حياة مفتش مركز في عهد الحكم الثنائي (1) .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 


 Background to the Life of a District Commissioner - 1
كينيث دي دي هيندرسون K. D. D. Henderson   

مقدمة: هذه ترجمة لجزء أول من بعض ما جاء في الفصل الثاني من كتاب الإداري البريطاني كي دي هيندرسون (1903 -؟) والذي أعطاه عنوانا له مغزى وهو "Set Under Authority” ، والعنوان مأخوذ، كما ذكر المؤلف، من الاصحاح السابع لإنجيل لوقا:
 For I also am a man set under authority, having under me soldiers, and I say to one, Go, and he goes; and to another, Come, and he comes; and to my servant, Do this, and he does it.
وترجمتها بحسب ما جاء في عدة مواقع اسفيرية مسيحية هي: "لأني أنا أيضا إنسان مرتب تحت سلطان، لي جند تحت يدي. وأقول لهذا: اذهب فيذهب، ولآخر: ائت فيأتي، ولعبدي: افعل هذا فيفعل" .
ويحكي الكتاب (والذي صدرت طبعته الأخيرة عام 1987م عن دار نشر كاسيل كاري البريطاينة) مذكرات ذلك الإداري البريطاني العتيد، والذي بدأ عمله في مجال الإدارة بواد مدني في عام 1926م (وعمره 23 عاما فقط)، ثم عمل بعد ذلك بالنهود وكوستي والخرطوم وسنكات، ثم الخرطوم مرة أخرى (مساعدا للسكرتير الإداري)، ونائبا لحاكم كسلا، وأخيرا حاكما لدارفور بين عامي 1949 و1953م. وللرجل مقالات وكتب كثيرة منها كتاب "السودان" والذي صدر عام 1965م.
وشملت هذه الطبعة من كتاب هيندرسون مقدمة بقلم الدبلوماسي البريطاني (الاسكتلندي) اليس ستيرلينق (1927 – 2014م).
المترجم
*********     *************           **************
سبق لاثنين من الإداريين البريطانيين هما هـ. سي. جاكسون (1907م) وريجيلاند ديفيس (1911م) نشر مذكراتهما.
وسيعجب من يقرأ مذكرات جاكسون والمعنونة "السودان: أيام وعادات" والتي قامت دار ماكميلان بنشرها عام 1934م (والتي ترجمنا قليلا من صفحاتها في أكثر من مقال. المترجم) من التشابه بين ما ورد فيها وبين الحال بعد ربع قرن في وصف ذات الرحلة الشاقة الأولى للإداري عبر الفيافي من نافذة ملونة لقطار بخاري بطيء الحركة. وسيعجب القارئ أيضا حين يقرأ في مذكرات المفتش البريطاني تلك أن اللغة العامية السودانية تختلف عن اللغة العربية الكلاسيكية التي تعلمها بشق الأنفس، تماما مثلما أن اللغة الإيطالية تختلف عن اللاتينية. وسيعجب أيضا من النظافة الشديدة والتهذيب البالغ للعاملين بالقطار.  
وسيأخذك مركب صغير "معدية" لتمخر بك عباب النيل الأزرق في عام 1907م، عوضا عن إكمال الرحلة بالقطار. وستكمل الرحلة لمقصدك النهائي على ظهر حمار بدلا عن عربة ميكانيكية buggy (1927م) أو سيارة أجرة (1937م). غير أن الصورة العامة للزيارات الميدانية الرسمية تظل كما هي.
وكان المفتشون   المتدربون الجدد (probationers) يبقون لفترة أطول بالخرطوم على عهد جاكسون، إذ أنهم لن يجدوا أي عون أو إشراف حين يقذف بهم للعمل في الأقاليم. وحينها يجب عليهم أن يتدبروا أمورهم وأمور مناطقهم بأنفسهم.  وصور لنا جاكسون كيف أن باخرة نيلية لفظته في منتصف ليل بهيم على ضفة النيل الأبيض، وتحديدا في "حلة عباس"، ليكمل رحلته المقررة لسنار على ظهر جمل.  وربما تشابه تلك التجربة ما يتذكره المرء عند عبوره لسهول البطانة في طريقه للقضارف، أو عندما يسير المرء في ذلك الطريق البالغ الوعورة الذي يربط الأبيض بالفاشر، والذي يحتفظ بكل عيوب ومناقص الصحراء دون أن يكون له حظ في جمالها وسحرها.   وصَرَمَ شوليدهام ريدفيرن في عام 1920م وفريدي كين في عام 1926م ثلاثة أسابيع قبل أن يصلا للفاشر قادمين للأبيض عبر ذلك الطريق المرعب.  ومعلوم أن شاحنة ذات عجلات ست تقطع تلك المسافة الآن في ثلاثة أيام، بينما تستغرق الرحلة بالطائرة ثلاث ساعات فقط.
ولم يعد المفتشون الجدد ينصحون بما نصح به سلاطين باشا جاكسون المتأهب للسفر للأقاليم البعيدة وهو يودعه حين قال له: "إن شعرت ببداية ظهور أعراض الملاريا في جسدك، فسلم كل أسلحتك الفتاكة لخدمك". لقد كانت الملاريا بنوعيها "الحميد" (إن صح التعبير) والخبيث منتشرة جدا. غير أن الرعاية الصحية كانت متوفرة، وتصل للمرء سريعا، قبل أن يفكر المصاب جديا في الانتحار. وكانت إحدى عادات الملاريا المثيرة للغيظ هي أن تصيبك، ودون سابق إنذار، قبل وقت قصير جدا من بدء عطلتك السنوية. وهنالك ما يسمى بمرض "حمى الماء الأسود" والذي يقال إن سببه هو تناول جرعات كبيرة من عقار الكينا، وهو دواء أمر وأقسى من  داء الملاريا العُضَالٌ ذاته. وفقد أحد الإداريين في منطقة أمادي  Amadi (بالاستوائية) خدمات ثلاثة من مساعديه دفعة واحدة بسبب الملاريا و"الماء الأسود" والالتهاب الرئوي، ولكن لحسن حظه لم يفضي أحد منهم إلى ربه بسبب تلك الأمراض. غير أن ذلك الإداري نفسه سرعان ما سقط فريسة لمرض مجهول، وتشبث بالحياة لأربعة أعوام كاملة إلى أن نقل بعدها إلى بورتسودان ليتلقى العلاج خارج البلاد.
وعلى أيام جاكسون لم يكن يسمح للمفتشين المدنيين بالعمل في أي منطقة جنوب سنار. فليس من المستحسن أن تشعر بأعراض تلك الأمراض المُمَضّة والقاتلة وأنت بمفردك في تلك الأصقاع القصية. وأنزعج المفتش جون ويندر غاية الانزعاج وهو في لاو (Lau) في عام 1937م حين أحس بأعراض ما ظنه مرض "حمى الماء الأسود"، إلى أن طمأنه بعض خدمه بأنه ربما يكون مصابا بشيء آخر!
وكان آربر، والذي كان غادر توريت لتوه مصابا باليرقان، قد كتب ما نصه: "كنت قد بدأت جولتي الشهيرة على ظهر بغل من رشاد إلى تلودي في خريف عام 1937م حين شعرت فجأة بأن رأسي يدور، وأن سريري في الاستراحة يتأرجح بي. أدركت على الفور أن هنالك عرضا صحيا جللا قد ألم بي فرجعت لرشاد بالعربة وحاولت الاتصال بالأبيض غير أني وجدت أن اللاسلكي لا يعمل في الأبيض بسبب السماء الملبدة بالغيوم الكثيفة القريبة من الأرض. استلقيت على سريري ومضيت أحاول إقناع التمرجي (المضمد) وإقناع نفسي أيضا بأني مصاب بالتهاب الزائدة الدودية. وجلس بجانبي على طرفي السرير نصر الدين شداد وعبد الله الشافي (من المآمير السودانيين العاملين معي) كخالين بالغي الحنو والعطف.  ولما تيسر لي بعد حين سبيل الاتصال اللاسلكي بالأبيض، نصحت بمحاولة الوصول لخور أبو حبل، حيث سيوافيني هنالك من سيقوم بتولي أمري".
وسافر الرجل بعد جهد جهيد وعدة محاولات يدوية للعمال الذين كانوا معه لتشغيل اللوري (الشاحنة)، ولقطع خور "أبو حبل" ثم نهرين فاض مائهما بمركب صغير، ووصل الخرطوم أخيرا حيث أجريت له عملية إزالة لزائدته الدودية المتبرمة. وأصيب في ذات العام (1937م) دينيس فالدر بفيروس شلل الأطفال، وأنقذ من صقعه القصي بذات الطريقة التي أخرج بها آربر، وشفي بأعجوبة.
أما ريد فيرن، والذي كان يعمل مفتشا بالجنينة في أقصى غرب السودان وأفلح في البقاء على قيد الحياة هنالك، فقد قال إنه لو استقبل من أمره ما استدبر، وأمر بالعمل في الجنينة مستقبلا فسوف يقوم أولا، ومن باب التحسب، بإجراء عملية إزالة الزائدة الدودية قبل السفر. غير أنه من المستغرب أن التهاب الزائدة الدودية لم يحصد أرواح عدد كبير من المفتشين.
أما عن الدوسنطاريا (الدوسنتاريا) فحدث ولا حرج. فغالب المفتشين كانوا قد أصيبوا بها، إن عاجلا أو آجلا، في غضون سنوات عملهم في أصقاع السودان المختلفة.  ووصف سي. أي. لي في يومياته وهو يطوف على مناطق البطانة في عام 1927م طرفا من معاناته المحرجة مع ذلك الداء.
وبخلاف منغصات المرض، فلم تكن الوحدة والعزلة عن الناس بذات أهمية كبيرة عند المفتش، خاصة عندما يكون في أثناء رحلة يطوف بها على مناطقه المترامية الأطراف، حيث يكون عنده ما يشغله (وبأكثر مما يجب). أما عندما يؤوب المفتش لمركزه ولا يكون عنده فيض من المشاغل فوحدته تكون مريرة. وكانت قامبيلا (وهي أرض تم استئجارها من إثيوبيا) خير مثال لذلك. فهي منطقة معزولة ومقطوعة تماما عن أي اتصال أو تواصل مع العالم بين شهري أكتوبر ومارس، حين يجف نهر السوباط. وليس للإداري البريطاني هنالك غير أن يبقى في مكانه  و"يراقب الموقف". وفي تلك الشهور الطويلة ليس أمامه غير أن يعتمد على مصادر ثقافية متعددة  تبقيه رابط الجَأْش وسليم العقل وصحيح الجسم. وفي موسم فيضان عام 1924م أتى للمنطقة كريستوفر تريسي على ظهر الباخرة الصغيرة "كيوليكس" وبقي لأيام كثيرة بباخرته التي ظل يتصاعد منها عامود من الدخان وهي راسية على رصيف الميناء دون أن يأتي أحد من البشر لاستقباله. وعجب الرجل من أن المفتش الذي أتى هو ليخلفه كان يجلس في مكتبه  طوال الوقت وهو يعبث بقلمه الرصاص مرتعبا من لقاء من سيخلفه. ولكن ما أن "ذاب الجليد" بينه وبين القادم الجديد حتى بدأ في ثرثرة لا نهاية لها.
ومع مرور الوقت أصيب كريستوفر تريسي بذات الأعراض (الشعور بالوحدة والعزلة). فقد نقل من قامبيلا إلى الرنك (بأعالي النيل) حيث كان روتينه اليومي حين تهطل الأمطار هو المشي قبل تناول الإفطار على مسار ممهد إلى النيل، وإزاحة ديدان العلق (leeches) من على رجليه، ومسح العفن (mould) من على كتبه، ثم تناول الإفطار والتوجه للمكتب حيث يقضي سحابة يومه في تعليم كاتبه أساسيات نظام الأرشفة كما تمارس في مكتب السكرتير الإداري (صار ذلك الكاتب فيما أقبل من أيام موظفا كبيرا).
ويصاب المرء في تلك الأصقاع بما يسميه الفرنسيون “Sudanite”   وهي حالة أخف وأقل وطأة من حالة الـ “Le cafard” (وحالة  ال “Le cafard” هذه تصيب الرجال الذين يفتقدون لأي مصادر ثقافية. وضرب لها أحد الإداريين مثلا برئيس عمال في منطقة أمادي كان يسهر الليل كله وهو مسلح بعلب البيرة وفي حالة تأهب واستعداد لصد هجوم كان يتوهم أن من تحته من العمال سيشنونه عليه. وذكر مثالا آخر لرجل في دارفور كان في سنوات الخمسينيات يقضي يومه في تصويب بندقيته نحو المارة دون تمييز).
وأنغمس كثير من المفتشين في اهتمامات ثقافية واجتماعية مختلفة  وفي هوايات متعددة. فمنهم من غاص في شأن العادات المحلية للسكان المحليين، أو في تاريخ قبائلهم، أو في الحيوانات البرية الموجودة في منطقته كالطيور والغزلان والثعابين (نشر دبليو. ام.  كولي مقالا عن أنواع الثعابين في مدينة الجنينة بمجلة "السودان في مذكرات ومدونات"  عام 1946م، ولم يقم – مبلغ علمي-  أحد من السودانيين أو الأجانب قبله أو بعده  بدراسة مشابهة. المترجم). وتشهد صفحات مجلة "السودان في مذكرات ومدونات"  بما سطره هؤلاء الإداريون (وهم من الكتاب الهواة  الذين يفتقدون لأي أساس نظري مفضل Pet theory  في الموضوعات التي يكتبون فيها)  في كل تلك المجالات. وقال لي السيد الصادق المهدي ذات مرة أنه يعد ما صدر من أعداد من تلك المجلة هو أفضل إرث (legacy)  لنا في السودان.
وبذا صار هؤلاء الإداريون أعلاما في المجالات التي غاصوا فيها، فغدا شارل  آرمبريستر  (1901م) حجة في اللغة الأمهرية، وأ. جي. آركل (1920م) أحد أعلام علم المصريات البارزين، وراوتون سيمسون (1928م) خبيرا في تسجيلات الأراضي، وبول هاول (1938م) مرجعا في شئون التنمية، بينما ألف بيتر هوق وجون بورز (1935م) كتابا عن الطيور في السودان، وأصدر تي. آر. هـ. اوين (1926م) كتابا يضم صورا للحيوانات البرية بالسودان.
وفي بعض الأحايين كانت اهتمامات المفتشين خارج دائرة عملهم تفوق اهتمامهم بعملهم الرئيس. فقد كان دي. أتش. كتشن (1919م) مثلا خبيرا لغويا، وكان كثيرا ما كان ينحرف عن سير قضية كان يحكم فيها بين متخاصمين ليستجوب أحد الشهود عن المعاني الدقيقة لكلمة نطق بها أو عن مترادفاتها أو أضدادها. وكان ويلفرد ثيقير (1935م) ابن الرحالة الشهير والكاتب المجيد للنثر الإنجليزي ثيقير، يجوب الصحراء الليبية على ظهر جمل، ويهجر عمله الرئيس كمفتش في شمال دارفور (سبق لنا نشر مقال بعنوان "من ذكريات الإداري البريطاني ويلفرد ثيقير في السودان". المترجم).
غير أن السكرتيرين الإداريين البارعين ماكمايكل ونيوبولد كانا قد أفلحا في إشباع اهتماماتهما الثقافية وهواياتهما الشخصية دون إهمال لعملهما المهني الرئيس. فقد نشر ماكمايكل مثلا كتابا من جزئيين عن "العرب في السودان" لا يزال يعد عمدة ورائدا وحجة في مجاله البحثي، ومرجعا رئيسا وأصيلا لمن أتى بعده من الباحثين.
أما نيوبولد فقد كانت اهتماماته تدور في فلك علم الآثار واستكشاف الصَحَارَى، وسجل، رغم مشغوليّته المتعدد الجوانب ة كثيرا من المعلومات المهمة عن فترة ما قبل التاريخ في السودان، وعن سكانه عبر العصور التاريخية المتعاقبة.
 لقد كان المفتش البريطاني العادي، سواء أكان من ذوي الهوايات والمواهب المتعددة أو غير ذلك، عادة ما يختار (أو يفضل) العمل في محطة إدارية بعيدة عن المدن والمراكز، ربما ليصبح "سيد نفسه" وليتحرر من السلطات الإدارية المتعددة التراتيب الوظيفية. وفي تلك المحطات النائية تنعدم دوما الحياة الاجتماعية المعتادة في المناطق الحضرية. غير أن غالب الموظفين الذين عملوا في تلك المحطات النائية لم يفقدوا القدرة على الاستمتاع بصحبة الزملاء والرفقاء، وكانوا يندمجون بسرعة حين يجدون أنفسهم مرة أخرى أعضاء في مجتمع حضري.  وكان عدد من كانوا "لاجتماعيين anti-social “  في أوساط المفتشين قليلا جدا.
وكانت إحدى طرق علاج الوحدة  الأوضح والأسهل  هي الزواج. غير أن السلطات في بداية الحكم الثنائي لم تكن تشجع (بل لعلها كانت تمنع) زواج من كانوا يبعثون للعمل  في محطات نائية. فوجود امرأة بريطانية  في صقع نَاءٍ كان يعد مسئولية وعبئا ثقيلا على الخدمات الصحية بالبلاد. وكانت السلطات تذكر المفتش الصغير السن بأن مهمته الأولى هي خدمة السودانيين، وليس الاهتمام بالنساء البريطانيات (أو ربما الرجال البريطانيين)! وعلاوة على ذلك فقد كان الافتراض العام هو أن وجود زوجة سيشغل المفتش صغير السن وسيصرفه عن عمله المهم، وعن التعامل والتفاعل مع السودانيين. وقد تحول زوجته بينه وبين القيام بجولاته الميدانية المعتادة إن كانت تلك الزوجة من النوع الذي لا يحب ولا يقدر على ركوب الأخطار. وفي ذلك كتب المفتش سيلدهام ريدفيرن ما نصه: "عندما كنت أعمل مفتشا في منطقة النيل الأزرق تزوجت وأنا في الثلاثين من عمري. وكانت الأحوال في السودان حينها محفوفة بالمخاطر. وكانت السلطات تمنع تجديد عقودات عمل من يقدم على الزواج في خلال السنتين الأوليين من عمله بالبلاد، وتطالبهم بالاستقالة.  وكان الأزواج يفصلون عن زوجاتهم في ثلاثة على الأقل من شهور الصيف.  غير أني أقول رغم ذلك أن الغالبية العظمى من المتزوجين من المفتشين عاشوا حياة زوجية سعيدة -  وبما أني كنت مسئولا عن شئون الأفراد، فإني كنت على علم يما يجري في أوساطهم".
وفي أجواء مجتمع العشرينيات كانت القدرة على كبح جماح النفس ورغباتها الجسدية أكبر من تلك الموجودة في أيامنا هذه. غير أن الاحتياجات الجسدية للمرء تظل كما هي دوما.  لذا كانت السلطات البريطانية لا تشجع صغار المفتشين على الزواج، غير أن كبار الموظفين كانوا ينصحون – سرا بالطبع-  صغار المفتشين تحتهم باتخاذ ضجيعات مؤقتات (temporary  bed-fellow) عوضا عن الزواج. غير أنه تغيرا مهما في تلك السياسة حدث بعد عام 1924م، حين صدر توجيه من السلطات الصحية للموظفين الجدد الذين تقرر إرسالهم لمناطق نائية بأن الحكومة لا تمانع في زواجهم من فتيات سودانيات. وكانت السلطات تنصح الموظف الجديد بالقول: "لا تتوقع أن تعثر على فتاة حلوة صغيرة عذراء، فأحرص على أن تكون من اخترتها للزواج في حالة صحية جيدة. ولا تقم باختيار امرأة من المنطقة التي تدير شئونها، وإلا أتهمت بالتحيز وعدم الحياد". ولا بد أن تلك النصيحة قد سربت للخارج، وأثارت ضجة "غير مستحبة"، فتوقفت الحكومة بعد ذلك عن التبرع بمثل تلك النصائح.
ولعل الخوف من الاتهام بـ "التحيز وعدم الحياد" المذكور في النصيحة السابقة هو ما أعطى بعض الإداريين سببا وحجة وعذرا لرفض بعض العروض المقدمة من ذلك النوع. فالعزوف عن الزواج (celibacy) من الأمور غير المألوفة في السودان، وقد تثير بعض الشكوك في سلوك وتوجهات وخيارات الرجل الحياتية.
وقال زعيم أحد القبائل للمفتش البريطاني: "نعلم أنكم معشر المسيحيين تتزوجون زواجا يدوم باقي العمر كله، لذا من الطبيعي أن يفكر الرجل منكم مرتين قبل الإقدام على الزواج. ولكن يبقى السؤال هو: لماذا لا تتزوج في هذا الأثناء واحدة من فتياتنا، ولك أن تطلقها عندما تغادرنا لبلدك وتسترد ما دفعته من أبقار، وسيتزوجها حتما واحد منا بعدك".  غير أن ذلك العرض، رغم كرمه الظاهري، كان محفوفا بالمزالق والمخاطر. فقد كان على ذلك المفتش أن يحسم قضية نزاع حدودي شب بين القبيلة التي عرض عليه زعيمها الزواج بإحدى فتياتها وقبيلة أخرى. وخوفا من "تضارب المصالح" وما يمكن أن يصيبه من اتهام بالتحيز والمحاباة لتلك القبيلة دون الأخرى، فضل الرجل رفض ذلك العرض شاكرا. (لعله ورد في كتاب "قيود من حرير" لفرانسيس دينق ودالي قصة مشابهة عن القبيلة التي قرر رجالها سؤال مفتشهم عن سبب عدم زواج رجل ذي مال وصحة ومنصب رفيع مثله، وعرضوا عليه الزواج بمن يشاء من فتياتهم، لكنه آثر الاعتذار. المترجم).
 وكانت مثل تلك الزيجات تثير الكثير من الاحراج في أحايين كثيرة.  منها ما حكاه المفتش باث عن أن فتاته المحلية التي اختارها للزواج قضت الليل كله وهي مختبئة في أعلى شجرة كثيفة، ورفضت النزول لاعتقادها بأنها سوف تسلق في ماء حار وهي حية، ومن العجيب أن ذلك كان قد أثار عاصفة من الضحك المتواصل ممن كانوا يعملون معه من سكان المنطقة! ووردت قصة أخرى عن مفتش عرض الزواج على إحدى الفتيات المحليات، ووضع خاتما في أصبعها وسط زغاريد صويحباتها، غير أنها أطلقت ساقيها للريح، وعندما أرجعت بعد يوم لبيتها قالت بأنها تخشي أن تتزوج ذلك المفتش، والذي سيأخذها لأمدرمان حتما، وستقوم زوجاته هنالك بضربها. وفي ذات السياق حكى لي أحد الأصدقاء من المفتشين بأنه تزوج من فتاة حلوة  في المنطقة التي كان يعمل بها. وذات يوم وبينما كان المفتش يترأس محكمة أهلية مع بعض كبراء المنطقة  أقبل شاب عار تماما وهو يحمل أكوبا من الماء لأعضاء المحكمة من بحيرة ماء قريبة. وحيا ذلك الشاب أفراد المحكمة باحترام شديد، ولكنه وهو في طريقه لخارج غرفة المحكمة ضرب بيده على ظهر المفتش بود ظاهر وفي غير ما تكلف. وغضب المفتش بالطبع لذلك السلوك وصرخ في أعضاء المحكمة: "من يكون هذا بحق الشيطان؟".  وهنا أنفجر الجميع في عاصفة من الضحك المتواصل وقالوا له: "ألا تعرف صهرك يا جناب المفتش؟"
لقد كان جانب الرفقة والعشرة (companionship) في زواج المفتش البريطاني بامرأة محلية أهم بالتأكيد من  جانب الممارسة الجنسية. فوجود أنثى في بيتك يمكنك أن تفضي إليها، وتأنس بوجودها، وتتبسط معها في الحديث، وتنسى، ولو لساعات قليلة، أنك الآمر الناهي وممثل الحكومة  الشخصي، هو أمر في غاية الفائدة النفسية والجسدية.
وبخلاف الوحدة والعزلة، فمن أقبح ما يمكن للمفتش أن يصادفه في عمله هو أن يصطدم مع رئيسه المباشر. وقد حدث لي ذلك في مرتين.  كانت المرة الأولى نتيجة لسوء تفاهم وقع بيني وبين رئيسي لم ينجح في حله إلا رجل فطن وهو المفتش البيطري الذي كان يزور يومها تلك المنطقة. ولم تكن تلك المرة الأولي التي أدين فيها بالعرفان لأفراد تلك المهنة الرائعة. وكانت الحادثة الثانية لي مع رئيسي في العمل، وكانت أكثر خطورة وإيلاما، لأني كنت دوما على علاقة طيبة بذلك الرئيس. وكاشفني الرجل فيما بعد تلك الحادثة بزمن طويل أن شخصا بعينه  قد "حرف" عمدا ملاحظة عابرة كنت قد قلتها عرضا عن عدم احتفاظ محكمة الرجل بسجلات واضحة للحالات القضائية، وتعمد تضخيم ذلك النقد العابر.
وكان أحد معاصري مامايكل (وهو سي. اي. ويليس) قد سجل عدم قدرته على التعايش مع سافيل باشا (هو روبرت فيسي سافيل، 1873 – 1947م،  وكان ضابطا بالجيش المصري وعمل حاكما لمديرية بحر الغزال ثم مديرية كردفان، وشارك في ضم دارفور للسودان عام 1916م ، وصار حاكما لها من 1917م حتى عام تقاعده في 1923م. المترجم). غير أن شهادة سي. اي. ويليس في سافيل باشا كانت مجروحة، إذ أنه كان مشهورا بأنه رجل غضوب مِغضَابِ لا يكف عن الاحساس بأنه مظلوم أو مضطهد.
ومعلوم أن السودانيين يعجبون بالمسئول الصارم المتشدد (martinets). وخير مثال على ذلك النوع من الرجال هو الرائد برامبل (أو "أبو شوك" كما كان يلقبه الأهالي)، أشهر مفتش مر على مدينة أمدرمان طوال عهد الحكم الثنائي.  وقد أتى برامبل لأمدرمان قادما من مديرية أعالي النيل في عام 1920م، وتقاعد في عام 1923م. غير أنه – وبمطالبات ملحة من الأهالي- أعيد إلى الخدمة بأمدرمان  وبقي بها حتى تقاعد مرة أخرى في عام 1935م.   
 
alibadreldin@hotmail.com
//////////

 

آراء