عرض لكتاب الجندرية البريطانية إنا بيزيلي “الناس والأماكن والتعليم في السودان” .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 



Before the wind changed: people, places and education in the Sudan
M. W. Daly  مارتن وليام دالي  
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة للعرض الذي نشره عام 1993م البروفيسور مارتن وليام دالي (1950م - ) في العدد 56 من مجلة مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية، لكتاب مفتشة التعليم البريطانية د.  إنا بيزيلي (1898 -  1994م) المعنون: Before the wind changed: people, places and education in the Sudan
ويعد بروفسيور دالي من أشهر مؤرخي الشرق الأوسط والسودان المعاصرين، وله عدد كبير من المقالات والكتب المشهورة عن مختلف جوانب التاريخ والسياسة السودانية لعل آخرها كان كتاب "أحزان دارفور". أما دكتورة إنا بيزيلي فقد أتت للسودان مفتشة لتعليم البنات بأمدرمان بين عامي 1939 - 1942م، ثم مراقبة لتعليم البنات في الخرطوم حتى عام 1949م حين تقاعدت عن العمل بالسودان.  وكان قد سبق لها العمل محاضرة بجامعة رانقون في بورما وجامعة نوتنقهام وكلية ماريا قراي ببريطانيا. وللمزيد من المعلومات عن تلك السيدة الرائدة  يمكن الاطلاع على نص محاضرة البروفيسور رقية مصطفى شرف * في جامعة درام عن إنا  بيزيلي والمعنونة: Ina Beasley : Her Perspectives on Women’s Prospects in British Sudan
المترجم
**********     ********    ************
يدرك طلاب التاريخ الحديث للشرق الأوسط وأفريقيا مقدار الكم الهائل من الكتابات الذي أنجزه المسئولون البريطانيون في السودان. وأتت تلك الكتابات – ومعظمها مذكرات شخصية وتاريخ شعبي – بأقلام العاملين في القلم السياسي، والذين صرموا ساعات وحدتهم الطويلة في المناطق النائية، أو سنوات ما بعد التقاعد في الكتابة والنشر. غير أن قليلا جدا من الموظفين الأقل رتبة والفنيين هم الذين قاموا بكتابة أو نشر مذكراتهم. وتعد إنا بيزيلي واحدة من أهم هؤلاء. ويعد كتابها الذي نحن بصدد عرضه أحد أهم المصادر الغنية عن فترة الحكم الثنائي.
لقد عملت تلك السيدة مفتشة في قسم تعليم البنات من عام 1939م إلى 1941م بأمدرمان، ثم مراقبة عامة لتعليم البنات بالخرطوم من 1942 إلى 1949م.  وبذا فإن فترة عملها كانت قد امتدت من بدايات الحرب العالمية الثانية إلى نهايتها، وهي فترة تميزت بحدوث تغيرات سياسية واجتماعية متسارعة كان من ضمن نتائجها نيل السودان لاستقلاله في عام 1956م. وأتت إنا بيزيلي البريطانية للسودان وهي تحمل أعلى درجة أكاديمية  في التعليم (دكتوراه)، وخبرة عملية في بورما لتعمل في مجال تعليم البنات في مجتمع مسلم تقليدي. وهي بتلك الصفات مؤهلة لملاحظة جوانب عديدة في حيوات أفراد ومجموعات المجتمع السوداني (والإنجليزي – المصري) والكتابة عنها، وهذا ما يتجاهله الآخرون  أو يغيب عن ملاحظتهم.
ونشر هذا الكتاب، والذي جمعت محررته جانيت ستاركي غالب محتوياته من رسائل المؤلفة ومذكراتها الشخصية، بعد مغادرتها للسودان في عام 1949م،  وهي محفوظة الآن في أرشيف مكتبة جامعة درام البريطانية  (لم تلتق جانيت ستاركي بالمؤلفة إلا بعد بلغت التسعين من عمرها، وذكرت للبروفسير رقية أن ذاكرة إنا بيزيلي كانت حتى في تلك السن في غاية في الصفاء، وأنها لا تعتبر أنها قامت بغير واجبها تجاه نساء السودان. المترجم)
وقامت المحررة، بالإضافة إلى إيراد نصوص بعض الرسائل وقطع المذكرات، بشرح بعض النقاط الواردة في تلك المذكرات والتعقيب عليها ببعض التوسع. وكانت النتيجة هي كتاب شامل كثير التفاصيل وشديد الدسامة (أحيانا لدرجة التخمة). وبالكتاب وصف  لا يخلو من بعض التكرار لزيارات المؤلفة للمدارس المختلفة، ولكنه قد يكون يوما ما مرجعا مفيدا للمؤرخين المحليين. وعلى الرغم من أن الزيارات التفتيشية التي قامت بها الكاتبة للمدارس في المناطق المختلفة مما قد يعد أمرا روتينيا، إلا أن قدرتها على التغلغل في المجتمع السوداني ومعرفة الكثير من دقائق شئونه الداخلية، تعطي تلك التفاصيل التي أوردتها المؤلفة أهمية كبيرة عند الدارسين للحياة اليومية في السودان في تلك السنوات، خاصة وأن مذكرات السياسيين البريطانيين لا تتعرض عادة لمثل تلك الأمور.
وتكمن أهم نقاط قوة الكتاب في تناوله لكثير من الشخصيات (السودانية).  ومن أكثر أقسام الكتب متعة وفائدة هي ما أوردته المؤلفة عن السيد عبد الرحمن المهدي وعدد آخر من القادة الدينيين والسياسيين.
ولا بد أن مخطوطة بمثل ضخامة ما تركته المؤلفة من رسائل ومذكرات تشكل معضلة لأي محرر. وقسم هذا الكتاب -  بصورة عامة تفتقر للتخصص - إلى تسعة فصول، وقسم كل فصل فيه إلى عدد من الأقسام، ربما بأكثر مما يحتمل الفصل الواحد. ولكن مما يخفف من صعوبة البحث في ذلك الكم الهائل من المعلومات هو وجود ثبت متقن بأسماء الأعلام، وآخر بأسماء البلدان والمناطق ليس فيه غير قليل من الهنات. غير أنه يجب القول بأن المحررة قد أسرفت في الحواشي التي غمرت بها الكتاب، بل وكررت ما ورد فيها مرات عديدة دونما داع. أما الخرائط في الكتاب فبعضها قد عفا عليها الزمن، وقليل منها تصعب قراءته.
وأتت المحررة في هذا الكتاب بثبت مفيد للمراجع والوثائق ذات العلاقة بموضوعات الكتاب.  ومن أهم ما في وثائق الكتاب مذكرتان كتبتهما إنا بيزيلي عن ختان الإناث والشلوخ (أوردت البروفيسور رقية مصطفى شرف صورا لهما في محاضرتها المشار إليها آنفا. المترجم). ويوجد بالكتاب أيضا ملحقان سطرتهما المحررة تضمنتا معلومات بيبليوغرافية قيمة عن العاملين بمصلحة المعارف، ومذكرة تاريخية (بها احصائيات لا تخلو من بعض التخليط في صفحة 419) عن تعليم البنات بالسودان.
إن هذا الكتاب هو أول إصدارة من إصدارات سلسلة الوثائق عن الشرق وإفريقيا، والتي تهدف لنشر المواد التاريخية غير الحكومية الخاصة بالمساهمات البريطانية في تاريخ أقطار الشرق وإفريقيا. وكان اختيار كتاب دكتورة بيزلي لبدء هذه السلسلة اختيارا موفقا بلا شك. إنه تاريخ "من الأسفل from below " إلا أنه مهم جدا لتقييم السياسة الإمبريالية البريطانية.  فالمؤلفة كمختصة في مجال التربية والتعليم لم تكن تلق بالا في ما تكتب  للدفاع عن النظام الاستعماري، بل كانت في غاية الصراحة والحس السليم في عرض آرائها، ولم تلق على القراء أي موعظة أو نصائح.
لقد كانت المؤلفة، وهي امرأة بريطانية (وحيدة) في بلد إفريقي مسلم،  في وضع فريد Sui generis ، وكثيرا ما كان تقع بين مطرقة الحاكم وسندان المحكومين. وكانت كثيرا ما تجد أن القاسم المشترك في أي موقف تجد نفسها فيه لم يكن الرتبة أو الدين أو العرق، بل الجنس/ النوع sex  . ولكل هذه الأسباب فإن هذه المذكرات تعد تجسيدا للمثابرة والتواضع والشجاعة، وستظل مصدرا مهما لدراسة تاريخ السودان الحديث.
_____         _________       __________
*وصفت بروفيسور رقية مصطفى شرف في محاضرتها  المذكورة أعلاه  الدكتورة إنا بيزيلي بأنها  جندرية و"إنسانة حقيقية true humanist"، إذ كانت من أوائل الرائدات اللواتي شجعن – وبوعي ثقافي مدرك للأوضاع  الاجتماعية السائدة -  نساء السودان على التعليم، وأيضا على مجابهة الاستبداد والهيمنة الرجالية ومختلف أنواع الظلم الذي وقع/ يقع عليهن باسم التقاليد. غير أن الطريق للتعبير عن تلك الحقوق كان مليئا بالتعقيدات واستحالة الاختراق / اللااختراقية impenetrability.، مما تطلب عمل استراتيجيات عالية الحساسية والكفاءة والفعالية من أجل تغيير واقع المرأة السودانية، وما كان يمارس عليها من ممارسات وحشية.  وأشادت بروفيسور رقية  أيما إشادة بدور إنا بيزيلي الكبير في مجال التاريخ الاجتماعي  لحقوق الإنسان (خاصة النساء والأطفال) في سنوات الحكم الاستعماري بالسودان. وذكرت أن تلك الرائدة كانت ترى أن أي تقدم في مجال تلك الحقوق يجب أن يشمل الرجل السوداني، فقد كتبت مذكرة في يوم 24 / 1/ 1946م  لمدير مصلحة المعارف تطلب منه تحديدا استشارة السيد/ إبراهيم أفندي أحمد في أمر يخص تعليم الأطفال لأنها سمعته يقول يوما في أحد الاجتماعات ما نصه :"يجب أن نفكر في الأطفال أولا"، (وهو أمر قد يبدو بدهيا اليوم، لكنه كثيرا ما كان شيئا مجهولا / متجاهلا في تلك السنوات. المترجم).
وذكرت بروفيسور رقية بأن إنا بيزلي وصلت السودان عام 1939م  دون مرافق (من زوج أو غيره) وتركت ابنتها الوحيدة خلفها في مدرسة داخلية بإنجلترا، وشاركت امرأة بريطانية أخرى السكن بقرب كلية المعلمات في المنطقة التاريخية التي بنيت فيها  قبة المهدي. وأتت تلك السيدة للسودان من بورما لأسباب شخصية  ذكرتها منها رغبتها في العمل خارج بريطانيا  (بغض النظر عن الدخل المادي) في وظيفة تتيح لها عطلة صيفية طويلة تقضيها مع ابنتها الوحيدة في إنجلترا.  وتعلمت العربية بسرعة واجتازت امتحانها المقرر في عام 1941م.
 ولا يعرف الكثير عن أوضاع النساء البريطانيات في السودان سوى ما ورد في كتاب "صور من الإمبراطورية " وكتاب "حكايات السودان: ذكريات زوجات الموظفين البريطانيين بالسودان بين عامي 1926 – 1956م" (وقد عرضنا من قبل لبعض فصول ذلك الكتاب. المترجم). ولم يرد في غالب أجزاء الكتاب الأخير غير عرض لحال الزوجات البريطانيات وهن يتبرمن من الحر والوحدة والمعاناة في تعلم لغة أجنبية.  غير أن إنا بيزيلي تحفظ لبعض أولئك النسوة  (مثل زوجة باشمفتش الفاشر) دورها غير الرسمي المميز في ترقية الحياة العامة بالمدينة.  وتحفظ إنا بيزلي كذلك للشيخ بابكر بدري دوره الريادي في بدء تعليم البنات بالسودان، وتؤمن بأن حصول المرأة على حقوقها ومساواتها بالرجل في الحقوق والواجبات لا بد أن يبدأ عبر التعليم.
وكانت إنا بيزلي شديدة المراعاة والحساسية لقناعات المجتمع الدينية، ولتقاليد  وأعراف أفراده، وسعت لدراسة وفهم التعاليم الاسلامية الخاصة بوجوب حفظ النفس وكرامة جسده، خاصة عند الحديث عن الخفاض الفرعوني. واهتمت بفتوى الشيخ أبو شامة عبد المحمود مفتي الديار السودانية الصادرة في 2/ 12/ 1939م والتي تحرم ذلك النوع من الختان، وترى أن ختان الإناث هو  أمر مرغوب فيه (desirable) ولكنه ليس إجباريا /  ملزما (not compulsory)،  ويجب أن لا يتعدى قطع جزء من البظر. وعدت إنا بيزلي تلك الفتوى خطوة مهمة نحو التدرج في التحريم الشامل لكل أنواع الختان.
ومن الوثائق التي أوردتها بروفيسور رقية في محاضرتها صورة التعهد المكتوب بخط اليد، والذي وقعت عليه فرقة  المعلمات ، كورس عام 1945م - الدفعة الأولى، (لا ريب بإيعاز من إنا بيزيلي. المترجم) والذي جاء فيه التالي:
"نحن الوطنيات المجاهدات نتعهد على أن نخدم وطننا العزيز بأن نبذل كل جهدنا بأن نعمل لصالحه بجرأة  وتضحية، وأول ما سنقوم به هو اتباع  ما يحبذه زعماؤنا ويستحسنه شبابنا الناهض وفي مقدمته الخدمات الضرورية  ... هو أن: نقلع عن أفكار الرجعيين والرجعيات  (و) عادة الخفاض الفرعوني المضرة التي تدل على رجعية ووحشية،  ولا يعود على الفتيات  والمرأة إلا بالضرر البالغ، وسنقوم  بهذه الخدمة بما .... لأن في مقدمة من فكروا فيه وجاهدوا وسيجاهدون هم معالي الحاكم العام وصاحبي السيادة  السير السيد علي الميرغني باشا، والسير السيد عبد الرحمن المهد باشا، ومولانا مفتي الديار السودانية،  والأطباء الوطنيين ونسأل الله أن يمهد لنا السبيل..." .
وكذلك أوردت بروفيسور رقية صورا عديدة لعدد آخر من الوثائق والصور التاريخية لمدارس البنات ولبعض الزعماء السودانيين، وصورة لإنا بيزلي في الأربعينيات.

     

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء