مظاهرة (دموية) في سنار: بقلم: بول آدمز .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مظاهرة (دموية) في سنارA Riot in Sennar
بقلم: بول آدمزPaul Adams
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لمقال مقال صغير لأستاذ بريطاني كان يعمل مدرسا للغة الإنجليزية في مدرسة سنار للبنين في عام 1987م تم نشره بالمجلة البريطانية "دراسات سودانيةSudan Studies" في عددها العاشر الصادر في عام 1991م. وكما في مقالاته السابقة عن أحداث العام الذي قضاه في تلك المدرسة الثانوية بسنار ها هو يكتب مرة أخرى بعين"غربي" يحاول أن يسمع ويحلل ويفهم ما يجري حوله من أحداث جرت ذات يوم في عام 1987م، وطواها النسيان فيما يبدو، ولم يتولى عبء الكتابة عنها أحد من السودانيين ممن عاصروها. وليت أحدا أو بعضا من طلاب تلك المدرسة في ذلك الزمن (البعيد!) يكتب عن أحداث ذلك اليوم الحالف بالأحداث، ويزيل جانبا من الغموض الذي اكتنفه.
المترجم
************ ***********
بدأ ذلك اليوم بدايته المعتادة التي لم تتغير أبدا على مر الأيام. وكان الجو شديد الحرارة، والكهرباء غائبة منذ ساعات طويلة، وطفيل "الجارديا" يعيث فسادا في أمعائي. ولكن عند دخولي لباب المدرسة (مدرسة سنار الثانوية) تبينت أنه ما من شيء عادي في ذلك اليوم. كان أول ما شد انتباهي هو وجود أعداد كبيرة من الطلاب خارج أسوار المدرسة يقفون متلاصقين. و كان الشيء الثاني الذي لاحظته هو زخات من الحجارة والطوب المكسر والحصى تتطاير فوق رأسي مصوبة نحو مبنى المدرسة ترجمها رجما. سرعان ما استحال عجبي وتعجبي مما يحدث إلى قلق، فأسرعت الخطى نحو مكتب مدرسي قسم اللغة الإنجليزية.
وبعد أن فرغنا من طقس التحيات المعتادة، سألت الأستاذ عثمان رئيس القسم عما يجري. أجابني بأنه لا يدري، وأن علينا أن ننتظر لنرى ماذا سيحدث. وبعد مرور دقائق حسبتها دهرا توجه المتظاهرون من الطلاب بعيدا من المدرسة نحو وسط السوق، بينما ذهب أحد أساتذتنا لتناول كوب من الشاي. بدا لي أن الطلاب قد دخلوا فعلا في إضراب عن الدراسة، وسمعت أن شكواهم الرئيسة كانت من رداءة نوع الخبز الذي كان يقدم لهم في داخلية المدرسة. ثم دخل علينا نائب ناظر (مدير) المدرسة وهو يحمل في كفه رغيفا من ذلك الخبز الذي احتج عليه الطلاب ليرينا سبب المشكلة. قال وهو يقلب قطعة الخبز تلك: "في ظاهر الأمر يتعلق الأمر بالرغيف، بيد أن السياسة هي من تقف وراء مظاهرات الطلاب".ولم نكن نحتاج لسماع حكمة الرجل، فالكل كان مدركا بأن الحق هو ما نطق به ذلك الرجل؛ حيث كان الرغيف الذي يحتج عليه الطلاب هو ذات الرغيف الذي يأكله يوميا كل مدرسي المدرسة وكل فرد آخر من سكان سنار.
وتم بالطبع إلغاء الدراسة في ذلك اليوم، فقررت أن أذهب للسوق لشراء بعض المستلزمات اليومية في رفقة مدرس الفنون. وفجأة لاح لنا من على البعد ونحن نقترب من منطقة وسط السوق، سحبا من الدخان الكثيف تنطلق نحو السماء. وكان ذك إنذاراً كافيا لنا للتنبؤ بما يمكن أن يحدث هنالك، بيد أننا لم نقدر حجم ما كان يحدث بالضبط. ومع اقترابنا من السوق تيقنا من أن هنالك شغبا عارما يلف كامل المنطقة. وكانت ألسنة اللهب تلتهم المباني، والسيارات تشتعل، والدخان يتصاعد من كل مكان. وكان هنالك– كما توقعنا- عدد من الطلاب في حالة هياج عظيم يحملون هراوات ضخمة يحطمون بها كل ما يجدونه أمامهم، ويقذفون بما تقع عليه أيديهم في كل اتجاه. ونهبت المتاجر والأكشاك، وتم اكتشاف أن علب صلصة الطماطم يمكن أن تستخدم بفعالية كبيرة كمقذوفات شديدة الدقة والتدمير. ومر من أمامنا أطفال صغار وهم يحملون فوق رؤوسهم، أو في "عبهم" ما تيسر لهم من بضائع منهوبة . وجاء من وسط السوق واحد من طلاب مدرستنا يجري، وأخبرنا وهو يلهث أن قوات الجيش قد تصدت بعنف لمسيرتهم قبل وصولها للسوق، وأطلقت نيرانها عليهم فأصابت أحد الطلاب في مقتل. وعندها تبين لنا أن من الحكمة أن نغير وجهتنا وأن نقفل راجعين لبيوتنا.
لم أستطع أن أعرف على وجه الدقة ماذا حدث بالضبط أو لماذا حدث؟ لقد قيل أن عددا من الناسفي قتل في ذلك اليوم. ومن المؤكد أيضا أن أحد الطلاب قد قتل برصاص القوات النظامية، بينما لقي أحد أفراد الشرطة حتفه ضربا وركلا بأيدي وأرجل المحتجين، وقتل تاجر بطلق ناري من سلاح كان عند أحد الذين حاولوا نهب محله التجاري.
وقامت الصحافة المحلية بتغطية تلك الأحداث، وزارني في داري مساء ذلك اليوم طالب من مدرستنا ليريني دماء أحد زملائه، والتي سالت على حذائه. ولكن ما حقيقة تلك المظاهرة؟ ليس من شك في أن الطلاب قد شاركوا في تلك المظاهرة، إلا أنهم لم يشاركوا فيها بسبب رداءة الخبز كما قيل. وبدا واضحا أن الإضراب في مدرسة سنار أصبح مناسبة (أو طقسا) سنويا،يقوم فيها الطلاب بإجبار ناظر (مدير) المدرسة على قفل المدرسة وإعلان عطلة. وتبينت من حديثي مع كثير من الطلاب أنهم يكرهون طول فترة الفصل الدراسي (والذي يتطاول لاثني عشرة أسبوعا مملا)، ويؤلمهم البعد عن أهلهم وذويهم، والبقاء محشورين في تلك الداخلية الضيقة. قلة قليلة فقط من أولئك الطلاب كانت تأبه لما قد يترتب عليه قفل المدرسة وتعطيل الدراسة من آثار.
وكان هنالك في المدينة من يرى أن الأمر كله تدبير "خارجي"، ويلقي باللوم على بعض العقائديين من "الحزب الشيوعي" و/أو "الأخوان المسلمين". ذكرت صحيفة محلية تصدر باللغة الإنجليزية أن من أسباب الاضطرابات والمظاهرات العارمة هي النقص في المواد (التموينية)، وتصاعد معدلات التضخم، والتردي الاقتصادي العام في البلاد. وأوضحت تلك الصحيفة دور التجار في "إشعال" نار أسعار السلع الأساسية، وخلقهم لسوق سوداء، وشح مفتعل، وتجاهل تام للأسعار التي تحددها الحكومة. قد يكون (أو لا يكون) للغضب والحنق بسب ارتفاع الأسعار دور في اضطرام نار المظاهرات. ولكن من المؤكد أن بعض الناس، عندما تتيح لهم المظاهرات والاضطرابات فرصة لاستغلال الوضع ونهب المحلات، لن يتوانوا عن اهتبال تلك الفرصة وسرقة ما يتيسر لهم.
ماذا كان دور الجيش والشرطة في ما جرى؟ يؤكد البعض أن تلك القوات هي التي استفزت الجماهير الغاضبة بتباطئها– المتعمد - عن القيام بدورها. غير أننا لن نعرف دور تلك القوات على وجه اليقين أبدا. من ما سمعته من حديثي مع كثير من الناس أن القوات النظامية كانت لها مصلحة (واي مصلحة!) في غض الطرف عن ما يحدث من اضطراب وفوضى حتى تثبت للناس أن الحكم الديمقراطي عاجز عن نشر الأمن والنظام، وأن الجيش، والجيش وحده، هو القادر على ذلك.
ظلت (وربما ستظل) الحقائق والدوافع والأسباب لمظاهرة ذلك اليوم في سنار غير واضحة الأسباب بالنسبة لي . وقد يكون لكل ما سمعته من السكان من أحاديث متفرقة (ومتناقضة) نصيب من الحقيقة. لكن الحقيقة الوحيدة المؤكدة، وهي أن الطلاب حصلوا على ما يبتغون...و"قفلت المدرسة لحين إشعار آخر"!
alibadreldin@hotmail.com
////////////