الحلقة الثامنة.. الهروب من الصف المهزوم ثم جاء زلزال انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية، وذلك ما كانت تحييد عنه قوى اليسار في الداخل وفي المنطقة بأثرها وهو الحدث الذي احدث ربكة كبيرة في الحزب الشيوعي وفي وسط قياداته، ولقد اتينا على ذكر نبأ القيادي ناصر إذ ذهب به اليأس كل مذهب في حواره مع زميله بالسجن. تحقيق: خالد فتحي :علاء الدين محمود غير أن المؤكد هو أن كثيرا داخل الحزب قد اتخذ من ذلك السقوط مناسبة لترويج بضاعة قديمة بارت وهي ركل الماركسية بعيدا وكان لقيادات الحزب الكثير من تصريحات تسير في هذا الاتجاه رغم نفي قيادات لمثل هذه النية التي اعتملت في نفوس بعض الزملاء وخرجت على الملأ في تصريحات متوفرة على نحو ما سنرى لاحقا. غير أنها ليست المرة الأولى التي تختار فيها نخبة من قيادات الحزب الوقوف في المكان الخاطيء ولما خرج الخاتم عدلان كافرا بالحزب وماركسيته كان لسان بعض منهم أن لا تحرك به لسانك لتعجل به وهو الموقف الذي لخصوه في مقالتهم "إن الخاتم قد تعجل، وكان التفكير في حزب خالٍ من الحمولة الايدولوجية قديم عند قيادات في الحزب الشيوعي السوداني وهي الفكرة التي يقال إنها قد بدأت مع نشوء الحزب الاشتراكي وكانت تقوم الفكرة التي اعتملت في ذهن أولئك القيادات على أساس ضرورة بناء حزب ديمقراطي واسع تتحرك في داخله مختلف الأفكار التقدمية إذ ترائى لهم أن حزب الطبقة العاملة لا يستوعب الفئات الحديثة والتي جعلت انموذجها في الحياة الديمقراطية على نحو ما يحدث في أوروبا الغربية. أفكار قديمة وسنرى فيما بعد كيف أن كل تلك الأفكار التي خرجت من بنات أفكارهم تعود من جديد منذ الصراع الذي خاضته قيادات مع عبد الخالق محجوب، وزاد أوارها عقب الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بحكم النميري في أبريل من العام 1985م، بعد التراجع عنها وهزيمتها في العام 1966م، وهنالك ايضا فكرة حزب العمال والفلاحين في عام 1967م وايضا اتحاد القوى الاشتراكية في العام 1968م، ووصلت هذه الدعوة إلى الحزب الديمقراطي الذي يأخذ بمختلف الأفكار والاشتراكي الواسع ذروتها في أعقاب سقوط الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية. غير أن الملاحظة الأبرز هي أن تلك الأفكار وتلك الأحزاب لم تستطع وراثة الحزب الشيوعي السوداني ونلاحظ أن القوى من الشيوعيين الذين اذروا مايو ووقفوا إلى جانب انقلاب 1969م فشلوا في جر الحزب إلى جانبهم من ناحية ومن الناحية الأخرى فشلوا كذلك في تصفية الحزب. نميري وعرضه المغري وسنرى كيف أن كل ما اريق من تنظير عقب انهيار الاتحاد السوفييتي يهدف إلى التخلي عن مرتكزات الحزب الفكرية كان لها امتداد في تاريخ الحزب القريب وفي مقابلة صحفية معه في عام 1970م قال فاروق أبوعيسى إن جعفر نميري عرض باسم مجلس قيادة الثورة على عبد الخالق محجوب في لقاء حضره عدد من قيادات اللجنة المركزية أن يقبل الحزب واحدا من ثلاثة عروض: أولها: أن يغير اسم الحزب باستبعاد صفة "شيوعي" التي قال نميري إنها تستفز القوى غير الشيوعية واليمينية والمحافظة والطائفية، فإذا ما اختار الحزب اسما جديدا أعطي ترخيصا. وثانيها: أن يتحول الحزب من حزب "طليعي" إلى حزب "جماهيري" فيفتح الباب على مصراعيه لكل العناصر التقدمية وعندها ينتسب إليه كل أعضاء مجلس قيادة الثورة ويصبح هو نفسه التنظيم الشعبي للثورة. وثالثها: أن يغير اسم الحزب فيرخص له بالعمل الجماهيري العلني وبالتالي يؤسس لقيام الجبهة الوطنية الديمقراطية. ويقول أبوعيسى إن عبد الخالق رفض كل تلك العروض على الرغم من أن قبول أكثرية أعضاء اللجنة المركزية لها. وعلى نحو ما سنرى فإن كل ذلك النقاش جرى مجددا في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي وانقلاب الجبهة الإسلامية وقبيل انعقاد المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي في عام 2009م ومرة أخرى وعلى اعتاب المؤتمر الخامس يخرج فاروق محمد إبراهيم حاملا فكرة الحزب الاشتراكي الذي هزم سابقا، يأتي فاروق بمعية محمد إبراهيم كبج ليجدد الطرح القديم حول الحزب الاشتراكي وفي ندوة مركز الخاتم عدلان قبيل المؤتمر الخامس بقليل يتحدث فاروق وكبج بلسان رجل واحد ليوقظا ذات الدعوة القديمة، ويتهم فاروق قيادات الحزب الشيوعي باجهاض هذه العملية يعني هذا انحياز لوجهة نظر. ويقول فاروق: "إن السؤال المطروح هو ما العمل هل يجدد الحزب بصورته القديمة، ونجدد الماركسية، و.. الخ.. أم أن سبب الجمود هو الماركسية نفسها وفهمنا لها، وتجربتنا معها؟ وبالتالي أن تكون الماركسية هي أحد المصادر، وبالتالي نتجه نحو أن يصبح الحزب حزب برنامج وليس حزب نظرية وهذا طرحي أنا". ويرى فاروق وصف مؤتمر الجريف باليميني التصفوي غير صحيح وأن ما حدث هو عملية تحول عميق طرحوه منذ أكتوبر لتجاوز الجمود العقائدي، وتجاوز التجارب السابقة ورد الاعتبار لكل الذين اختلفوا مع الحزب في فترات مختلفة، الآن اضعاف اضعاف الشيوعيين موجودين خارج الحزب، إذا كان هنالك اتجاه داخل الحزب يحمل نفس أفكاره فلا بأس. الحزب الاشتراكي الواسع وبدأ فاروق مدافعا بشدة عن فكرة تحويل الحزب الشيوعي إلى حزب اشتراكي وأن يتخلى عن الماركسية. ويقول فاروق إن ذلك يعود لحرصه -على تجربة الحزب الشيوعي، ويرى في تجربة الحزب تجربته ويقدم نفسه على كونه حريصا فعلا على أن يكون الحزب الشيوعي في قلب هذه العملية، ويقول إن في العام 1966م اتخذ الحزب الشيوعي قرار تحويل الحزب إلى حزب جماهيري، وهذا تم اتخاذه بغالبية الحزب، وبصورة ديمقراطية جدا، فكيف نعود إلى هذا الموقف؟، ويمضي فاروق مقدما حججه بأن العودة إلى ذلك الموقف يكون برد الاعتبار لمؤتمر الجريف، وأن يتخذ المؤتمر الخامس قرارا بحل الحزب الشيوعي ويحول نفسه إلى لجنة تحضيرية لحزب جماهيري يرد الاعتبار لكل الناس لأجل إزالة العدوان والمرارات القديمة لكل الناس الذين خرجوا من الحزب لسبب أو آخر ودخل معهم في عداوات، ويبدأ في الاتصال بكل القوى الأخرى، وهذا يعطي اعتبارا للحزب الشيوعي وهذا موقف سليم، ويقول فاروق إنه لم يكتب أي مقال ومساهمة في كل الفترة السابقة إلا من خلال منابر الحزب الشيوعي ذلك لحرصه على تجربة الحزب الشيوعي، وكان فاروق يضع كل بيضه في سلة العضوية جهة التأثير في المؤتمر الخامس، كي يتخذ هذا القرار وإذا لم يتخذ المؤتمر الخامس هذا القرار فيمكن باسم مؤتمر الجريف، وباسم مؤتمر الحزب الاشتراكي توسيع الدعوة لتشكيل الحزب الجديد .. وفي الحالتين سيكون هنالك حزب ديمقراطي بأساس جيد، وينفي فاروق سعيه إلى إجهاض تجربة الحزب الشيوعي، ويرى في الطريقة المتبعة الآن من تجديد للماركسية أنها ستسير إلى الأمام ويعتقد أنها ضارة بالحزب الشيوعي، وأن العودة إلى قرار 1966م، هو الذي سيحافظ على الحزب الشيوعي ويفتح المجال لكادر الحزب لكي يجد شيئا جديدا. مرافعة وقدم فاروق مرافعة حول الحزب الجديد وضرورة إبعاد الماركسية بقوله إن الماركسية نموذج إرشادي، وهنالك نماذج جاءت وذهبت افسحت الساحة، جاءت الرؤية النيوتينية (نيوتن)، للكون وافسحت المجال بذهابها لرؤى أخرى مثل النظرية النسبية، هنالك رؤى للعامل تتغير من حين لآخر يحدث تحول من نموذج إرشادي معين إلى نموذج إرشادي آخر، وعندما يحدث هذا التحول فهذا لا يعني خطأ القديم بل يدخل القديم في الجديد يحدث نقلة في النموذج الإرشادي، جزء كبير جدا من الماركسية دخل في العلوم، والاقتصاد، والبنيوية، وعلم الاجتماع وهكذا... ولكن جزءا منها يشبه التصور الديني مثل علم بناء الشيوعية يعني كارل ماركس اخذ البرنامج الاجتماعي للأديان جميعها من إرادة تحقيق المساواة المطلقة والعدالة المطلقة، والتحرر المطلق للناس، ماركس اخذ هذا البرنامج الاجتماعي للدين، ولكن اراد أن يحوله بطريقة علمية واعتبر أن أي شيء في الدين ما عدا هذه العملية عبارة عن يوتوبيا، فعندما يحدث تحول عن الماركسية فهذا لا يعني أن ماركس كان على خطأ الآن، هنالك مشروع تقويمي جديد يمكن أن يحل محل الماركسية، الناس قد يتمكسون بنموذجهم القديم الذي لا ينتهي إلا بوفاتهم، فتوماس بوم صاحب مؤلف بنية الثورات العلمية، تساءل قائلا: (هل من الأفضل أن تموت أنت أم أن يموت نموذجك الإرشادي)، من الأفضل أن يعيش الإنسان في نموذجه الإرشادي الجديد بدلا من الانتظار حتى موته هو، وهذا ما يحدث الآن لهؤلاء (الجماعة) يموتون واحدا تلو الآخر، والاسوأ من ذلك أنا الآن ارى أن هنالك توريثا لمشاكلهم للجيل الجديد، لماذا؟! ، الأفضل هو أن يموت هذا النموذج الإرشادي ويذهب إلى ذمة التاريخ، وذمة العلم، وأنا هنا لست ضد الماركسية ولكن أن يصبح الحزب حزب برنامج وميثاق يتفق عليه الناس، ويمكن أن يشارك فيه ماركسيون، المهم هو الاتفاق على برنامج، هذا البرنامج الذي نريد له أن يحقق تنويرا الآن وليس أن يحقق مجتمعا شيوعيا، ليس أن يحقق برنامجا انتهازيا مثل مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية المفضية في نهايته إلى تحقيق المجتمع الشيوعي، فالماركسية تريد أن تحقق الشيوعية، تريد أن تحقق الحلم الديني عبر إدخالها في العمل وهذه مسألة غير علمية، فللعلم وظيفته، وللدين وظيفته، ويجب عدم الزام الناس برؤية نظرية. مأزق داخلي ويقول د. عبد الله علي إبراهيم إن الحزب الشيوعي بقيادة عبد الخالق محجوب ما توقف ابدا عن مسيرة التجديد وبالذات بعد أكتوبر 1964م وهناك وثائق كثيرة مطروحة بشأن التجديد وبالحاح تام ومنها تحسين مناهج العمل القيادي، لما جاء التجديد الخارجي للأسف بدأ وكأنه مأزق خارجي وطوال هذه المدة نحاول أن نجدد أنفسنا، لكن عندما وصلت المسألة إلى انهيار الاتحاد السوفييتي، الحزب الشيوعي فهم من التجديد وفهم من المأزق أنه مأزق الشيوعية العالمية وليس مأزقه الخاص، المأزق الذي ورثه وظل يناقشه سقطت الشيوعية أو لم تسقط لكنه سرعان ما ربط بطريقة غير رشيقة، اختطف مشاكل الحركة العالمية وسماها مشاكله، لكن التركيز على أنها متاعبنا في العالم الخاص منهج غير صحيح، أو طريقة غير صحيحة وأعطت بعض الناس الفرصة ليقولوا وكأنها خلو من الأخطاء، هذا مكمن قصر النظر والضعف في مناقشة التجديد. لذلك نجد اقتراحات افتكر أنها عشوائية. لماذا لم نغير الاسم؟ ربما هذا طريق صحيح لكن كيف سيحل الأزمة؟ يحل الأزمة بمعنى أن تتلاءم نقدتك ونقدتك من الخصوم الذين يطالبونك بأن تحل أو أن يقوموا بحلك أو تغيير اسمك.. عندهم شروط كثيرة عليك وتقابلهم في نصف الطريق، أو الخصوم الذين قالوا لك من قبل أن الماركسية غير صالحة في الواقع السوداني. هذه مصالحة مع الخصوم وليست مصالحة مع الناس الذين وثقوا فيك والماركسية بالنسبة لهم مصباح منير بغض النظر عن مشاكلهم، حيث كان الحزب ملهمهم وظلوا يدافعون عن الحزب ويقفون بجانبه.. المشكلة كما هي مطروحة آتية من العالم وليست من الداخل. الخاتم وأوان التغيير غير أن الحدث الكبير "سقوط الاتحاد السوفييتي" كان له تأثيره الكبير على قيادات كبيرة بالحزب الشيوعي وشهدت تلك الفترة خروج الخاتم عدلان وعدد من القيادات وهو الخروج الذي سبقه الخاتم عدلان بتقديمه لورقة أن أوان التغيير، ويرى الخاتم ورفاقه بانهيار المشروع الماركسي للتغيير الاجتماعي ويرى الخاتم أن ذلك المشروع لم ينهار بين عشية وضحاها بل حدث نتيجة تطورات فكرية وسياسية واجتماعية امتدت لأكثر من قرن، لكنها تعاظمت على وجه الخصوص منذ خمسينيات وستينيات هذا القرن. ورفض الخاتم ورفاقه الذين خرجوا على آثاره نفي الماركسية قد تم نفيها نفيا كليا، فمثل هذه الظاهرة نادرة في تأريخ الأفكار. إن الماركسية ما تزال تحتوي على أفكار عميقة وصالحة لفهم بعض ظواهر المجتمع البشري، وهي قد أدت خدمات جليلة للبشرية، بتوضيحها أن المجتمعات يمكن إخضاعها للدراسة والوصول إلى قوانين تطورها وتسييرها، من خلال الإرادة الحرة لأفرادها، نحو غايات نبيلة، ولو انحصرت مساهمة ماركس -و هي لم تنحصر في هذا وحده لأحتل مكانه المشروع وسط القائمة الطويلة للمفكرين الاجتماعيين العظام في تأريخ البشرية. فشل الحزب الشيوعي يقول الخاتم ومجموعته أن الحزب الشيوعي قد فشل خلال ما يقارب نصف القرن في أن يصبح قوة سياسية ذات شأن. وفشل في وجه التحديد في تحقيق شعره "اجعلوا من الحزب الشيوعي قوة اجتماعية كبرى" ولم يفشل الحزب الشيوعي في ذلك لأسباب عابرة بل لعوامل تتعلق بتكوينه: نظرية، وبرنامجا سياسيا، وبنية تنظيمية ومناهج قيادية. ومع إن مسيرة الحزب قد سجلت صعودا كبيرا خاصة إبان الاستقلال وبعد أكتوبر وحتى بداية التسعينيات إلا أن هذه المسيرة قد سجلت خطا هابطا باستمرار منذ تلك الفترة وحتى اليوم. فشل الحزب في بناء حلف وطني من القوى الحديثة، وبالرغم من أن تلك القوى اتجهت إليه، إلا أنها انفضت من حوله تدريجيا لأنه اعتمد السيطرة بدلا من التحالف، وإحكام القبضة بدلا من التفاعل الحر. واختار أن يحتفظ لهذه القوى بوجود يتسم بأقصى درجات التشرذم والشتات خوفا من منافستها له في المجالات التي يعتبرها حكرا عليه. لم يستطع الحزب أن يطور برامجه لاستيعاب القضايا المعقدة للتركيبة السودانية العصية. وقد حدث ذلك بالرغم من أنه بدا بداية متقدمة، مستندا إلى إرث نظري عالمي، فلم يطور الحزب خطابا، أو يجد لغة مشتركة بينه وبين قبائل السودان وقومياته المختلفة، وظل وجوده ضيقا ومحصورا. فهو إزاء الجنوبيين حزب للشماليين، وإزاء الريف حزب للمدينة وإزاء المرأة حزب للرجال، وإزاء الطبقات الأخرى هو حزب للطبقة العاملة، مع إن نفوذه وسط هذه الطبقة نفسها قد تقلص حتى اقترب من نقطة الصفر. فشل الحزب في سياساته إزاء القوات النظامية وحدث ذلك في نفس الوقت الذي عمدت فيه القوى المعادية للديمقراطية وعلى رأسها الجبهة الإسلامية القومية إلى بناء مراكز منيعة داخل هذه القوات وقد أدى هذا في نهاية المطاف إلى الإطاحة بالديمقراطية. مقدرة الحزب على الدفاع حتى عن نفسه ورد العنف الموجه إلى أعضائه وقادته، دع عنك العنف الموجه إلى الحركة الشعبية، تكاد تكون معدومة، منذ 22 يوليو 1971 وحتى اليوم. وهذا الواقع قد أغرى به أعداءه فأوسعوا أعضاءه ضربا وتعذيبا وقتلا على قارعة الطريق وفي بيوت الأشباح. دون أن يخشوا أي عقاب مهما كان. ولكن ذلك لم يمنع قيادته من رفع الشعارات والتهديدات حول الثأر للشهداء وحول دماء الشيوعيين التي لن تتحول إلى ماء. اتسم خط الحزب السياسي بالذيلية والتبعية وخفوت الصوت وخطه الإعلامي بالعقم وخزينته بالخواء. وإذا كانت هذه هي مصادر القوة الرئيسية لدى أي منظمة سياسية فيمكن الحكم على الحزب على أساسها. انقلاب الجبهة الإسلامية وترى مجموعة الخاتم أن النقطة الأكثر تدنيا في مسيرة الحزب الشيوعي السوداني تمثلت في فشله الذريع في التصدي لانقلاب الجبهة الإسلامية القومية في يونيو 1989، فقد توفرت لقيادة الحزب معلومات موثوقة حول التخطيط للانقلاب، والأسلحة التي سينطلق منها، وبعض أسماء قادته، وتوقيته على وجه التقريب، توفرت هذه المعلومات الخطيرة لقيادة الحزب الشيوعي فلم تعلن حالة الطوارئ داخل صفوف الحزب، لم تدعو هيئاته وفروعه للاجتماعات الطارئة، لم تطرح أمامها كل المعلومات المتوفرة لديها حول الانقلاب، لم تطرح عليها الخطط المحددة لمواجهته وهزيمته، لم تعلن التعبئة العامة في الشارع السياسي، لم تبصر الشعب بالخطر الداهم وكيفية مواجهته، لم تدع التجمع الوطني وتخاطبه على أعلى المستويات، لم تضع الجميع أمام مسئولياتهم المنصوص عليها في ميثاق الدفاع عن الديمقراطية. لم تفعل قيادة الحزب شيئا من ذلك، مع إنها لو فعلت لتمكنت من سحق الانقلاب في مهده، لأن سحق الانقلابات لا يحتاج إلى قوة عسكرية مكافئة بل يحتاج إلى إلغاء الشرط الأساسي لنجاحه وهو السرية. وبدلا من ذلك اختارت قيادة الحزب أسلوبا أمنته بطول الممارسة، هو أسلوب "البلاغات" العادية التي نقلتها إلى مدير الاستخبارات وإلى وزير واحد في الحكومة. وفعلت ذلك وهي تتوهم أنها تمارس نوعا من السياسة العليا، لا تكشف أسرارها لرجرجة الحزب ودهماء الشعب. وحمل الخاتم ومجموعته قيادة الحزب بمسلكها هذا مسئولة أكثر ممن عداها عن نجاح الانقلاب، بحكم دقة معلوماتها، وبحكم استبانتها للخطر الماحق الذي تمثله الجبهة الإسلامية على حزبها بالذات. مباديء غائبة وتقول مجموعة الخاتم إن المبادئ الغائبة في مسلك قيادة الحزب هي المسئولية تجاه قاعدتها وتجاه شعبها وتجاه النظام الديمقراطي، أما الظواهر البادية للعيان فهي العجز، وقصور التصورات والكيفية المتأصلة من المواجهة المباشرة العنيفة مع الجبهة الإسلامية. وقد استبان هذا العجز والقصور بعد نجاح الانقلاب إذ أحجم الحزب خلال أكثر من خمس سنوات من عمر الدكتاتورية عن تبني ونشر تقييم متكامل للسلطة، ورسم تكتيكات فعالة لمواجهتها وإسقاطها وأدار الحزب ظهره – بكثير من الخبث والمراوغة للأسلوب الوحيد الذي يمكن أن يقشع ظلمات الليل المخيم على أهل السودان ويؤدي إلى كسر الجبهة الإسلامية وقصم ظهرها في النهاية، إن البنية الحزبية القائمة على المركزية المطلقة، المسماة ديمقراطية على سبيل السخرية، لم يكن من الممكن أن تورد الحزب إلى غير موارد الهلاك. فقد انفردت القيادة الضيقة والأوتوقراطية، بكل قرار وطني مهم، ولم تطرح على عضوية الحزب أية خيارات سياسية يختار واحدا من بينها منذ أغسطس 1970. فالذي ينشر على الأعضاء هو "وثائق" على درجة من العمومية بحيث يمكن بالإستناد إليها تبني هذا الموقف السياسي ونقيضه نتيجة لهذه الأوضاع المعبرة عن الإفلاس التام هجر صفوف الحزب ما لا يقل عن نصف أعضائه منذ استيلاء الجبهة الإسلامية على الحكم، ويهم بمغادرة صفوفه حاليا كل أولئك الباحثون عن فعالية سياسية حقيقية. المناقشة العامة مع إن الحزب استشعر عمق أزمته وافتتح في أغسطس 1991 مناقشة عامة حول أوضاعه إلا أن هذه المناقشة قد أجهضت تماما. فالحزب بحكم عيوبه التكوينية لا يتسع للرأي الآخر، ويعتبره ناتجا عن اختراق الأعداء لبنية الحزب وترويجهم لفكر "غريب" يمثل مصالح الطبقات غير البروليتارية! ولذلك فإن الرأي الآخر لا يظهر إلا كنوع من التآمر، ولا يعبر عن نفسه إلا عن طريق الانفجار. بالإضافة إلى ذلك فإن الحزب لا يتوفر داخله إلمام مناسب لا بالماركسية التي يجري تقييمها، ولا بالمتغيرات التي تقيم على أساسها. ولذلك يلجأ الناس إلى منطقة الأمان ويهابون الغوص إلى الأعماق، وينكمشون على أنفسهم مدافعين عن وجودهم بالإنكفاء على الذات وتتضاءل النمو والإتساع ويتم الإعداد لبيات سياسي طويل. وقد عبر أحد القادة عن ذلك تعبيرا فاجعا حين قال إن خروج أكثر من تسعين بالمائة من عضوية الحزب لا يؤثر على وجوده أو فعاليته. إن المناقشة العامة تجري في أجواء هزيمة وطنية، وفي وجود سلطة فاشية تهم بإقتلاع جذور الحزب مما يجعل الرؤية تختلط لديه فلا يميز بين فأس القصَّاب ومبضع الطبيب. وتخلص مجموعة الخاتم إلى أن المناقشة العامة قد اجهضت وأصبحت نتائجها معروفة مسبقة وهي تكريس الأوضاع الحالية للحزب وفي القادم سنرى كيف أن قيادات في الحزب رددت فيما بعد ما قاله الخاتم عدلان في تصريحات متوفرة، وكيف أن الخاتم بدأ مبتهجا بمشروع البرنامج الذي حمل كثيرا من أفكاره. الحلقة القادمة الطريق إلى المؤتمر الخامس..