هل لدارفور من مستقبل في السودان: بقلم: . د. أوفاهي .. ترجمة وتلخيص : بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 





هل لدارفور من مستقبل في السودان



Does Darfur have  a future in the Sudan

R. D. O’Fahey  ر. د. أوفاهي

ترجمة وتلخيص :  بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه  ترجمة (بتصرف)  لشذرات مختصرة  من مقال  للبروفسيور ر. د. أوفاهي بعنوان "هل لدارفور مستقبل في السودان" تم نشره في الدورية الأكاديمية التي نشرها جامعة تفتس الأمريكية "منتدى فليتشر للشئون الدولية   The Fletcher Forum of World Affairs  " في عددها الثلاثين والصادر في عام 2006م. ويعمل  البروفسيور  ر. د.  أوفاهي  أستاذا  للتاريخ في  قسم  تاريخ  الشرق  الأوسط  وأفريقيا  بجامعة  بيرجن  بالنرويج.  وبدأ  اهتمام  الرجل  بدارفور وتاريخها  في عام  1968م،  ونشر  نتائج  أبحاثه  في  مقالات  كثيرة  وكتب عديدة  منها  كتاب "الدولة والمجتمع في دارفور  State and Society in Dār Fūr"  و"تاريخ سلطنة دارفور The Dar Fur Sultanate: A History  . وهنا  أقتطف – مرة أخرى- بعضا  مما  أورده  الأستاذ عبد المنعم  خليفة  خوجلي عن أوفاهي  في  استعراضه  لكتاب  الرجل "تاريخ سلطنة دارفور":
"يحظى بروفسور أوفاهي باحترام  واسع  ومودة وسط  الشباب  الدارفوريين والزعماء التقليديين  بدارفور ، الذين يرون  فيه  تمثيلاً  لذاكرتهم  التاريخية  التراكمية. كما  أنه  إلى  جانب  هذا التقدير الشعبي  يحظى بالتقدير الرسمي كذلك ، حيث تم تكريمه في عام 1993م من قبل حكومة شمال دارفور ( في احتفال أقيم بمركز التراث الدارفوري بجامعة الفاشر عن أعماله الخاصة بتاريخ دارفور؛ كما أقيم له احتفال رسمي بمبنى مجلس الشعب قاده والي الولاية). من الطريف أنه بعد ختام ذلك الاحتفال احتفل به أصدقاؤه الدارفوريون بطريقتهم الخاصة في زاوية الطريقة التيجانية حيث استقبلوه بجوقة من الصبيان كانوا ينشدون مدائح الطريقة التيجانية … وهو يصف تلك اللحظات بأنها "مثيرة للعواطف". وتعبيراً عن التقدير المتبادل بينه  وبين أصدقائه  الدارفوريين ذكر في مقدمة كتابه عن " تاريخ سلطنة دارفور": أنه يهديه لقرائه – وللدارفوريين  بشكل خاص "كهدية من صديق في زمن عصيب". وكذلك عبر بإيجابية عن عراقة تاريخ دارفور، وثقته في مستقبلها بهذه الكلمات:   "أرجو أن أكون قد بلغت شيئاً عن مكانة  دارفور وزمانها وأهلها الذين هم  أناس  أصيلون، وأصحاب تاريخ  وهوية ؛ وسوف ينالون مستقبلاً  ذا شأن بإذن الله".
المترجم.
************************             *********    **********
هل لدارفور من مستقبل في السودان؟ أقوم بطرح هذا السؤال إذ أنه ليس لدارفور تاريخ وماضي بعيد  في السودان. فعلى الرغم من تاريخ التداخل والتفاعل الذي قام بين دارفور ووادي النيل (الآن شمال السودان ومصر)، فإن دارفور لم تضم نهائيا للسودان إلا في عام 1916م. وكان للتجاهل والإهمال الذي عامل به المركز دارفور في غضون سنوات الاستعمار والحكم الوطني دورا مهما في ظهور حركة احتجاج سياسية بذلك الإقليم في منتصف ستينيات القرن الماضي. وغدا ذلك الاحتجاج تمردا مسلحا ملأ الدينا وشغل الناس منذ عام 2003م. وبعد ذلك التاريخ أصبح وضع دارفور في السودان موضع تساؤل في مختلف الأوساط العالمية.
ودعني – ومن البداية- أقول بأني مؤمن بأن مستقبل دارفور هو "مع  السودان"، ولا أقول "في السودان"، ولكنه مع سودان يحكم بطريقة مختلفة تماما عن ما هو حادث في سودان اليوم.
ولمناقشة ودراسة مستقبل دارفور بين أقاليم السودان الأخرى ينبغي دراسة وفهم تاريخها أولا.
الخلفية الجيو – سياسية
لم يخطر ببالي أبدا في كل كتاباتي  عن دارفور وتاريخها أن أتساءل إن كانت دارفور هي  حقا جزءاً  "طبيعيا" من السودان. فمن ناحية تاريخية  ليس من إِجابة لهذا السؤال غير النفي القاطع. فالسودان الحديث كيان  اصطناعي أقامه المستعمر المصري – التركي، ثم  المصري – البريطاني. ففي عام 1821م، قام محمد علي باشا (والذي حكم مصر بين 1811 – 1848م)، ولأسباب تتعلق بطموحاته في منطقة الشرق الأوسط  والخلافة العثمانية  بغزو السودان النيلي بحثا عن الذهب والرقيق (لتجنيدهم في جيشه).  وكانت من نتائج انتصاره في حملته تلك توحيد كل المناطق التي غزاها فيما يعرف الآن بـ "شمال السودان". وكان محمد علي يخطط أيضا لغزو دارفور، غير أنه انشغل عن ذلك بإخماد ثورة خطيرة اندلعت ضده في المناطق النيلية.  ولم يجد محمد علي في السودان على كل حال إلا عددا قليلا من الرقيق وكمية بالغة التواضع من الذهب، فلجأ للفلاحين المصريين وجندهم في جيشه. وقام المغامرون الأوربيون، والمصريون، والسودانيون الشماليون، ومنذ عام 1839م، بدخول جنوب السودان بحثا عن العاج والرقيق، وبذا ردمت تلك الهوة التي كانت بين شمال السودان (المسلم) وجنوبه (غير المسلم). ثم تم بعد سنوات من ذلك  القضاء على الحكم المصري- التركي إثر ثورة دينية قادها المهدي، وورثت على أثرها الحكم المصري للسودان  بين عامي 1882 – 1885م.
وفي ذات العام الذي أعلن فيه  محمد أحمد أنه "المهدي المنتظر" (1882م)، احتلت بريطانيا مصر، دون أن يكون لها أي اهتمام بالسودان وحكمه، وأمرت مصر بإجلاء الحامية المصرية من  السودان، وبعثت بغردون للقيام بتلك المهمة. وتواصلت تباعا انتصارات القوات المهدوية والتي توجت في يناير 1885م بسقوط الخرطوم ومقتل غردون. وأثار مقتل ذلك الجنرال غضب واحتجاج منظمات محاربة الرق البريطانية والشعب البريطاني، والملكة فيكتوريا نفسها، والتي كانت تعد غردون بطلا من أبطال الإمبراطورية. ثم تغير موقف الحكومة البريطانية اللامبالي بالسودان في عام 1896م لأسباب تتعلق بالسياسات الأوربية فقررت، متحججة بذرائع شتى، "استعادة / إعادَة احتلال السودان" إِنابَة  عن مصر. وفي عام 1898م قضت القوات البريطانية – المصرية الغازية  على دولة المهدية وسيطرت تدريجيا على كردفان وجنوب السودان. وفي ذات العام أفلح السلطان علي دينار في إعادَةِ سلطنة دارفور، وهو أمر أذعنت له – مؤقتا-  السلطات الاستعمارية في بداية الأمر. وقرر البريطانيون في عام 1916م، وإلى حد كبير نتيجة لتقدم القوات الفرنسية شرقا نحو بحيرة تشاد، الضغط على السلطان علي دارفور فحاربوه وقتلوه وبسطوا سيطرتهم على كامل سلطنته.
وما سبق ذكره ما هو إلا سرد مبسط  ومختصر للوضع الجيو – سياسي  لبعض أوجه تاريخ ما يعرف الآن بـ "السودان". ومن المفارقات أن لدارفور المسلمة  كجزء من السودان تاريخا  أقصر عمرا من تاريخ جنوب السودان غير المسلم. فقد كانت دارفور وحتى عام 1874م دولة مستقلة. وقام تاجر الرقيق الزبير باشا (؟- 1913م) بغزوها واحتلالها، غير أن المصريين خدعوه وسلبوه انتصاره فاحتلوا دارفور لتسعة أعوام بين 1874 – 1883م. ولا يعد المؤرخون أن الزبير باشا ولا أنصار المهدي قد أحكموا فعليا سيطرتهم كاملة على دارفور. وعرفت تلك السنوات التسع في دارفور بـ "أم كويكة"، وهي أقرب إلى ما يمكن أن يعرف في ايرلندا بسنوات الاضطرابات والمشاكل (troubles). وعانت دارفور في تلك السنوات أحوالا مشابهة لما تكابده اليوم من اغتصابات وانتهاكات وجفاف وتصحر ونهب وافعال شائنة لأمراء الحرب وغير ذلك. وفر من دارفور يومها الكثيرون مثلما فر لاجئو دارفور لتشاد في عام 2003م. ونجح السلطان علي دينار في عام 1898م في السيطرة على دارفور وأخمد الاضطرابات والمشاكل فيها، رغم أن أساليبه وطرقه كانت عنيفة وقاسية إلا أنها كانت فعالة جدا (أورد المؤلف في الملحق أن علي دينار كان قد أختير من قبل عشيرته الملكية في 1892م كسلطان على دارفور، وعندما جاء إلى الفاشر من أمدرمان في 1998م كان يعد نفسه السلطان الشرعي للإقليم. المترجم). وورث البريطانيون عنه بعد أن هزموه منطقة بالغة الاستقرار والهدوء، وحكموها بين عامي 1916 - 1956م بأقل قدر ممكن من السيطرة والتحكم، غير أنهم لم يولوا أمر تنمية الاقليم أي قدر من الاهتمام، وتركوا السكان يسيرون حياتهم كما كانوا يفعلون منذ عقود مضت. ومضى حال دارفور هكذا في سنوات الحكم الوطني كأحد أقاليم السودان المستقل.
وفي العام الذي استولى فيه المستعمر البريطاني على السودان (1989م) كان أكبر همه هو منع الفرنسيين من الوصول لجنوب السودان. ودخل القائد البريطاني كتشنر  في مواجهة مباشرة مع نظيره الفرنسي النقيب مايكل مارشاند  في فشودة مما كاد يتسبب في صدام عسكري بين بريطانيا وفرنسا. وكان ذلك يعني أن البريطانيين كانوا يصرون على أن الجنوب هو جزء أصيل من السودان (المفترض)، وتركوا دارفور – مؤقتا على الأقل- ليحكمها علي دينار حتى عام 1916م. وظل الجنوب، ومنذ أن أخترقه القائد التركي محمد سليم القبطان عبر سدود النيل الأبيض، أقرب لشمال السودان من دارفور على امتداد تاريخها (أزال محمد سليم القبطان هذا باختراقه لسدود النيل الأبيض جنوبا بغرض اكتشاف منابعه اسطورة أن النيل الأبيض ينبع من القمر الخ... وورد ذكر للرجل في كتاب دكتور عبد الله جلاب بالإنجليزية "مجتمع مدني مؤجل" المترجم). ويحدثنا التاريخ بأن الزبير باشا كان قد غزا دارفور وهزم حكامها في عام 1872م وهو آت من جنوب السودان، مما يعني أن الجنوب كان بين عامي 1839 – 1882م  - وبصورة ما- جزءاً من السودان الشمالي بأكثر ما كانت عليه دارفور. وبحساب السنوات كان الجنوب جزءاً من الشمال من 1839م وحتى الآن (المقصود بالطبع حتى تاريخ صدور هذا المقال في 2006م. المترجم) أي لـ 166 عاما، بينما كانت دارفور جزءاً من شمال السودان بين عامي 1874 إلي 1839م ومن 1916م إلى الآن (أي ما مجموعه 113 عاما).
يجب كذلك القول بأن ما من أحد أتى على دارفور بذكر في الفترة الانتقالية التي سبقت استقلال السودان بين عامي 1953 – 1956م. وكان البريطانيون وساسة الحركة الوطنية وصفوة رجالها في مفاوضاتهم يدركون أن أمامهم "مشكلة الجنوب"، إلا أن أحدا من الجانبين لم يثر "مشكلة دارفور". لماذا؟ ربما كانوا يؤمنون بأنه ليست ثمة مشكلة في دارفور، وأنهم من سكان شمال السودان، فقط لأنهم من المسلمين! وهذا هو ذات الخطأ الذي وقع فيه الفرنسيون في غرب أفريقيا حين حاولوا ضم  السنغال إلى موريتانيا باعتبار أن سكان البلدين يدينون بذات الدين (الإسلام) دون أي اعتبار لاختلافات الأصول العرقية واللغة  عند شعبي البلدين. ولعل هذا الخلط المريع بين الهوية الدينية والعرقية  هو ما يربك الحال في سودان اليوم، تماما كما حدث في ماضيه، وهو أس المشكلة في دارفور، وسيظهر  بالتأكيد في المستقبل القريب في شرق السودان. فصفوة (نخبة ) سكان شمال السودان (وهم يمثلون نحو 5% من سكان البلاد، وهم  عرقيا من الجعليين والشايقية والدناقلة والنوبيين (الحلفاويين) وكلهم – عدا المجموعة الأخيرة-  يتحدثون العربية  ويعدون أنفسهم عربا (ويعرفون أيضا بـ"أولاد البحر"، ويقصد بالبحر النيل، أو "أولاد البلد"). ولا مجال هنا للخوض في  أمر هذا التصور والإدراك الشائع والمعقد الأسباب والنتائج (ضرب المؤلف لما يذهب إليه عن أن النوبيين لا يتحدثون العربية ولا يعدون أنفسهم عربا  مثالا بالبروفسيور محمد إبراهيم أبو سليم، فأورد أن الرجل لا يتحدث العربية في بيته وبالقطع لا يحسب نفسه عربيا، وعلى الرغم من ذلك كان يمارس عمله كمؤرخ عربي، بل وشغل منصب رئيس الجمعية العربية لمسئولي الأرشيف عدة مرات ، ويعتقد بروفسيور أوفاهي أن ذلك متسق مع موقف بلاده التي نالت عضوية الجامعة العربية على الرغم من أن أكثر من 60% من سكانها من غير العرب- وكذلك فعلت الصومال!؟ المترجم).
فمن منظور المؤرخ فالأمر الأشد أهمية هو كم من العرب الرحل أتوا للسودان في العصور الوسطى؟ وكيف تشكلت عرقية وهوية شمالي السودان؟ لابد أن بروفسيور يوسف فضل يعتقد أن عددهم كان كبيرا، بينما يرى بروفيسور جايي سبويلدنق عكس ذلك. وليس لأي منهما دليل قوي، ويصعب، على كل حال،  تفسير ما تحت أيدينا من قرائن ودلائل. ولا أعتقد أن بروفسيور يوسف فضل وبروفسير جايي سبويلدنق يؤمنان حقيقة بأن ما يزعمانه هو الحقيقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها. ولكن يصعب إنكار أن السلطنتين العظيمتين اللتان قامتا في شمال السودان وغربه في القرنين الخامس عشر والسادس عشر (أي سلطنة  سنار وسلطنة دارفور) كانتا تستندان على قاعدة (شعبية) من الفونج والفور وهم مسلمون من  أصول أفريقية (اختلف المؤرخون في أصول الفونج العرقية، وذكر زعيم قبلي معاصر من الفونج قبل سنوات قليلة حديثا في مقابلة تلفزيونية لبرنامج "اسماء في حياتنا" أن للفونج أصولا عربية من سلالة بني أمية. المترجم).
وشهد عهد المهدويين انتصار عنصر "الجلابة" (وهم التجار المتجولون، غالبا من الدناقلة أو الجعليين) وإعادة صياغة السودان بحسب أيدولوجيتهم. ولكنهم لم يصيبوا نجاحا كاملا في مسعاهم إلا في أمر واحد ألا وهو توريث المستعمر البريطاني أجندتهم هذه، والتي "ابتلعها" البريطانيون كاملة  كما هي، إذ قبلوا – دون تبصر أو نقاش- بفكرة أن سكان شمال وغرب وشرق السودان هم من العرب، ولم يتفهموا التعقيدات الاثنية (العرقية) التي تقبع تحت السطح.
وتكشف السجلات الباكرة لرجال الحكم الثنائي عن عنصرية طاغية. ففي عام 1915م كان هارولد ماكمايكل يعمل جاسوسا لحكومته في مناطق كردفان ودارفور يجمع الأخبار، ويلتقط الاشارات، ويفسر مجريات الأحداث في سلطنة دارفور استعدادا لغزوها (أو استعادتها بحسب التعبير البريطاني). وكتب مذكرة عن دارفور في عام 1915 حلل فيها – بعنصرية متحيزة- تركيبة دارفور العرقية والسياسية بدارفور، وشدد على التفوق العنصري والأخلاقي والفكري  لمن وصفهم بـ "العرب" في دارفور، ودونية سواهم من سكانها.  بل وكان يرى أن سبب نجاح عشيرة الكيرا في تأسيس مملكتهم في دارفور هو الدم العربي الذي يجري في عروقهم (عشيرة الكيرا – من التنجر وسليمان- هم أول من أسس مملكة في دارفور في القرن السابع عشر. المترجم).
وكان المستعمر البريطاني يرى السودان كبلد عربي، إذ كان محور اهتمامه يتركز في  الخرطوم العاصمة والمركز الإداري والتعليمي، والأبيض في كردفان حيث ينتج الصمغ العربي والذي  يجلب تصديره الأموال للحكومة، وواد مدني حيث يزرع القطن بمشروع الجزيرة، ومدينة الثغر بورتسودان حيث منفذ البضائع الصادرة والواردة، وأتبرا، حيث يقع مقر إدارة السكة حديد. وإن قمت برسم خط  في خارطة السودان  يربط هذه المدن ببعضها البعض فسوف تجد أن هذا الجزء من السودان (في نظر البريطانيين على الأقل) كان جزءاً صغير نسبيا من السودان ككل،  بيد أنه كان هو الجزء الوحيد المفيد/  النافع utile لهم، وكل ما عداه كان قليل الأهمية inutile. وما تسابق الشمال والجنوب للاستحواذ على مناطق انتاج النفط في وحول بانتيو في السنوات القليلة الماضية إلا مواصلة لسياسة المستعمر البريطاني القديمة. وكان البريطانيون في "المناطق المفيدة/ النافعة" يهدفون لتحصينها وإبعاد مصر وأهلها عنها، ويهدفون أيضا لإبعاد السودانيين عن مصر وأهلها. ولهذا الغرض عملوا على خلق كادر متعلم و"متفرنج" (في السودان المفيد/ النافع) يحل محل الكتبة وصغار الموظفين من المصريين. وخلق هذا الكادر من خريجي كلية غردون (القديمة) ووادي سيدنا وحنتوب و خور طقت  وجامعة الخرطوم جيلا يجيد لغة القوم ويحسن التعامل معهم. غير أنه كانت أمام ذلك الجيل (خاصة في عشرينيات وثلاثينات القرن الماضي) معضلة هائلة، ألا وهي الهوية... من هم؟ كانوا مسلمين ويتحدثون العربية (رغم أن اللغة الأولى للنوبيين منهم لم تكن العربية) إلا أن  جميعهم كانوا يحملون اسماءاً  عربية ويزعمون لأنفسهم أنسابا عربية...ولكن هل هم من العرب فعلا؟ إن  أول دليل على خطل زعمهم هو لونهم الأسود (قد يجادل البعض في هذا النوع من التحليل بالغ التبسيط. المترجم). ثم ظهر في بدايات العشرينيات اتجاهان في أمر الهوية، كان اولهما هو علي عبد اللطيف وأعضاء جمعية اللواء الأبيض (وغالبهم من ضباط الجيش ومن اصول من جنوب السودان وغربه). وكان هؤلاء قد أكدوا على إفريقيتهم، غير أنهم هزموا في 1924م، ثم نهج فيما بعد الحزب الشيوعي السوداني وحركة تحرير السودان (والتي تدين بالكثير للحزب الشيوعي) ذات النهج (يجب هنا  تذكر حقيقة مطالب جمعية اللواء الأبيض... وللمزيد عن هذه الجمعية يمكن النظر لمقال المؤرخة  الينيا فيزاديني عن تلك الجمعية، والمترجم بعنوان "برقيات وطنية: الكتابات السياسية ومقاومة الاستعمار في السودان بين عامي 1920 – 1924م". المترجم). وكان الاتجاه الثاني هو تجمع المثقفين والشعراء "العروبيين" في مجلتي "النهضة" و"الفجر" في ثلاثينيات القرن الماضي، والذي كان يميل إلى مصر. ثم أتت طائفة الختمية وحزبها الموالي لمصر، وطائفة الأنصار وحزبها الموالي لبريطانيا، رغم أن زعماء الطائفتين كانوا على وفاق ووئام تام مع البريطانيين (انظر في كتاب "العيش مع الاستعمار" لهيزر شاركي الصادر في 2003م. المترجم).
وفي مسألة لون البشرة  يجب الاعتراف بأن للعرب (مثلهم مثل الغربيين) لونا (أو الوانا) مفضلة عن غيرها. وكتب كثير من الشعراء (مثل الفيتوري وتوفيق صالح جبريل وحمزة الملك طمبل) عن لون بشرتهم وعن غموض والتباس علاقتهم بالعالم العربي. وحدثني عدد من الأصدقاء السودانيين عن ما صادفوه في مصر وغيرها في شأن لون بشرتهم. وتزخر الحصيلة اللغوية للعربية السودانية بكلمات عديدة لوصف اللون، غير أن مثل هذه الأمور لا تناقش كثيرا، ولم يبدأ الناس في الحديث عنها إلا مؤخرا، ربما بسبب خلفية الرق المرتبط بها، خاصة في شمال وغرب السودان.
دارفور: الحقائق الماثلة الآن
ولا يمكن الوصف الإعلامي لدارفور ومشاكلها إلا بأنه بالغ التبسيط والسطحية. فهو يركز علي أن أس المشكلة هو مجرد الصراع بين "العرب" و"الأفارقة"، وأن الحكومة تستخدم العنصر الأول في التطهير العرقي للعنصر الثاني، وذلك بغرض الاستيلاء على الأرض (وربما النفط في جنوب دارفور) في نهاية المطاف. وقد يتطرق البعض أحيانا  للمشكلة من زاوية أوسع وأشمل  بحيث تناقش في سياق الأزمة العامة بين الشمال والجنوب.
ولا ريب أن موضوع "الهوية"  هو ركن مهم من أركان الصراع في دارفور. وهو صراع  في الأساس بين الرحل (العرب) والمجموعات المستقرة (الأفارقة)، تساند الحكومة فيه المجموعة الأولى. وقد كان أهل دارفور يعون دوما تلك الاختلافات الاثنية (العرقية)، إلا أنهم كانوا يحاولون اخفائها بتغيير مهنهم أو لغاتهم أو بالزواج المختلط (بين القبائل). و بذا غدت الهوية العرقية في دارفور، ومنذ عقود، ضبابية ومائعة fluid وسياقية contextual. فليس هنالك من وحدة إدارية في دارفور ذات "نقاء عرقي" واضح. ولكن ظهرت بالإقليم  في السنوات الأخيرة حالات تشدد وتصلب في  الانقسام بين السكان على أسس أيديولوجية وعنصرية، أجج من نيرانها تدخل خارجي (ليس من الواضح إن كان الكاتب يقصد "التدخل الخارجي" من خارج السودان برمته أم من خارج دارفور. المترجم). والوضع في دارفور  بالغ التعقيد والتباين. ففي بعض المناطق يسكن أفرادٌ  من اثنيات/ أعراق مختلفة جنبا إلى جنب دون مشاكل تذكر، بينما تحدث مجازر وتطهير عرقي في مناطق أخرى (في غالب الأحوال بتأييد حكومي لفريق دون آخر)، ويتأرجح موقف بعض العناصر الدارفورية، فهي "عربية" في بعض الحالات، و"أفريقية" في حالات أخرى! وهنالك عناصر أخرى (ربما تكون ثانوية) في الصراع، منها تكون صفوة محلية (خاصة عند الزغاوة)  من التجار الأثرياء العاملين في دارفور ودول الخليج الفارسي، ورغبة كثير من الرحل في الاستقرار وهجر حياة الترحال، مما يدفعهم للبحث عن أراض يتملكونها ويقيمون فيها  حيث يفترض أن يجدوا التعليم والرعاية الصحية والوظائف. وعلى وجه العموم، فإن المجتمع الدارفوري الحالي هو الآن (المقصود حتى كتابة المقال في 2006م) في حالة من التفكك، أو على الأقل التحول السريع، حيث يختفي حكم القانون والنظام بمعدل سريع (أو يسود فيه  التغير لأشكال جديدة، إن كنا من المتفائلين)، وحيث لا تجد أطراف الصراع (الحكومة والعرب والأفارقة والمليشيات الأخرى) في نفسها شرعية ولا قدرة للحديث أو التفاوض مع غيرها من الأطراف.
قد أكون (مجرد) مؤرخ، ولست مسئولا أو خبيرا عالميا بشئون السياسة والإدارة، غير أن لي بعض الأفكار عن ما يمكن فعله لتحسين الأوضاع في دارفور.
يجب في البدء الاعتراف بأن ما حدث في دارفور في الأعوام الماضية  كان أمراً بالغ القسوة والافراط ، حيث خلقت حالة من الـ urbanization من خلال اقامة معسكرات كبيرة للنازحين الدارفوريين، مع ما يترتب على ذلك من نتائج كان أولها أن عدداً قليلا فقط من سكان تلك المعسكرات سيرضى بالعودة لمنطقته الأصلية لأسباب سالبة (مثل إنعِدام الأمن والشعور بالأمان) ولأسباب موضوعية منها أن هؤلاء النازحين سيبدأون عند عودتهم لمدنهم وقراهم القديمة رحلة جديدة للبحث عن وظائف وتعليم ورعاية صحية الخ. وهنا تبرز أهمية إشعار هؤلاء المواطنين بأن لهم حقوقا مشروعة حيث يقيمون، وأن يتعاظم الإحساس عندهم بأن مطالبهم المشروعة تجد الاستجابة في حدود القانون وفي إطار ثقافتهم المحلية. وهذا يعني ببساطة ضرورة إقامة إدارات محلية يختارها ويقودها من يثق فيهم المواطنون (وهذا خلافا لما يحدث اليوم من فرض حكومة الخرطوم لقادة محليين من اختيارها)، وعلى كل حال فليس للخرطوم (المركز) أن يقرر في الشئون المحلية لدارفور (أو غيرها) فليس لديها الموارد ولا الشرعية لإقامة إدارة على النمط الحديث.
والأمر الثاني هو وجوب وجود قانون متفق عليه من قبل جميع مكونات المجتمع، وليس القانون المفروض من قبل الحكومة في دارفور. وأنا أرى وجوب سن قانون يوائم بين الشريعة الاسلامية والأعراف المحلية، بحيث يجد القبول من كل أفراد المجتمع المحلي، وينص فيه على وجوب منح تعويضات مناسبة عن ما ارتكب من جرائم في السنوات الأخيرة، ويحدد ملكية الأراضي بحيث يتم إنصاف القبائل المستقرة وقبائل الرحل كذلك. ويتطلب كل ما سبق ذكره بالطبع اتفاقا يجد القبول عند الحكومة والمجموعات الدارفورية المتصارعة.
إن مشاكل دارفور قابلة  للحل إن توقف القتال، إلا أن هذا أمر يجب أن يترك لأهل دارفور ليقرروا فيه، وأهل دارفور يجب أن يدركوا/ يتعلموا (بأنفسهم) ما يجب أن يقرروه بشأن مستقبل علاقتهم بالسودان.


alibadreldin@hotmail.com
////////

 

آراء