعة عام 1911م وأول كلية طب بالخرطوم في عام 1924م، وقيام مؤتمر الخريجين عام 1938م ، والمجلس الإستشاري عام 1944، وتعيين إسماعيل الأزهري أول رئيس لمجلس الوزراء عام 1954م، ثم نيل السودان لاستقلاله بوم 1/1/1956م.
وأوردت المؤلفة في نحو صفحتين ما يردده البريطانيون دوما من أسباب غزوهم للسودان من قبيل استعادة الحكم المصري- التركي، والانتقام لمقتل غردون، وإنهاء تجارة الرقيق، وحفظ مصالح بريطانيا في أفريقيا، والتي بدأت الدول الأوربية الغربية في تقاسم أراضيها.
وفي نحو 15 فصلا قصيرا أوردت المؤلفة قصصا قصيرة لبريطانيات عشن – وفي سنوات متباعدة - بمناطق مختلفة من السودان، وأعقبتها بملحقين صغيرين أحسبهما أجمل قصص الكتاب. وكانأحدهما لبريطانية عاشت مع زوجها بين الدينكا في التونج، وحكت في قصتها عن سماعها لنبأ عزم رجال القبيلة دفن زعيهم الروحي حيا كما هي العادة عند أحد أفرع القبيلة، والتي كان من المقبول عندها دفن شيخها وزعيمها الروحي عندما يطعن في السن قربانا حتى يمكن لروحه (المقدسة) من أن تحل على ولده ووريثه في زعامة القبيلة. وتمضي البريطانية في تتبع قصة دفن الزعيم حيا، فسجلت أن زوجها انزعج جدا من نبأ الدفنفأمر بعض جنوده الدينكا بحفر القبر الذي قيل أن رجال ذلك الفرع من القبيلة قد قبروا فيه زعيمهم حيا. غير أن الجمل تمخض فولد فأرا، إذ تبين أن من تم دفنه كان في واقع الأمر معزة تم دفنها حية بدليل عدم وجود قطرة دم واحدة خارج جسمها. ولم تتأكد الزوجة البريطانية من سبب دفن تلك المعزة وهي حية، ولعلها أفترضت أن تلك عادة قديمة من عادات القوم، فلم تشأ التدخل، وهي محاطة بثلة من رجال الدينكا الغاضبين. ولكنها كانت وزوجها على ثقة من أن الرجال قد دفنوا بالفعل زعيمهم الروحي في مكان ما، وأن من حولها إنما كانوا يتسترون على من قاموا بفعل ذلك خوفا من العقوبات التي قد تفرضها عليهم الحكومة، وآثروا الالتزام بتقاليد قبيلتهم التليدة، وضللوهما بدفن معزة حية. ومن باب السياسة واحترام تقاليد المحكومين وإن بدت شاذة أو كريهة أعتذر زوجها المفتش البريطاني لمن حوله من رجال الدينكا الغاضبين لإزعاجهم، وأمر لمن قاموا بالحفر ببقرة تعويضا لهم عن مجهودهم الذي لم يسفر إلا عن حيوان نافق.
وجاءت القصة التالية في الملحق الثاني في الكتاب عن طبيبة أسكتلندية أتت للسودان يوم 17/11/ 1950لتعقد قرانها على أحد موظفي القسم السياسي. وكان مما ذكرته تلك الطبيبة المتخصصة في الطب الشرعي أن مدير الخدمات الصحية عرض عليها في حفل زواجها العمل في قسم الخدمات الصحية بأسرع ما يمكن، فرفضت العرض بدعوى أنها غدت الآن زوجة وينبغي عليها البقاء في البيت والاعتناء بالزوج. غير أنه تبين لها بعد أيام قليلة أن لزوجها وبيتها الصغير خدم يرعونه، وأن الملل سيقتلها إن لم تجد عملا نافعا يشغلها. ومن طريف ما ذكرته تلك البريطانية أنها تعجبت من الطريقة التي كان ينثر بها الخادم الماء على ملابس زوجها من فمه قبل كيّها، ولم تجد للرجل شبيها غير الفيل عندما ينثر الماء على جسمه من خرطومه الطويل (أذكر هنا أن أحد المبتعثين السودانيين لبريطانيا كان قد حكى في ثمانينات القرن الماضي عن أن صديقته البريطانية كانت تقول ذات الشيئ كلما رأته يبخ الماء على ملابسه من فمه قبل كيّها! المترجم). ولما بلغ الملل بها غايته قررت الطبيبة البريطانية العمل في قسم الصحة، فتم تعيينها بعد محادثة هاتفية قصيرة مع مدير الخدمات الصحية بالخرطوم. وكانت مهمتها في البدء هي المرور على المراكز الصحية وتقديم العون للمساعدين الطبيين في الحالات التي تستعصي عليهم، وذلك من باب تخفيف الضغط على مستشفيي الخرطوم وأمدرمان.
وتخصصت الطبيبة البريطانية في تلك المراكز الصحية التي كانت تزورها في أمراض النساء والتوليد، وذكرت بأسلوب لا يخلو من بعض سخرية أنها كانت تصنف النساء اللواتي كن يأتين طلبا للعلاج إلى ثلاث أقسام: أولها النساء اللواتي يرغبن في الإنجاب، وثانيها النساء اللواتي يرغبن في التوقف عن الإنجاب، وثالثهما النساء اللواتي يرغبن في إنجاب ذكور وليس إناث! وظلت في ذلك العمل لنحو عام، قررت بعده فتح عيادة خاصة في منزلها، فتولى شقيق طباخ منزلها (وكان نجارا ماهرا) عمل اللازم، وأعجبت "الخواجية" كما كان يناديها بما قام به في غرفة الكشف، إذ زينها برسومات لزهور وفراشات ونباتات تسر الناظرين، خاصة الأطفال. وحكت أنها عند تسوية حسابها مع ذلك النجار طلب منها أن تعالج أحد أطفاله (على الحساب!). وتعجبت "الخواجية" من أن النجار وزوجه أتيا بعد يوم أو يومين وهما في غاية الأناقة والزينةومعهما طفلهما، فاستقبلهما السفرجي بكل إحترام وأجلسهم في صالون البيت وقدم للجميع عصيرا باردا في أفضل ما في المنزل من أكواب زجاجية فاخرة وصينية من الفضة الخالصة. ولعل الطبيبة البريطانية كانت تشير إلى علو كرامة السودانيين العاديين، وعدم شعورهم بأي عقدة نقص تجاه المستعمرين البريطانيين.
ورغم أن الطبيبة كانت قد عالجت في عيادتها عددا كبير من الكبار والصغار المصابين بمختلف الأمراض إلا أنها أكدت عدم رؤيتهالأي حالة ملاريا من بين كل من عالجت، وعللت ذلك بقيام قسم الصحة العامة في تلك السنوات بواجبه كاملا في مكافحة الحشرات التي تنقل الأمراض.
وعملت بعد ذلك الطبيبة محاضرة في تخصصها الأصلي (الطب الشرعي) في مدرسة كتشنر الطبية بعد أن طلب منها عميد المدرسة الطبية ذلك، وكانت على علاقة طيبة مع غالب الطلاب والطالبات، والذين كانوا يأتون بين حين وآخر لبيتها ضيوفا أعزاء ويناقشونها في مختلف الموضوعات. وبعد نيل السودان لاستقلاله غادرت الطبيبة الاسكتلندية البلاد مع زوجها وعملت في عدد من البلدان العربية، ولكنها تقول بأن أمتع أعوام حياتها وأكثرها غنى هي بلا ريب تلكالأعوام التي قضتها في السودان، وذلك لسبب واحد ألا وهو الصداقات العميقة التي أقامتها مع أفراد من مختلف طبقات المجتمع السوداني. وكثيرا ما كانت تلتقي ببعض هؤلاء الأصدقاء القدامى وأبنائهم خارج السودان، حيث كانت تبادلهم الحديث والمسامرة وكأنها لم تغادر السودان قط.
أفردت الكاتبة أحد فصول الكتاب لتسجيل أحوال سكن زوجات الموظفين البريطانيين، وتقول بأن هنالك إجماعا من قبلهن بأن السكن (خاصة خارج العاصمة) كان دوما غاية في البساطة، بل البؤس في كثير من الحالات. ولم تفهم كثير من الزوجات سبب ذلك التقشف المفرط وغياب كثير من "أساسيات الحياة المدنية": أهو بسبب قلة المال أم غياب الخيال أم عوز الخبرة؟بيد أنهن قاومن الوحدة والبعد عن الزوج إذ أن أزواجهن كانوا "مدمني عمل" وفي حالة تحرك لا ينقطع خارج المكاتب في الحقل غالب اليوم. ولذا قمن بإبتداع وسائل مبتكرة لشغل أنفسهن في أعمال مفيدة وصبرن على شظف الحياة، وتلك – في زعمهن - خصيصة بريطانية أصيلة.
وذكرت إحدي النساء أن سبب تقشف بيت المفتش البريطاني في ريف السودان هو أن "سيد الدار" نادرا ما يطأ بقدمه ذلك البيت، فهو في حالة عمل شبه دائم في غالب أيام الأسبوع، لا يغشاه إلا لتناول الغداء، ويؤثر المبيت تحت النجوم على النوم في ذلك "التكل" كما سمته، والذي كان يبنى من الطين اللبن ويعرش بالقش. وحكت عن معانتها وهي تضع الأسطال (الجرادل) والأطباق الكبيرة لجمع الماء المنهمر من ذلك السقف عند هطول الأمطار.
وحكت أخرى عن بيت المفتش في تلودي في عشرينات القرن الماضي فقلت إنه كان مبنيا من الطوب الأحمر، غير أنه كان يفتقد النوافذ الزجاجية، وتعجبت من ذلك، فمنازل الأغريق ومتاجرهم في تلك المدينة كانت بها نوافذ زجاجية!
وحكت أخرى أن فتاة بريطانية صغيرة قابلتهافي بريطانيا في ثلاثينات القرن الماضي كانت قد تزوجت حديثا من مفتش بريطاني وسألتها عن أحوال السكن والمعيشة في السودان، إذ أنها كانت تنوي اللحاق بزوجها حيث كان يعمل. وبالطبع لم تشأ من كانت تعيش في السودان - بتحفظ بريطاني مطبوع- أن تعطيها صورة قاتمة عن الأوضاع، ولم تذكر لها مثلا أن بيت المفتش في الريف ليس به "حمام" بل به "مسطبة" اسمنتية مربعة يقف فوقها من يرغب في الاستحمام ويصب الماء على جسده بكوز من الحديد أو القرع، وأن النوافذ ليست بها زجاج، بل هي مغطاة بشبك معدني لا يقي من حر أو مطر أوعواصف ترابية. غير أنها ذكرت في ردها على العروس بأن الجرذان تمرح وتسرح في البيت، بل أنها قد وجدت ذات مرة جرذا يقف مطمئنا على حافة "الزير" وهو يحتسي منه حسوات. فجاء رد العروس سريعا بأنها لن تعيش مع زوج تشاركه الجرذان في "زير" واحد، وأنها ستهجره إن وجدت الحال كما قد وصفت. ولكن زاد غم العروس والأخرى تسألها ببساطة: "وكيف تهجرينه وأنت على بعد ما لا يقل عن خمسمائة ميل بعيدا عن أقرب محطة للسكة الحديد، وليس من وسيلة مواصلات غير الإبل...وما أدراك ما الإبل!"
وورد ذكر في أحد فصول الكتاب للخدم السودانيين العاملين في منازل المفتشين البريطانيين. وأشادت كل النساء اللواتي أدلون بدلوهن في أمرهم بأمانتهم وإخلاصهم في عملهم وقدرتهم على تعلم الجديد من تقاليد الطعام وتحضيره وتقديمه، بغض النظر عن الجهة التي أتوا منها، ولكنها ذكرت تحديدا أن أفضلهم يأتون عادة من مناطق دنقلا. ولكن - وكعادة البريطانيين في إتباع التقريظ بلوم أو عتاب و سخرية- ذكرت إحداهن أن الخدم السودانيين العاملين في بيوت البريطانيين كانوا يهتمون بالمظاهر و"البريستيج" خاصة عندما يطلب منهم التحضير لمأدبة عشاء أو غير ذلك، وضربت لذلك مثلا أنها عند حضورها لحفل عشاء في بيت جارتها تعجبت أن لجارتها نفس طقم القهوة الذي أحضرته قبل فترة وجيزة من بريطانيا. ولكنها سرعان ما أكتشفت في صباح اليوم التالي أن ذلك الطقم هو بالفعل طقمها، وأن خادمها منح نفسه الحق في أن يعيره لخادم جارتها دون علمها أو إذنها! وذكرت المؤلفة أيضا أن السمعة الحسنة لهؤلاء الخدم دعت الأمريكيين وغيرهم (بعد عام 1939م) لأخذهم لمصر للعمل هنالك، ومن هناك هاجر معظمهم للخليج العربي حيث عملوا في قصور الأمراءوكونوا ثروات عالية نسبيا.
ورغم أن مرتبات أولئك الخدم كانت قليلة جدا (بمقاييس اليوم) إلا أنهم كانوا يتمتعون بمستوى حياة وطعام وشراب وملابس يفوق نظرائهم ممن كانوا يعملون في وظائف أخرى. وخلافا لما كان سائدا عند هندوس الهنود مثلا من نظام طبقي جامد يظل فيه الخادم مثلا خادما طوال حياته، فإن مسلمي السودان – بحسب رأي الكاتبة- لم يكونوا يخضعون لمثل ذلك الترتيب الطبقي الجامد. فمن يعرف بـ "المرمطون" (وهي أدنى مرتبة وظيفية في سلم الخدم) يمكنه بعد سنوات قليلة أن يغدو طباخا، وقد يعين له خادما في منزله (استخدمت المؤلفة هنا كلمة "عبد" عوضا عن "خادم"!؟)، وقد يصير في نهاية المطاف "سفرجي" البيت (وهي أعلى مرتبة وظيفية في سلم الخدم).
ولم تفت على المؤلفة ملاحظة التفاوت في مرتبات خدم المنازل، فذكرت أن الباشمفتش البريطاني في الجنوب مثلا (ومرتبه يبلغ أربعين جنيها) في عام 1937م كان يعطي الطباخ الشمالي ثلاثة جنيهات شهريا، بينما يعطي الطباخ الجنوبي جنيهين فقط!
أفلحت المؤلفة في نظري في رسم صورة "إنسانية" (بل فيكتورية الملامح) لأحوال زوجات الموظفين البريطانيين في تلك السنوات البعيدة كزوجات مطيعات وصبورات ومحبات لأزواجهن، ولم تنزع لتحليل الأسباب والنتائج للمواقف التي سجلتها. ولا ضير في ذلك، فالكتاب كان يهدف ببساطة لتسجيل بعضا من ذكريات النساء البريطانيات اللواتي رافقن أزواجهن في مدن وأرياف السودان التي كانت (ولا تزال للأسف، ولأسباب معلومة) تعاني من شطف العيش وقسوة الحياة، ولم يهدف ليكون كتابا متخصصا في التحليل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للامبريالية. غير أن هذا لا ينتقص من أهمية الكتاب للمهتمين بمثل تلك الموضوعات، وهو أيضا كتاب ممتع للقارئ الأجنبي لما فيه من تنوع وجدة وبعض غرابة (وللقارئ السوداني أيضا إن كان هنالك من بقية للمهتمين بتاريخ بلادهم!).
alibadreldin@hotmail.com
/////////