السودان “ليس مستعدا بعد لقيام نقابات عمالية” .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 



السودان "ليس مستعدا بعد لقيام نقابات عمالية": اضرابات عمال  السكة  حديد بين عامي 1947 – 1948م

The Sudan is ‘Not Yet Ready for Trade Unions’: The Railway Strikes of 1947 - 1948

Gareth Curless   غاريث كيريليس

ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة لبعض ما جاء في مقال لغاريث كيريليس عن الإضرابات الباكرة لعمال سكك حديد السودان نشر عام 2013م  في الجزء الخامس من العدد 41 من مجلة The Journal of Imperial and Commonwealth History . ويعمل الكاتب محاضرا وباحثا في قسم التاريخ بجامعة اكسيتر البريطانية، وتتمحور اهتماماته البحثية حول  تاريخ الاستعمار، وعنف دولته، والمقاومة المحلية له، وأيضا حول  تكوين الحركات الاجتماعية والنقابات في الدول المستعمرة.
المترجم
*****      *******      ******     *******
أعلنت هيئة شئون العمال، والتي قام بإنشائها في عام 1946م  عدد من عمال السكة حديد الحرفيين بالإعلان عن عدد من الإضرابات في عامي 1947 و1948م.  وقبل ذلك التاريخ كان عمال الحكومة في السكة حديد  وفي ميناء بورتسودان والمصالح الأخرى، ومنذ أيام الاستعمار الأولى، يقومون بالدخول في  إضرابات محدودة ومتقطعة ومتفرقة. إلا أن إضرابات حرفي عمال السكة حديد في عامي 1947 و1948م كانت هي أول حملة  إضرابات مطلبية منظمة. وكانت تلك الحملة جُزْءً من موجة حملات احتجاجات مشابهة عمت القارة الإفريقية في سنوات الأربعينيات الأخيرة، ووقعت معظم تلك الإضرابات في قطاع النقل في نيجيريا وممبسا ودار السلام وزنزبار وغرب أفريقيا الفرنسي، وذلك بسبب الأهمية الاستراتيجية لهذا القطاع الحيوي في بنية الاقتصاد الإمبريالي، واعتماده عليه في نقل المواد الخام من مختلف أرجاء البلاد لموانئ التصدير، وفي جلب دخل لخزينة الدولة نظير نقل تلك المواد. وكلما ازدادت حاجة الأسواق العالمية للمواد الخام، ازدادت أهمية تلك الموانئ (وبالتالي أهمية عمالها ومدنها)، والتي غدت تمثل "عنق الزجاجة" محتمل في حالة حدوث إضرابات يمكن أن  تشل كامل اقتصاد البلاد.
ولا يمكن أن نعزي ظهور تلك الإضرابات في تلك السنوات للنفوذ الذي كان يتمتع به عمال السكة حديد والموانئ فحسب، بل  أيضا بسبب معرفة أولئك العمال بما كان يجري في العالم الخارجي من أخبار وأحداث وأحوال معيشية، وبسبب طبيعة السكك حديد، والتي تتيح للإضراب في أي من المستعمرات أن ينتقل " ربما حرفيا" عبر خطوط السكة حديد من مدينة لأخرى. وعلاوة على ذلك، فقد كانت الغالبية العظمى من عمال قطاع النقل هم من العمال المستديمين، والعمال المستديمون لديهم أكثر من غيرهم من العمال الآخرين  شعورا بـ"الهوية المؤسسية"، والتي هي عادة ما تكون أساس تعبئة العمال. وكذلك استفاد هؤلاء العمال من وجودهم في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية ببيئة حضرية في حالة توسع مستمر، وذات هموم ومطالب ومظالم مشتركة، مما جعلها تساند أولئك العمال وتشد من أزرهم. فكانت اضرابات العمال تلك هي في الحقيقة ليست فقط اضرابات في "مقر العمل" وحسب،  بل كانت أضرابات "سائر المدينة".
وكانت أسعار المواد الغذائية (والأجور كذلك) في سنوات الكساد الاقتصادي متدنية، ولذا لم تظهر في تلك السنوات أي حركات عمالية مطلبية في أفريقيا. غير أنه، ومع ارتفاع أسعار  تلك المواد الغذائية، بدأت الحركات العمالية الاحتجاجية في الظهور والانتشار في كثير من الدول الإفريقية. وزاد قيام الحرب العالمية الثانية من حدة تلك الظروف المعيشية فارتفعت معدلات التضخم  وازداد الطلب على العمالة، وأشعل كل ذلك  من أوار حركات الاحتجاج العمالية. فقام عمال ميناء بورتسودان بأول إضراب  خلال سنوات الحرب (وبالتحديد في عامي 1939 و1941م)، وأعقب ذلك إضراب عمال مصلحة الري في عام 1941م، وتواصلت من بعد ذلك الاضرابات المحدودة والمتقطعة حتى منتصف سنوات الحرب العالمية الثانية. ونظم العاملون في مخازن السكة حديد، والممرضون والفراشون في المستشفى، والمزارعون في مشروع الجزيرة في عام 1946م اضرابات منفصلة احتجاجا على قلة المرتبات وسوء بيئة وظروف العمل وارتفاع الأسعار دون رقيب أو حسيب.
وتزامن قيام تلك الاضرابات مع تنامي اهتمام أعضاء نادي خريجي مدرسة الصنائع بأتبرا بما (وبمن) حولهم في المجتمع. وكان ذلك النادي الاجتماعي الثقافي قد أنشيء عام 1934م، وكان – بالإضافة لوظائفه الأخرى- يوفر مقرا لأعضائه يلتقون فيه في المناسبات الاجتماعية والثقافية، ويتفاكرون في الشئون العامة، ويناقشون مظالم العمال  المتعلقة بالأجور وساعات العمل والعطلات. وبحسب ما ذكره الطيب حسن الطيب، وهو أحد أعضاء ذلك النادي، فقد تم في إحدى تلك اللقاءات في منتصف عام 1946م أن أقترح أحد الأعضاء تكوين "لجنة اتصال" لتمثل العمال وترفع مظالمهم وشكاويهم لإدارة السكة حديد. ووافق الجميع على ذلك الاقتراح وعقدوا عددا من الاجتماعات بعد ذلك اختاروا في إحداها لجنة من خمسة عشر عضوا يمثلون  العمال بمختلف أقسام المصلحة سموها "هيئة شئون العمال" كان من ضمنهم سليمان موسى (رئيسا) والطيب حسن الطيب (نائبا للرئيس) وقاسم أمين (مساعدا للسكرتير) والشفيع أحمد الشيخ.
ولم يكن ظهور أول حركة عمالية في السودان بالسكة حديد بأتبرا في 1945من قبيل الصدفة. ففي ذلك العام عينت السكة حديد عشرين الفا من العمال السودانيين، كان 40% منهم في أتبرا وحدها. وقدر البعض أن 90% من سكان المدينة كانوا هم من العاملين في مصلحة السكة حديد وعائلاتهم،  وكان هذا من أسباب  ظهور هوية جماعية قوية  بين سكان أتبرا. وكان لهذا الوضع الأتبراوي الفريد في السودان نظير في عدد من مدن أفريقية أخرى مثل مدينة سكوندي – تاكورادي في ساحل الذهب (غانا الآن)، وتيز في السنغال وكاييز في مالي.
وكان من الأسباب الأخرى لظهور أتبرا  كمركز لنشاط الحركات العمالية هو طبيعة الترتيب الوظائفي للعاملين في السكة حديد. فقد كان الالتحاق بخدمة السكة حديد أمرا  مميزا ومقدرا ومرغوبا بشدة عند كثير من الشباب. وكان المجتمع يعد سائقي القطارات ونظار المحطات والكتبة وعمال التلغراف من "الصفوة elite".   ولذلك الوضع الأتبراوي نظير أيضا في مدن أفريقية أخرى. فعلى سبيل المثال كان الزوار يدعون للمولود الجديد  بكاييز في مالي بأن يباركه الله ويجعله "ناظر محطة" عندما يكبر. وكان معظم العمال السودانيين في السكة حديد  قبل 1945م من العمال غير المهرة الذين كانوا يعملون في بناء وصيانة  الخط الحديدي (عمال الدريسة). غير أنه بعد عام 1945م بدأت مجموعة صغيرة من العمال السودانيين المهرة في العمل في الورش بأتبرا. فعلى سبيل المثال كان من بين 7300 عاملا في قسم الميكانيكا (والتي كان بها معظم العمال المهرة)  6680 عاملا سودانيا في عام 1945م، وكان بعض هؤلاء يحتلون مراكز متقدمة في سلم الوظائف نسبة لقدمهم في المصلحة (وكان منهم سليمان موسى والطيب حسن الطيب). وسهل وجود ذلك العدد الكبير من العمال المهرة في الورش من التواصل والاتصال المنتظم  بينهم، وتكوين "هوية" موحدة  تزيدها مستويات التعليم المتساوية والمهن المتقاربة (وربما التوجه السياسي الواحد. المترجم) قوة وصلابة. وبذا صارت تلك المجموعة هي طليعة الحركة العمالية الناشئة.
وكانت مهمة هيئة شئون العمال الرئيسة هي مطالبة إدارة السكة حديد بتحسين أوضاع العمال وأجورهم، فقد سادت في تلك السنوات (في غضون الحرب العالمية الثانية وما تلاها من أعوام) ظروف اقتصادية ضاغطة ضاعفت من بؤس أحوال العمال في مختلف القطاعات والرتب الوظيفية. فإن أخذ معدل مستوى غلاء المعيشة للعامل غير الماهر في عام 1938 على أنه  يساوي 100%، فقد ارتفع ذلك المعدل إلى 170%  في عام 1945م  وإلى 229% في عام 1947م. وحدث ذات الشيء في دول أفريقية عديدة مثل  نيجريا في 1945م مما أدى لقيام عدة أضرابات عمالية فيها. 
وزادت الفروقات  والمفارقات في أجور العمال المهرة في السكة حديد مقارنة بخريجي كلية غردون من شعور العمال المهرة بالغبن والظلم. فتسَاءَلت هيئة شئون العمال في 1948م عن الحكمة في منح سائق القطار (وهو مسئول عن أرواح وسلامة  عدد كبير من الركاب) مرتبا يقل عن "كاتب" في أقل مستويات سلك الكتبة.  وهنالك أيضا نظير لذلك السؤال أثير في أوساط العمال المهرة في روديسيا الشمالية في نفس السنوات.
وكانت الإدارة الاستعمارية قد انتبهت – عقب الاضرابات التي حدثت في منتصف الثلاثينيات- إلى ضرورة  إنشاء إدارات عمالية يكون همهما (الإصلاحي) الأول هو الاشراف على أحوال العمال المعيشة وسكنهم وأجورهم الخ، خاصة وأن أول حكومة بريطانية  تولت السلطة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية كانت حكومة عمالية لها أجندة مختلفة بعض الشيء  تجاه المستعمرات عن من سبقتها من حكومات محافظة، وكان يهمها أن تحتوي المشاكل العمالية في بريطانيا ومستعمراتها. غير أن السودان (البريطاني – المصري) وبحكم طبيعة تكوينه كان يتبع عمليا لوزارة الخارجية البريطانية، وليس ملتزما بالضرورة بما يصدر من الحكومة البريطانية من اصلاحات عمالية. ورغم ذلك فقد  أوصت الحكومة البريطانية  في عام 1945م بتعيين  السيد ماكنتوش حاكم الخرطوم السابق كمفتش لأول مكتب عمل بالبلاد، وانتدب للعمل في هذا المكتب عدد من الموظفين البريطانيين الذين كانوا يعملون في مصر ونيجيريا في مجال العمل والعمال. ولم ترض حكومة السودان (والتي كانت تحاول دوما تأكيد استقلاليتها عن لندن) عن  تلك التعيينات فقد كانت ترى أن من بين موظفيها البريطانيين في السودان من له كامل المعرفة والخبرة بالبلاد وبأهلها، وقامت بتشكيل مجلس إدارة للأشراف على العمل والعمال، كان السوداني الوحيد  فيها هو عبد القادر يوسف، والذي عمل مترجما للمجلس. وواجه ذلك المجلس انتقادات عديدة من مختلف الجهات، ووصفه أحد البريطانيين بأنه مجرد "فرقة إطفاء" تتفاعل مع الأحداث بعد وقوعها، ولا يملك أي استراتيجية متماسكة.
إضراب يوليو 1947م
قادت "هيئة شئون العمال" في يوم 12 يوليو 1947م  موكبا  من نحو ألف عامل اتجه لرئاسة السكة حديد في أتبرا لتقديم مذكرة للمدير العام. ولما وصل الموكب إلى مكتب المدير العام وجد في انتظاره  ممثلين للإدارة المحلية  للمدينة مع عدد كبير من رجال الشرطة. وطلب المفتش الإداري من العمال تسليم مذكرتهم والانصراف في هدوء، ولكنهم رفضوا فعل ذلك وأصروا على مقابلة المدير العام شخصيا وتسليم المذكرة له في يده. وفي أثناء تلك المفاوضات حدثت بعض المناوشات بين العمال ورجال الشرطة نتج عنها إصابة 26 من رجال الشرطة  ومئات العمال، وكانت تلك نقطة تحول  جديدة  في العلاقات العمالية بأتبرا والسودان. وإلى حين  تلك الساعة، كانت "هيئة شئون العمال"  تلتزم جانب الحذر وتتجنب المواجهة مع السلطات، رغم سخطها على مكابرة وعناد  حكومة السودان وإدارة السكة حديد في التعامل مع مشاكل العمال. غير أنها بعد تلك الحادثة غدت أكثر تشددا وميلا للمواجهة العنيفة.
وفي اليوم التالي أعلنت "هيئة شئون العمال"  الإضراب عن العمل، وفشا نبأ الإضراب وعم مراكز السكة حديد الأخرى. وشارك في ذلك الإضراب نحو 10000 عامل (أي نصف عدد العمال الكلي)، مما أدي لتوقف العمل في كامل خطوط السكة حديد. وقام وفد من قوة دفاع السودان في الخرطوم بالذهاب لأتبرا في اليوم التالي  من أجل احتواء الموقف، ونجح في إعادة العمل جزئيا في بعض خطوط السكة حديد بواسطة سائقي قطارات بريطانيين. وفي ذات اليوم تم اعتقال خمسين من المشتركين في الموكب  وبعض قادة "هيئة شئون العمال" بتهمة الاشتراك في مظاهرة غير قانونية. وقام بعض قادة  الهيئة بتعيين لجنة بديلة (لجنة ظل) لتؤدي مهام من تم (أو سيتم)  اعتقالهم.
وفي يوم 17 يوليو سافر وفد من قادة الأحزاب السياسية  (منهم محمد أحمد محجوب عن حزب الأمة وعدد من ممثلي حزب الأشقاء). ونجح ذلك الوفد في إطلاق سراح العمال المعتقلين بالضمان. وبعد اطلاق سراحهم أعلن قادة الهيئة أن الاضراب سيتواصل إن لم توافق الحكومة على تقنين وضع نقابات العمال وشطب البلاغات التي فتحت ضدهم. وبعد تدخلات من وفد الأحزاب  وافقت السلطات على شطب البلاغات ضد العمال المضربين، والسماح بقيام فرع لهيئة شئون العمال  في كل قسم من أقسام السكة حديد شريطة الحصول على موافقة كل عمال السكة حديد في استفتاء نزيه محايد، وأن يسمح لممثلين من الهيئة بتمثيل العمال في مفاوضات مع إدارة السكة حديد.
ويمكن القول بأن ذلك الإضراب قد أصاب نجاحا مقدرا نسبيا  وحقق للعمال كثيرا من الانجازات بسبب وحدة العمال، ومهارة قيادة  هيئتهم، وأيضا بسبب الدعم المادي والمعنوي المجتمعي الذي لقيه  المضربون من مختلف القطاعات (مثل تجار أتبرا الذين تبرعوا بالأموال والبضائع لعائلات  المضربين).  وحدث ذات الشيء في نيجريا  عام 1945م حين ساندت بائعات السوق أسر عمال مضربين بالمال والبضائع.
وورد في كثير من التقارير الرسمية انتقادات عديدة لذلك الإضراب، وعزت قيامه للدعاية المصرية والتأثير الشيوعي (الأجنبي)، ووصفت قيادته بأنهم زعماء عصابات متهورة ومتفلتة. ولم تغفل تلك التقارير أيضا النقص المريع في قوانين العمل والعمال بالبلاد.
إضراب مارس - أبريل 1947م
لم تنجز لجنة التحقيق في إضراب عام 1946م أي عمل ملموس لحل المشاكل العالقة بين العمال وإدارة السكة حديد، ولم تعقد أي اجتماعات مع العمال إلا في شهر فبراير من عام 1947م (,هو الشهر الذي كان ينبغي عليها فيه تسليم تقريرها النهائي!). وفي اجتماعات فبراير (في أتبرا وبورتسودان) أعاد العمال تكرار ذات المطالب المعلقة والتي شملت تحسين الأجور وشروط وظروف الخدمة وعدم التفريق في المرتبات بين العمال المهرة والكتبة الخ.  ونفد صبر العمال من تطاول الاجتماعات وعدم ظهور أي بارقة أمل في الحصول على نتائج ملموسة  من تلك الاجتماعات، فمارسوا ضغوطا هائلة على قيادة هيئتهم لتنفيذ إضراب آخر. وأخيرا أعلنت الهيئة أن العمال سيدخلون في إضراب مفتوح إن لم تقدم اللجنة تقريرها النهائي في موعد أقصاه  يوم 16 مارس 1948م.  و أتى ذلك اليوم دون استجابة من اللجنة فبدأ العمال في الإضراب، وكان ناجحا تماما، إذ شارك فيه كل العمال. وأصدرت الحكومة بيانا قالت فيه إن عامة الشعب سيتضررون من ذلك الإضراب ( الذي وصفته بأنه "غير ضروري") لأنه سيؤدي لرفع أسعار السلع للمواطنين، وإن إدارة السكة حديد قد بذلت ما في وسعها لتجنب الإضراب. وللمرة الثانية فشلت الحكومة في قراءة الأحداث وتأثيراتها قراءة صحيحة، إذ أن ذلك الإضراب كان قد لقي تأييدا ماديا ومعنويا واسعا من كافة  قطاعات الشعب، والذين  أمدوا العمال بأموال ومستلزمات عينية كثيرة ساهمت في صمودهم في أيام الإضراب. ولضمان توزيع عادل لتك التبرعات أنشأت الهيئة لجانا فرعية في المدن الأخرى  كالخرطوم والقضارف وكوستي وغيرها لتوزيع تلك التبرعات. وكان ذلك دليلا على المهارات التنظيمية التي كانت لدي تلك الهيئة. وتضامن عمال في مصالح أخرى كالري والأشغال العامة  مع عمال السكة حديد في إضرابهم، فقاموا بعمل إضرابات ليوم أو يومين في أماكن متفرقة من البلاد.
وفي غضون كل ذلك كانت الحكومة ترفض أي نوع من المساومة أو التنازل عن موقفها، وكان من رأيها أن القيام بعمل قوي ضد قادة الهيئة سيردع "المعتدلين" من القادة والعمال، فقامت السلطات باعتقال رئيس الهيئة سليمان موسى عقب القائه لخطاب ناري ضد الحكومة في أحد مساجد أتبرا بتهمة التحريض على الحكومة وبعثت به مخفورا للخرطوم. وكانت تلك إحدى تقديرات الحكومة الخاطئة للموقف، خاصة وأن الإضراب كان قد أكمل نصف شهر كامل، وبدأت نتائجه في الظهور.
وفي 27 مارس قدمت اللجنة - أخيرا-  تقريرها، ولم توافق عليه الحكومة إلا في 12 أبريل.  وتضمنت توصيات التقرير زيادات "معقولة" في هيكل الرواتب تتناقص مع كبر المرتب والوظيفة. ولكن رفضت اللجنة اقتراح هيئة شئون العمال لتخفيض ساعات العمل.
وفي 15 أبريل تمت محاكمة سليمان موسى في الخرطوم وحكم عليه بالسجن 15 يوما  (انتهت في 17 أبريل) والغرامة خمسة جنيهات. وشهد تلك المحاكمة جمع غفير من المواطنين الغاضبين، والذين طالبوا بسماع خطبة من القائد العمالي السجين. ورفضت السلطات مطلبهم فاندلعت إثر ذلك مواجهات بينهم وبين الشرطة اسفرت عن إصابة 100 محتج واعتقال 60 منهم. وقام طلاب من كلية غردون بتسيير موكب احتجاجي تضامنا مع العمال، وهتفوا في الشوارع بحياة العمال وكفاح طبقتهم. وتظاهر نحو 400 محتج في بورتسودان (ومثلهم في أتبرا) لذات الغرض. وكان التنسيق بين كل تلك الاحتجاجات في المدن المختلفة يدل على التأييد الشعبي الواسع الذي كانت تلقاه هيئة شئون العمال، وعلى فشل الحكومة في تحييد قيادة تلك الحركة العمالية.
ورغم كل ذلك التأييد فقد رضخت الهيئة أخيرا لضغوط من الأحزاب السياسية والزعماء السودانيين ومن بعض قواعد العمال لإنهاء الإضراب، فأعلن عن العودة للعمل في يوم 19 أبريل 1948م، هو اليوم الذي عاد فيه سليمان موسى لأتبرا.  وعاد العمال لأعمالهم وهم في حالة من الإحباط وصفها المسئولون بأنها تمثلت في "التباطؤ في أداء العمل وقلة الانتاجية".
واستمرت الهدنة بين إدارة السكة حديد والعمال حتى  يوم 12 مايو 1948م  حين طلبت الهيئة من السلطات الرسمية في أتبرا السماح لها  بالقيام بمظاهرة مناهضة  للجمعية التشريعية. وتم التصديق بهذه المظاهرة على المستوى المحلي، غير أن الحكومة في الخرطوم أمرت الهيئة بعدم القيام بالمظاهرة.  وفشلت الهيئة في إخطار جميع منسوبيها برفض الحكومة لقيام المظاهرة. وفي يوم 14 مايو تجمع العمال بأعداد كبيرة في ساحة مسجد أتبرا، ورفضوا الانصياع لنداءات الهيئة لهم بالتفرق والعودة لمنازلهم. وتصادمت الشرطة مع المحتجين وأجبرتهم على التفرق في سوق أتبرا، وأصابت واعتقلت عددا كبيرا منهم. وحوكم المعتقلون  بتهمة إثارة الشغب وسجنوا لمدد مختلفة وصل بعضها لعام كامل.
واحتجاجا على عنف الشرطة أعلنت الهيئة عن إضراب آخر، ولكن لم يسجل غير توقف عن العمل في 25 مايو لمدة ساعتين فقط.  ويبدو أن شهية العمال لإضرابات متواصلة كانت فد  بدأت في التناقص، فغالب العمال كانوا من الفقراء الذين كانوا يعتمدون بالكلية على مرتباتهم القليلة، ولم يكن بمقدورهم الصمود بأكثر مما صمدوا. وكانت شعبية رئيس الهيئة سليمان موسى عند العمال قد بدأت هي الأخرى في التناقص السريع، وطالته شائعات (هو وبعض أعضاء الهيئة الآخرين) بإساءة استغلال أموال الهيئة التي حصلت عليها من المتبرعين السودانيين اثناء الإضراب. واستغلت الحكومة ذلك الوضع فقامت بفصل سليمان موسى وقاسم أمين من العمل. ولم يحرك ذلك الإجراء ساكنا عند بقية أعضاء الهيئة، وبدا أن العمال كانوا يرغبون في تقديم قيادة عمالية بديلة  أقل "تطرفا" وعنادا" من سابقيهم.
وبالفعل تم في أول انتخابات للهيئة أعقبت تلك الأحداث أن احتفظ خمسة فقط من الأعضاء السابقين بمقاعدهم في قيادة الهيئة، وفازت قائمة من "المعتدلين" وعلى رأسهم محمد علي مهدي. وهلل البريطانيون لذلك التغيير رغم ملاحظتهم لقلة اكتراث القاعدة العمالية بانتخابات تلك الهيئة وعزوفهم عن المشاركة فيها رغم جهود البعض لحث العمال على التصويت. بل لقد سجل في تقرير لحكومة السودان أن أحد منظمي تلك الانتخابات (واسمه عبد القادر يوسف) كان يحمل سوطا يهش به على العمال ليحثهم على المشاركة في التصويت!
ورغم  كل ذلك فإن قيام تلك الهيئة كان هو من مهد الطريق لقيام نقابة لعمال السكة حديد في عام 1950م.، كانت تلك النقابة هي الأبرز والأنشط والأقوى من بين كل التنظيمات النقابية في السودان، وكانت هي أكبر من ساهم في  مقاومة الأنظمة العسكرية الديكتاتورية التي مرت على البلاد منذ فجر استقلاله.       



alibadreldin@hotmail.com

 

آراء