التمرد والعنف وتكوين الدولة في دارفور في سنوات الاستعمار الباكرة. ترجمة وتلخيص: بدر الدين الهاشمي
Rebellion, Violence and State Formation in Early Colonial Darfur
كريس فون Chris Vaughan
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص موجز لبعض ما ورد في مقال للدكتور كريس فون (والذي يعمل الآن محاضرا للتاريخ في جامعة ليفربول ببريطانيا) مستل من بحث قام به قبل سنوات قليلة عن ثورات دارفور في سنوات الاستعمار الباكرة وقدمه لجامعة دارم البريطانية لنيل درجة الدكتوراه في عام 2011م. وقد نشر هذا المقال في مجلة "تاريخ الاستعمار (الإمبريالية) والكومنويلث The Journal of Imperial and Commonwealth History " في عددها رقم 42 لعام2014م ، صفحات 286 – 307.
المترجم
*********** *********** ************
أرسلت في سبتمبر من عام 1921م لتيننت ماكنيل المفتش البريطاني في منطقة جنوب دارفور تقارير (استخباراتية) تفيد بأن هناك تحركا في منطقته لقوات شعبية مضادة للحكومة يقوده رجل دين (فكي) يسمى عبد الله السحيني كان قد أعلن أنه "النبي عيسى"، وقد بعثت به العناية الإلهية لطرد المسيح الدجال (البريطانيين). وعلى الفور قام المفتش البريطاني بالاستعداد لذلك الخطر القادم للدفاع عن نيالا مركز جنوب دارفور. ولم يكن الرجل على علم بما هو قادم نحوه، فقد كانت تعوزه المعلومات الاستخبارية اللازمة عن عدد أنصار ذلك الفكي المتمرد. ولم تزده اتصالاته ورسائله مع الفاشر (عاصمة الاقليم، والواقعة على بعد 200 كلم شمالا) إلا شعورا متعاظما بالوحدة والشك والاضطهاد.
وبعد ثلاثة أيام من تاريخ إبلاغ المفتش بنبأ هجوم السحيني، انقضت قوة مكونة من ستة آلاف من المتمردين على نيالا في أكبر تمرد على الحكم البريطاني في تاريخ السودان البريطاني – المصري. وقتل في ذلك الهجوم – من ضمن من قتلوا- المفتش تيننت ماكنيل والطبيب (المفتش) البيطري للمنطقة شاوون. ولم ينقذ سمعة الإمبراطورية البريطانية يومها غير صمود الجنود السودانيين بقيادة اليوزباشي (النقيب) أفندي رزق، والذي أشادت به الصحف البريطانية – بحسب ما جاء في صحيفة الأهرام الصادرة في 28/10/ 1921م- كبطل عظيم ، لصموده مع أفراد قوته الشرطية، والذين استبسلوا في الدفاع عن نيالا وزغاريد نسائهم تشعل من تصميمهم وتزيد من حماستهم.
وغدت تلك "الملحمة"– كما يحلو للبريطانيين وصف ما حدث يومها- ضد الفكي السحيني مادة للأساطير الاستعمارية، تدور غالبها حول البطولة الخرافية للمسئولين البريطانيين ومن تحتهم من المرؤوسين السودانيين المخلصين. وكان يوم تلك الموقعة عند سكان نيالا يوما حافلا بالأحداث، حفظته ذاكرة من كان شهودا عليها، كما وضح من مقابلات أجراها معهم م. س. وورد ويرث في عام 1940م. وفي أعقاب المعركة مع أتباع السحيني قامت قوة عسكرية بالغة العنف والقسوة (أطلقت عليها الحكومة البريطانية على سبيل التلطيف كلمة "دورية حكومية patrol) بسحق من تبقى من أتباع ذلك الفكي وصادروا أعداد هائلة من الماشية التي كانوا يملكونها.
وتبدو انتفاضة نيالا من الوهلة الأولى مثالا كلاسيكيا لما ذكره مايكل أداس من أنها كانت واحدة من: "حركات تنشيطية/ تجديدية revitalization movements مبعثها الهام نبوي عند غير الغربيين (الأهالي) ضد الأنظمة الاستعمارية، أعقبها سحق استعماري عنيف ضد كل المشاركين فيها... "، وهذه يطابق وصف مؤرخ "المهدية الجديدة" السوداني حسن أحمد إبراهيم لتك الأحداث. غير أن توصيف ما حدث بتلك الطريقة "التبسيطية" يشير ويفترض ضمنا وجود انفصام بين المستعمر ومن يستعمرهم، وهذه هي الفكرة التي سادت عند الكتاب والباحثين في أيام المقاومة الباكرة للاستعمار. إلا أن عددا من الأبحاث الجديدة في هذا المجال أثبتت أن تصوير حركات التمرد ضد المستعمر كتعبير أو مظهر للوطنية الأصل (أو الوطنية الأصلية proto-nationalism) هو في حقيقة الأمر نتاج للانقسامات بين المجموعات (السكانية) المحلية. فقد كانت تلك الحملات التي سميت حملات المستعمر للتهدئة Colonial pacification (والتي لم تنل بعد ما تستأهله من دراسة تاريخية وافية) تتميز أيضا بـ "سياسات تحالف" بين الدولة الاستعمارية ومجموعات محلية معينة تستغل القوة العسكرية للدولة كأحد مصادرها في سبيل تحقيق أجندتها الخاصة ضد المجموعات (المحلية) المنافسة الأخرى. وجعلت الدولة الاستعمارية من بعض المجموعات المحلية حلفاء لها، بينما استعدت مجموعات أخرى (كما حدث في جنوب السودان مثلا عند وقوع الصدام الدموي بين المستعمر وقبيلة النوير، والذي حرضت عليه، بل وشاركت فيه بصورة مباشرة، قبيلة الدينكا المجاورة، وتكرر حدوث ذلك مرة أخرى في دول أفريقية أخرى مثل كينيا وثوار الماو ماو). وحدث ذات الشيء في تمرد نيالا، إذ أدى الصدام بين أتباع السحيني والحكومة لزيادة المشاعر الناقمة على الحكومة في جانب، ولكنه أدى في جانب آخر لخلق مجموعات محلية متنافسة ومتشاكسة تؤيد الحكومة، وزاد ذلك أيضا من حدة الصراع بين كثير من تلك المجموعات. وبذا بقي تمرد نيالا (1921 – 1922م) مثالا على قدرة الحكم الاستعماري علي استخدام سياستي الإكراه والتفاوض coercion and negotiation مع المجموعات المحلية المتفرقة.
وفسر بعض المسئولين البريطانيين انتفاضة نيالا (في تبسيط شديد لا يخلو من بذرة حقيقة) بأنها وقعت بسبب عدم اعتياد من شاركوا فيها على وجود "حكومة مستقرة" قبل مجيء الحكم البريطاني، وقالوا بأن نقمة هؤلاء المتمردين لم تكن ضد جوانب محددة في الحكم الاستعماري، بل كانت موجهة أساسا ضد هيمنة الدولة علي شئونهم المحلية. فقد كانت المنطقة التي حدث فيها ذلك التمرد في جنوب دارفور تقع على أطراف سلطنة دارفور المسلمة التي قامت في أخريات القرن السابع عشر، ولم تكن علاقة سلطان دارفور بمواطني جنوب دارفور حسنة أو مستقيمة أو مستقرة أبدا.
وتعد منطقة جنوب دارفور جزءاً من "قوز دارفور" وتهطل فيها أمطار تكفي للزراع والرعاة معا، ويقطنها عرب البقارة (وهم رعاة ماشية) والرزيقات والهبانية والتعايشة وبني هلبة (وهم شبه – رعاة). غير أن نحو 80% ممن كانوا قد شاركوا في تمرد نيالا في 1921م كانوا من المساليت (وهم غير عرب) و الفلاتة الرعاة (يسمون أحيانا بالفولاني). ومن المهم جدا فهم طبيعة العلاقة بين المزارعين المساليت وبعض جيرانهم من البقارة الرعاة عند حدوث تمرد نيالا، فهي من القضايا المركزية في ذلك التمرد وفي ما حدث بعده من قيام ما سمي بـ "حملات التهدئة". ففي تلك السنوات التي سبقت الاستعمار لم يكن لأي من سلاطين دارفور سيطرة تامة على كافة مناطق سلطنته، وكانت العلاقات بين السلاطين والبقارة – ولفترات متقطعة- تتراوح بين العداء الشديد والغارات المتبادلة في بعض الأوقات، والجنوح إلى السلم في أوقات أخرى (بفضل الديات والأتاوات التي كان يدفعها البقارة لاولئك السلاطين). غير أن هنالك جانبا مهما آخر، وهو الجانب الاقتصادي. فقد كانت هنالك علاقات اقتصادية وثيقة بين جنوب دارفور والسلطنة. فالرعاة في جنوب دارفور كانوا يهاجرون ببهائمهم بصورة دورية لوسط مناطق السلطنة بحثا عن المياه، ويقومون ببيع (أو مقايضة) مواشيهم هنالك للمزارعين الفور في مقابل الحبوب. وكان الجانبان يشتركان في تجارة واحدة وهي الغزو على دار فرتيت (الواقعة جنوبا) للحصول على الرقيق، وشكل هذا سببا اضافيا (ومستمرا) للاحتكاك بينهما.
وحكمت سلسلة متتابعة من الأنظمة دارفور بين عامي 1874 - 1916م تسابقت جميعها على ضرورة التوسع جنوبا في "جنوب دارفور". واستولى الحكم التركي – المصري في عام 1874م على دارفور عقب تفجر الصراع والتنافس بين تاجر الرقيق الزبير باشا وسلاطين دارفور لأسباب مختلفة أهمها بلا ريب تجارة الرقيق. واستمر الحكم التركي – المصري لدارفور حتى 1883م حين تمكن المهدويون، وبمعاونة قوية من سكان جنوب دارفور، من هزيمة وطرد الحكم المصري – التركي، وحكم دارفور لمدة خمسة عشر عاما، حفلت بثورات ومصادمات دموية مع سكانها، لعل أشهرها الصدام مع "أبي جميزة" في غرب دارفور، والذي كان قد زعم أنه أحد "خلفاء المهدي". وغربت شمس الحكم المهدوي في دارفور بسقوط أمدرمان في 1898م ووصول علي دينار (حفيد أحد سلاطين دارفور السابقين) للفاشر كسلطان لدارفور، يعترف بسيادة الحكم البريطاني – المصري للسودان ويدفع له سنويا جزية معلومة. وفي غضون سنوات حكمه أفلح السلطان علي دينار في إخماد عدد من الحركات الموالية لـ "المهدية الجديدة". وفي منتصف سنوات الحرب العالمية الأولى (وتحديدا في 1916م) هاجمت قوات الحكم البريطاني – المصري السلطان علي دينار ، ربما خوفا من ميله – كحاكم إسلامي- نحو الخلافة العثمانية، وقتلته واستولت على كامل سلطنته (لبعض المؤرخين آراءاً مختلفة تفسر سبب غزو الحكم الاستعماري واستعادته لدارفور، كان منها التنافس البريطاني – الفرنسي على دارفور. المترجم).
وبعد سنوات من استيلاء الحكومة الاستعمارية علي دافور اندلعت انتفاضة نيالا بقيادة مدعي العيسوية الفكي السحيني، ربما كردة فعل طبيعية ضد هيمنة الدولة لمناطق ظلت مهمشة، وخارجة، ولسنوات طويلة، عن أي سيطرة لدولة منظمة. وكانت لمشاركة الفلاتة في تلك الانتفاضة أهمية تاريخية كبيرة، فهؤلاء الأفراد أصلهم في شمال نيجيريا، حيث قاد من قبل عثمان دان فودة ثورة جهادية ضد المستعمر (الكافر) في بداية القرن التاسع عشر، وكانوا هم أيضا من أهم المشاركين في ثورة مهدوية ضد المستعمر في شرق السودان في 1918م. ولم تغفل الحكومة الاستعمارية، رغم تركيزها علي "التعصب الديني" كسبب لانتفاضة الحسيني، عن مشاعر الحرمان والمظالم المادية التي دفعت بالناس في جنوب دارفور (خاصة المساليت) للتمرد على السلطات. وكان من بين تلك المظالم ارتفاع الضرائب والمكوس وعدم العدالة في تقديرها، وسوء وسائل استخلاصها من الناس، خاصة من قبل رجال الشرطة والشيوخ المحليين والمعاونين (وهم من السودانيين الذين كانوا يعملون كمساعدين للمدراء والمفتشين المستعمرين). فلم يكن هنالك أي قدر من المرونة في الضرائب المفروضة حتى عند حدوث كوارث طبيعية مثل المجاعات أو غزوات الجراد التي كانت تقضي على المحاصيل، أو الطاعون البقري الذي حدث ذات عام في غرب دارفور. ومن القصص المحزنة التي ظل الناس يتذكرونها عن ظلم المعاونين السودانيين ما قام به أحدهم من ربط عدد من عمد المساليت (كحزمة جرجير. المترجم) وجلدهم في ساحة عامة لعدم جمعهم لما قرره من ضرائب ومكوس. وكان ذلك المعاون مشهورا أيضا بأخذ من يريد من النساء عنوة في كل قرية كان يطوف عليها حتى قبل أن يقابل شيخ تلك القرية. والقاء مثل ذلك اللوم على المعاونين السودانيين كان أحد سياسات الحكام البريطانيين للدفاع عن حكومتهم. بيد أن ذلك كله لم يكن شيئا جديدا على دارفور، فسنوات حكم المصريين والأتراك لدارفور (وكانت تعرف بـ "أم كويكة") كانت سنوات فساد وقتال وبؤس وخراب. وكان ذلك الحكم، وما أعقبه من حكمين مختلفين وغريبين aliens (المهدية والاستعمار المصري- البريطاني) يمارسان، وعلى وجه العموم، ذات الممارسات الظالمة فيما يتعلق بالضرائب وتقديرها ووسائل جمعها.
وعبر المتمردون من أنصار السحيني في نيالا عن رأيهم في ممارسات اولئك "المعاونين" السودانيين في هتافاتهم ضدهم، والتي كانت تجري قريبا من هذا النحو: "يا عبيد الترك... أين ستشربون الليلة؟ الفاشر بعيدة من هنا...".
وعلى الرغم من أن ذات المظالم التي كان يجأر بالشكوى منها سكان جنوب دارفور كانت تقع أيضا في غيرها من المناطق (خاصة في غرب دارفور)، إلا أنه لم تحدث في أي منطقة أخرى من دارفور انتفاضة مثل تلك التي وقعت في نيالا، والتي كانت قد اجتذبت كثيرا من المساليت القاطنين جنوب دارفور، ربما بدافع تدخل الحكومة في السياسة المحلية المتعلقة بالأرض، وتفضيلها لمجموعات سكانية في المنطقة بعينها على غيرها.
وكان المساليت (وهم مزارعون) في جنوب دارفور يجاورون الهبانية والفلاتة (وهما من الرعاة)، ولا تتوفر أي معلومات عن طبيعة العلاقة بين هذه المجموعات في السنوات التي سبقت عام 1917م، غير أن بعض الخرائط كانت تشير إلى أن المساليت لم يكن يجاورون الهبانية قبل أخريات القرن التاسع عشر، وربما كان لأحداث الثورة المهدية في جنوب دارفور علاقة سببية بتلك المتغيرات في جغرافية دارفور السكانية. غير أنه من الثابت أن المساليت كانوا على غير وفاق – في غالب الأوقات- مع البقارة إذ كان بينهم يقع بينهم ما يحدث عادة بين المزارعين والرعاة، وكانا يتنافسان أيضا في الإغارة جنوبا على دار فرتيت لجلب الرقيق وعلى ملكية الأرض. وذكر الباحث (محمود) مامداني أن بعض السلاطين قاموا بعملية تنظيم لحيازة الأرض أزالوا بموجبه تخصيص الأرض لقبيلة بعينها detribalization ، ومنحوها للأشخاص المرضي عنهم كـ "حواكير". ولا يتفق المؤرخ أوفاهي مع هذا الزعم، ويجزم بعدم وجود أدلة علي تمدد نظام "الحواكير" في جنوب دارفور لأبعد من نيالا، والتي تقع على بعد نحو ثمانين ميلا شمال المناطق التي يسكنها المساليت. ومن الثابت أيضا أن الإداريين البريطانيين (وأشهرهم ماكنيل) قاموا في سنوات الاستعمار الأولى بعمل تغييرات مهمة في "السياسة المحلية" التي كانت قائمة بين بين المساليت والهبانية، وأزالوا ما كان معروفا وثابتا عند القبيلتين من حدود قامت على أساس الوجود العرقي في المنطقة المعينة. وكان هذا أحد أهم أسباب الاحتكاكات والصراعات التي وقعت لاحقا بين أفراد القبيلتين. فالمساليت في جنوب دارفور كانوا يرون أن الحكم الأجنبي قد ظاهر عليهم قبيلة الهبانية، وشعروا بالمرارة والحرمان من حقوقهم، الأمر الذي نتج عنه مساندتهم للفكي العيسوي السحيني في تمرده على الحكومة الاستعمارية.
وإن كان سبب التمرد الرئيس عند عوام المواطنين في جنوب دارفور هو الشعور بالغبن والظلم في أمر الأرض والضرائب، فقد كان لبعض خواصهم أيضا مآرب أخرى في الانتفاضة على الحكم الاستعماري. فمنهم من كانت له طموحات شخصية في القيادة، ومنهم من كان قد وجد نفسه مهمشا ومعزولا عن القيادة (مثل زعيم الايبا (الأندوقا) – وهو فرع من فروع الفلاتة- كان قد عزله الإداري البريطاني ماكنيل من منصبه وعين مكانه شخصا آخر هو أبو حميرة). ويرى البعض أن من أسباب تعضيد ومشاركة المساليت في تمرد نيالا هو قيام المفتش البريطاني ماكنيل بسجن الزعيم المسلاتي ملك دود Melik Dud في الأيام التي سبقت انتفاضة نيالا، وترك حبسه فراغا خطيرا في السلطة الشعبية. وكانت تلك من الأخطاء التي رأت الحكومة لاحقا أنها ساهمت في إشعال فتيل الأحداث، إذ أن ذلك الرجل كان مسموع الكلمة عند شعبه، وربما كان بمقدوره حث مساليت جنوب دارفور على عدم المشاركة في ذلك التمرد إن لم يكن قد أودع السجن.
وأظهرت الحكومة غلظة شديدة تجاه المواطنين في أعقاب هزيمة تمرد السحيني. وكان ذلك من أسباب محاولتهم التجمع مرة أخرى والقيام بتمرد جديد. وأسهمت تلك الأحداث في ظهور نذر عدد من محاولات التمرد والانتفاضة في بعض مناطق الإقليم الأخرى. وفي سعيها لكبح جماح تلك المحاولات في مهدها أقرت الحكومة خططا استراتيجية شملت إظهار شوكة الدولة وقوتها الضاربة لكل من تسول له نفسه القيام بتمرد عليها، وفي ذات الوقت القيام بعمليات مصالحة وترضيات ورد للمظالم التي كان يشتكي منها المتمردون، والعمل على زيادة وتكثيف رقابة الحكومة على كافة شئون الإقليم الداخلية، إذ كان البعض يرى أن ضعف نفوذ الحكومة في جنوب دارفور هو ما أغرى المتمردين للقيام بما قاموا به في نيالا في 1921م. فقد كانت حامية نيالا قد سحبت منها قبل فترة ليست بالطويلة من قيام التمرد. وكان حضور الحكومة (واسلحتها الحديثة الفتاكة) والتي جلبت لغزو دارفور في 1916م غائبة عن جنوبها. لذا قرر السيد/ سافيل حاكم دارفور استعراض قوت الحكومة واسلحتها، ليس فقط في نيالا، بل في سائر اجزاء جنوب دارفور في شكل دورية منتظمة (سميت الدورية 99) تجوب سائر مناطق الإقليم لتري المواطنين أن خلف المفتش المنعزل في نيالا قوة ضاربة فتاكة وساحقة. وشملت الدوريات سريتين للمشاة المحمولة، وثلاث سرايا للهجانة، ومائة من فيلق المشاة من عرب الغرب، وسبع مدافع فايكرز و200 من المقاتلين المساندين friendlies كانوا يتألفون من كل الأعراق في جنوب دارفور عدا المساليت والفلاتة.
وقام في نهاية يناير 1922م ما بين 2000 - 3000 من المتمردين الذين أعادوا ترتيب صفوفهم عقب هزيمتهم في العام المنصرم بالهجوم على تلك الدورية العالية التسليح، فأمطرتهم الدورية بوابل من رصاص بنادقها ومدافعها الرشاشة، وقضوا على معظمهم، منهين بذلك فعليا تمرد نيالا في عامي 1921- 1922م.
وعقب ذلك أعلنت الحكومة عن عفو عام لكل من سبق له الاشتراك في تلك الأحداث، عدا قادة التمرد، والذين لاحقتهم الدورية 99، وصادرت ما وجدته عندهم من أسلحة وذخائر، وصادرت أيضا ما وجدته عندهم من أبقار وخيول ومواد غذائية، وأمر حاكم دارفور بهدم مساكن الذين شاركوا في التمرد وتسويتها بالأرض عقابا لهم على حرق مبنى المركز في نيالا، غير أن السكرتير الإداري في الخرطوم منع تطبيق ذلك الإجراء على كل المشاركين في التمرد، ونصح بقصره فقط على قادتهم.
وسلك بقية المفتشين في أجزاء دارفور الأخرى ذات المسلك في إظهار قوة الحكومة وشدة بأسها. فقام البمباشي (الرائد) كريق باستعراض قواته العسكرية في كبكابية بشمال دارفور، وأثار ذلك هلع غالب السكان فاختبأوا في بيوتهم حين مرور تلك القوات المسلحة.
وكان من أدلة قلة معرفة الحكومة بالأوضاع الداخلية لدارفور هو اعتمادها التام على المخبرين (الجواسيس) المحليين في الكشف عن هوية قادة حركات التمرد في أوساط السكان. ولم يكن هؤلاء على قدر كبير من الثقة والأمانة دوما. وقامت الحكومة بعرض عطايا مجزية لمن يدلهم على قادة التمرد. غير أن المسئولين البريطانيين كانوا في واقع الأمر يفضلون (ببساطة) قتل من يشك في أنه من قادة التمرد أكثر من اعتقاله وتقديمه للمحاكمة، وذلك لأن غالب من يعتقلون كانوا ينكرون تماما اشتراكهم في التمرد ويصعب إثبات التهمة عليهم في المحاكم. وجاء في إحدى الوثائق أن حاكم دارفور سافيل عبر عن سعادته لمقتل أحد قادة التمرد (واسمه آدم الجلابي) حتى يتجنب "مهزلة" إقامة محكمة قد لا تجد بينة تدينه بها!
وكان المسؤولون البريطانيون يعرضون جثث ورؤوس من يظفروا بهم من قادة التمرد لتقوية شعور المواطنين بشدة بأسهم وعظمة قوتهم الضاربة. وكانت تلك من عادات سلاطين المنطقة حين يظفرون بأعدائهم في سنوات ما قبل دخول الاستعمار.
وقامت القوات المساندة (والمكونة في غالبها من الرزيقات وعرب المسيرية وقليل من رجال المساليت الذين بعث بهم المك المسالم دودDud ) في يناير من عام 1922م بقتل اثنين من قادة التمرد وقطعت رأسيهما ووضعتهما على عامودين أمام مركز شرطة نيالا. وعرضت الحكومة أيضا جثة قائد للتمرد كان قد مات متأثرا بجراحه في سجن نيالا وأمرت أربعة مساجين بحمله على عنقريب مكسور والطواف به في شوارع المدينة ليراه الناس. وفي نهاية ذلك العرض أحرقت الجثة أمام النظارة في مشهد مسرحي! وتمت كل تلك الأفعال رغما عن احتجاج ونقد حاكم دارفور، فقد كان هم مفتش نيالا الأول هو إزالة أي لبس أو شك في أذهان سكان جنوب دارفور في من هو المسئول والآمر الناهي بها، وتثبيط همة كل من تسول نفسه مجرد التفكير في معارضة الحكومة ذات الشوكة.
وكما هو مشاهد في كثير من البلدان، فإن الاجراءات الصارمة والقاسية التي تتخذها الدولة الاستعمارية في دولة مستعمرة عادة ما تتيح فرصا عديدة لبعض الممثلين المحليين لطرح وتمرير أجندتهم الخاصة، ولابتهال الفرصة للثراء الشخصي (وقد حدث هذا في كينيا في سنوات ثورة الماو ماو). وظل الحكم الاستعماري في جنوب دارفور (وغيرها) يعتمد علي تأييد بعض القبائل ويستعدي قبائل أخرى، وهو في هذا كان يتأسى بما قام به الحكم المصري – التركي (والجنرال غردون) قبله من تقريب وتأييد البقارة في جنوب دارفور في مقابل استعداء القبائل المحلية الأخرى. وكان من نتائج انتفاضة نيالا أن ألقى بعض كبراء نيالا وصفوة رجالها (خاصة من الرزيقات والهبانية) بثقلهم في أحضان الحكومة، وجمع بعضهم من ذلك مالا وفيرا. فقد صودرت – بحسب تقرير من المخابرات صدر في يناير من عام 1922م- أعداد كبيرة من ماشية الفلاتا والمساليت (المعارضين للحكومة) وأودعت كـ"أمانات" في زرائب النظار الموالين للحكومة وقتها. غير أن تلك "الأمانات" انتقلت لملكية هؤلاء النظار بعد وقت قليل. ونال بعض اولئك النظار ميداليات فضية وبرونزية من الحكومة عرفانا بدفاعهم عن نيالا ضد المتمردين.
الخلاصة
كانت انتفاضة (أو تمرد) نيالا آخر عمل عسكري منظم وضخم ضد سلطة الدولة الاستعمارية، وكانت السياسة المحلية المتعلقة بالأرض وملكيتها، وطرق تقدير وفرض وتحصيل الضرائب، وعدم المرونة في تقدير الظروف الاقتصادية والمالية للمواطنين، والتفرقة بين القبائل من أهم أسباب تلك الانتفاضة. وشارك في تلك الانتفاضة الفلاتة والمساليت بصورة رئيسة تحت قيادة الفكي السحيني والذي أدعى العيسوية. ومثل ذلك التمرد على السلطة نقطة تحول بارزة في تاريخ العلاقة بين الدولة الاستعمارية والمجتمعات المحلية في جنوب دارفور، وفي كامل الإقليم على حد سواء. وأظهرت الحكومة (ولأول مرة في جنوب دارفور) عن قوتها الضاربة لإخافة وردع كل من يتصور أن بمقدوره معارضة سلطة الدولة. ومارس المسؤولون الحكوميون في المنطقة عنفا مفرطا وقسوة شديدة في التعامل مع الذين كانوا قد اشتركوا (أو كان يشتبه في اشتراكهم) في انتفاضة نيالا. وكان ذلك العنف هو مدخل الحكومة في التفاوض مع معارضيها.
alibadreldin@hotmail.com