قصة أمير مهدوي

 


 

 



Story of a Mahdist Amir

J. A. Reid جي أي دي ريد

ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

هذه حكاية الأمير المهدوي (السابق) عيسى ود الزين والتي  سجلها كما سمعها (والعهدة عليه) الإداري البريطاني جي أي  ريد  نائب حاكم مديرية النيل الأبيض في عشرينيات القرن الماضي، من فم الرجل مباشرة. ونشرت القطعة في العدد التاسع من مجلة "السودان في مدونات ومذكرات Sudan Notes and Records  الصادر في عام 1926م.
الشكر موصول للأصدقاء الكردفانيين الذين صوبوا بعض الأسماء التي وردت في هذه القطعة.
المترجم
****     ****      ****    ****    ****   ****    ****
يقطن عيسى ود الزين التعايشي حاليا في "أم حياية" بالقرب من كوستي. وهو كهل قسُم الوَجْهُ، حسن السمت، وصاحب طبع محبب. قابلته مصادفة في كوستى، حيث وافق على الحديث إلي عن حياته في غضون سنوات حكم المهدية، وعن إدارة الخليفة عبد الله.
"كنت وكيلا لمحمود أحمد في كردفان في سنوات المهدية السِّتّ أو السبع الأخيرة. وكنت قبل ذلك في دارفور مع (الأمير) عثمان آدم، حيث قاتلت مع جيشه في معركة خارج الفاشر ضد "أبو جميزة*" وأصبت فيها بجرح خطير اخترقت فيه حربة قدمي.  وفي تلك المعركة التي استمرت من الفجر للمساء قتلنا  قائدهم**. وبعد ذلك قدت حملة في جبل مرة لعدة شهور، بعثت بعدها للأضية  لأتدبر شأن المسيرية، وكان ذلك في السنة السابعة (المقصود 1307 هـ – 1890م) والبلاد تعاني من مجاعة كبرى. وتعاملنا مع المسيرية بلطف زائد لأننا كنا نرغب في أن يقوموا بجلب محاصيلهم لأسواق الأضية. وفي ذات العام توفي (الأمير) عثمان آدم في الفاشر وخلفه محمود أحمد، والذي بعثني مع بشار ود ونيس التعايشي لقتال النوبة في الجبال. وفي طريق عودتنا من الجبال للأبيض تمرد الجهادية (المجندون السود) على الأمير محمود أحمد، وكان يقود ذلك التمرد عبد يسمى عطرون. وأفلح الأمير محمود احمد في إخماد ذلك التمرد وقتل عطرون والسود الأخرين الذين كانوا معه. وبعد ذلك عدت للأضية  حيث مكثت بها سنة أو أكثر. وبدأ المسيرية في التململ وبانت نذر تمرد في أوساطهم فقمت بشن ثلاث غارات عليهم لإخافتهم كانت حصيلتها 270 رأسا من الأبقار وكثير من النساء. غير أني رددت عليهم نسائهم لاحقا.
وفي السنة العاشرة (1310 هـ - 1890م)  كان غالب أفراد جيش كردفان قد سحب من أمدرمان. وفي السنة التالية  أمرني الخليفة عبد الله بالتوجه للأبيض حيث بقيت هنالك إلى ما قبيل معركة كرري. وكانت داري مقابلة لمبنى المديرية الحالي، وبها حوش كبير ودارة واسعة تسع عددا كبيرا من الضيوف، يقوم على خدمتهم عبدي جمعة ود قالوص (؟) مع ست خادمات. وكان بالأبيض في تلك الأيام عدد كبير من السكان المدنيين، يعيش كثير منهم الآن في بيوت من القش.
وكانت كل قوانيننا وإدارتنا تقوم على أساس الشريعة، وتحال إلي في الأبيض الأحكام التي كان يقضي بها مجلس من ست قضاة. وكان رئيس اولئك القضاة فيما أذكر رجل دنقلاوي يدعى محمد الأمين، وهو من الذين أتوا للغرب مع الأمير عثمان آدم. وكان من أعضاء المحكمة أيضا رجل محسي اسمه أحمد تاتي، وآخر من الجعليين يدعى عبد الرحمن. وكان هؤلاء  يجتمعون ويقررون أحكامهم ويبعثون بها إلى في ظرف مختوم، فأقوم بإرسالها للخليفة في أمدرمان، فيقوم بدوره ببعثها لمجلس أعلى من القضاة  فيقضي فيها. وبعد ذلك كان الخليفة يرسل إلي حكمه النهائي، فأرسله لمجلس القضاة عندي، وإن وجدوه موافقا لما يرونه أَخْطَرَوني بالحكم لتنفيذه. ولم تكن لي أي ولاية أو سلطة قضائية إلا بعد تأكيد الحكم من أمدرمان، إلا في حالات بسيطة ونادرة.
وكان دخلنا يأتي من العشور التي نفرضها على المحاصيل والحيوانات. وكان الخليفة هو الذي يحدد – من وقت لآخر-  معدلات هذه العشور ويرسلها إلي، وكنت أبعثها للعمال (يعادلون المآمير الآن)، وأكلفهم بحصر أعداد الحيوانات وتقويم كمية المحاصيل المنتجة، وكانوا هم بدورهم يعهدون لشيوخ المناطق بتلك المهمة. وكان أولئك الشيوخ يكلفون نوابهم بذلك العمل، والذين كانوا بدورهم يعهدون بالأمر للأنفار. ولم يكن هنالك في نهاية المطاف عد (حقيقي) لكل الحيوانات.
وكان عامل المنطقة يرسل وكيل له لشيخ القبيلة لجمع العشور، وكان هذا الوكيل يقيم مع شيخ القبيلة أحيانا لشهور. وعند اكتمال جمع العشور يقوم العامل بإرسال العشور لي في الأبيض. وعندها أرسل لمسؤول بيت المال في أمدرمان أخبره فيها بالمبلغ الذي جمعناه، ثم أبعث له  وتحت حراسة مشددة بالمبلغ.  وكان مسؤول بيت المال  يسلم من أحضر  العشور إيصالا بما تم استلامه.
وكنت في كردفان أقوم بمهمة "العامل" وهي تعادل رتبة المأمور الآن. وكانت حدود كردفان في عهدي متغيرة بصورة مستمرة، ولكن في أغلب الأحوال كانت حدودها الشمالية جبل الحرازة وكاجا وكتول الخ، وحدودها الغربية هي النهود والأضية، وتشمل حدودها الجنوبية جبال النوبة. وفي عهد الأمير محمود احمد ألحقت بكردفان  أيضا كل مناطق شات والدويم، إذ أنه زعم (للخليفة؟) أنه لن يستطيع إطعام جيشه دون ضم  تلك المناطق.
وكان بالأبيض سوق للرقيق تحت إشرافي المباشر، ولكن لم يكن يباع فيه غير النساء والأطفال، فالبالغين من الرقيق السود (ومعظمهم من النوبة) كانوا يلحقون بالجهادية.
ولم يكن هناك نظام مقرر ومحدد للمخابرات، فكنا عندما نسمع أن أفرادا أو قبيلة ما بدأوا في التذمر والتململ نقوم بإرسال من يقومون بالتحري والبحث في حقيقة الأمر، وكانوا هؤلاء يعرفون بـ "الجواسيس"، وكنا نزيد من أعداد هؤلاء عند الحاجة لذلك.
لم أكن أتلقي راتبا، غير أن كثيرا من المال كان يجري تحت يدي من الهدايا وغيرها. وكان هذا الحال ينطبق هذا على عمالي أيضا، ولكن كانت أموالهم أقل بالطبع.  وكان على كل من كان يريد مقابلتي أن يقابل أولا وكيلي (وهو خالي / عمي) عوضو دوكة، وقد قتل في معركة أم ديبكرات.
وصلت إلى أمدرمان يوم الثلاثاء قبل معركة كرري، والتي وقعت يوم الجمعة، وجلبت معي مددا لجيش الخليفة مكونا من 800 بندقية و500 فرسا. وقابلت الخليفة في الليلة السابقة لمعركة كرري، وكانت ليلة شديدة المطر. وفي تلك المقابلة أخطرني الخليفة بأني ومن أتى معي من الجند  سنكون تحت قيادة الأمير يعقوب  ورايته السوداء. عقدنا بعد ذلك "مجلس حرب"  وكان بيننا خليل أحمد (أحد أخوة محمود) والذي نصح بأن نهاجم الجيش الغازي ليلا. وقابل الخليفة والأمير يعقوب ذلك الاقتراح بالرفض المطلق بزعم أنه من ليس من شيم المهدية وعاداتها أن تهاجم الجيش المعادي ليلا وعلى حين غرة. 
وعند فجر اليوم التالي بدأنا التحرك لملاقاة الجيش الإنجليزي، وكان خليل أحمد من اوائل من قتلوا قرب النهر. وبعث الأمير يعقوب بمحمد بشارة  لمعرفة ما حدث لخليل، إلا أن محمد بشارة لم يعد أبدا. وبدأت معركتنا ضد الجيش الإنجليزي قرب جبل كرري، وكانت شدة نيران ذلك الجيش بالغة الضراوة. ورأيت الأمير يعقوب يطير من فوق جواده، ويسقط أرضا، فتفرقت صفوفنا ولم يهرع أحد لرفعه. واستحال ما كنت أرتديه لمجموعة من الأشرطة المتمزقة بفعل الرصاص المتطاير إذ أنني كنت أرتدي حجابا وقاني ضد الرصاص، رغم أن شظية أصابت حصاني فسقط وألقاني أرضا. ثم انسحبنا من أرض المعركة مع الخليفة وتوجهنا لأمدرمان، وبعد الظهيرة أخرجناه منها. وكان الخليفة مصرا على القتال إلى النهاية إلا أننا أخرجناه من أرض المعركة بالقوة. وتوجهنا به إلى شات، حيث أعطاني قريب لي بعض الملابس، ثم توجهنا بعد ذلك إلى شركيلا والتي أيقنا أننا فقدنا كل مناصر لنا فيها، فمضينا في طريقنا إلى جبال النوبة، ودخلنا هنالك في معارك محدودة ظفرنا فيها بالنصر إذ أن المحارب التعايشي يعدل 100 من محاربي القبائل السودانية الأخرى. وبعد مضي بعض الوقت هنالك أتجهنا شمالا لمحاربة قوات الحكومة. ولما هزمت قوات أحمد فضيل  في علوب؟ Allob (المقابلة لجزيرة أبا) كنا نسمع أَصْوات  الرصاص ونحن في أم دبيكرات. لجأ إلينا (الأمير) أحمد فضيل ومعه عدد قليل من أتباعه المخلصين. وتبين لنا أن ما كان نسمعه منه عن أن له جيش قوي كبير العدد  كان محض كذب.
وفي مساء الخميس بعثنا العيون لاستطلاع الموقف فأفادونا بأن العدو يعسكر في منطقة "الجديد". وبعد ساعات، وفي صباح الجمعة هاجمنا العدو بقوة كبيرة ونيران كثيفة. وقتل الخليفة وأحمد فضيل وعلي الحلو وهم جلوس على حصيرة الصلاة، وأمرني الجنود بأن ألْقَي بندقيتي ففعلت، وقبض علي، وبعدها استجوبني وينجت باشا عن مكان شيخ الدين (ولد الخليفة)، فأشرت إليه، وكان مصابا في يده. وأَخُذَت بعد ذلك لسجن في حلفا حيث قضيت فيه ثلاث سنوات، ثم أطلق سراحي فذهبت إلى سنجة وبقيت فيها إلى أن حضرت هنا قبل أعوام قليلة."         
************     **************      *************
*للمزيد عن أبي جميزة يمكن الرجوع لكتاب المؤرخ السوداني موسى المبارك "تاريخ دارفور السياسي 1882- 1898م" ولمقالنا المترجم عن المؤرخة الهولندية  ليدفين كابتيجينز  " أبو جميزة: ساحر يتحدى الخليفة".
** أوردت كثير من المصادر أن أبا جميزة مات بالجدري، ولم يقتل في معركة.

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء