Twenty years as a political officer in the Anglo-Egyptian Sudan
روبرت سيسيل مايوولRobert Cecil Mayall
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لغالب ما جاء في مقال لضابط إداري (سياسي) هو روبرت سيسيل مايوول (1893 – 1962م) والذي كان قد عمل لعقدين من الزمان في خدمة حكومة السودان في عهد الحكم الثنائي بين عامي 1920م و 1940م في كوستي والرنك والنهود والأبيض والخرطوم. ثم صار وكيلا لحكومة السودان في لندن، ثم مستشارا للعلاقات العامة لها حتى عام 1956م. .
وما يلي من سطور هي مختارات من مذكرات الرجل ومحاضراته التي قدمها في سنوات الحرب العالمية الثانية. ووضعت عائلة الرجل جميع تلك المذكرات والمحاضرات في "أرشيف السودان" في جامعة درم الانجليزية، وموقعها هو: http://www.dur.ac.uk/library/asc/collection_information/cldload/?collno=377
ونشر هذا المقال في يناير 2012مبالعدد رقم 45 من مجلة "دراسات السودان" التي تصدر في بريطانيا.
المترجم
************* *************** ***************
عينت بعد نهاية الحرب العالمية الأولى ضمن مجموعة ضمن أحد عشر من خريجي جامعتي أكسفورد وكمبردج مساعدا لمفتش مركزفي "القلم السياسي لحكومة السودان". وبعد مرور ثمانية أعوام ترقيت لمنصب مفتش مركز، ثم رقيت في عام 1931م نائبا لمدير مديرية كردفان، ثم إلى منصب نائب السكرتير الإداري في الخرطوم في عام 1933م. وبعد ثلاثة أعوام عينت مديرا لمديرية النيل الأزرق حيث بقيت في ذلك المنصب حتى غادرت السودان عام 1940م متقاعدا لأسباب صحية.
عملي مساعدالمفتش مركز في مديرية النيل الأزرق، 1921م
غادرت الخرطوم في فبراير من عام 1921م على ظهر سفينة ذات مجاديف (paddle steamer) متجها نحو الدويم ، والتي تبعد نحو 150 ميلا جنوب الخرطوم ... ولا أذكر الآن من أيامي هناك شيئا غير ما حدث لي في ليلتي الأولى هناك. استيقظت من نومي مذعورا لأجد "شيئا" دافئا مكسوا بالفراء في داخل قميص بيجامتي. أذكر أنني مسحت على / "مسدت" ذلك الشيء خلال نومي، غير أني أنه بدأ يعض أصابعي، فانتزعته بسرعة وقذفت به بقوة فارتطم بالحائط... وعثرت عليه في الصباح محطما نافقا. كان جرذا ضخما لم أر مثله في الضخامة. كان ذلك هو أول تعريف لي بالعمل في المديريات.
محطة كوستي وأبناء الخليفة عبد الله التعايشي
تعلمت في كوستي ولأول مرة في حياتي ركوب الإبل. وفي رأيي أن امتطاء ظهور الإبل هو أكثر وسائل التنقل في السودان راحة. ليست هنالك متعة أكثر من امتطاء ظهر "جمل ركوب" ضخم، بل والنوم على ظهره بأمان وهو يغذ السير بسرعة 8 -10 ميلا في الساعة، شريطة أن يكون هنالك دليل يسير أمامك. كان يرافقني دوما نصف دستة من رجال الشرطة السودانيين، كانت مهمة اثنين منهم تنحصر في حمل العلمين البريطاني والمصري في مقدمة ركبي، بينما كان البقية في الخلف يسيرون أمام الإبل البطيئة التي كانت تحمل أثقالنا من متاع وزاد. ولا شك عندي في أني، وخلال سنوات خدمتي بين عامي 1920 – 1927م، وقبل إدخال السيارات، كنت قد قطعت عديد الآلاف من الأميال على ظهور الإبل...ليلا ونهارا. ولم يكن لركوب الإبل من عيب غير أنه كان يصيبني بالإمساك، وكانت حقائبي ممتلئة دوما بملح الفواكه (اينو) الملين.
وأذكر أنه في الصباح الباكر من يوم من أيام عام 1921م تلقيت برقية من الخرطوم تخطرني (بل تنذرني)بأن باخرة ستصل بعد قليل إلى كوستي وهي تقل ثلاثين من أبناء الخليفة الراحل عبد الله (والذي حكم السودان بين عامي 1885 – 1898م) الذين تم اعتقالهم بسبب "تآمرهم" على الحكومة. وتم وضع أولئك الأبناء في تلك الباخرة كسجناء سياسيين، وكانت الأوامر التي صدرت إلي هي أن أصعد لتلك الباخرة ومعي قوة من رجال الشرطة المدججين بالسلاح وأن أذهب بهم جميعا لمسافة لا تقل عن خمسين ميلا جنوب كوستي، وأن أنزل المعتقلين في أي مكان يمكن أن أقيم لهم فيه "قرية" (تقرأ: مستوطنة معزولة. المترجم)، وأتركهم فيها ليتدبروا أمرهم بأنفسهم.
(حكى المؤلف بعد ذلك بصورة مطولة عما قام به من أعمال في تلك "القرية" ليؤمن الغذاء ووسائل العيش الكريم لهؤلاء "المساجين السياسيين" بعد مغادرته لها. المترجم).
وكان المكان الذي اخترناه لسكن أولئك السجناء يقع قرب "الجبلين" على الشاطئ الغربي للنيل الأبيض على بعد مائة ميلا إلى الجنوب من كوستي. وقمنا بذبح ثور عند مدخل المستوطنة طلبا لبركات الله، وعينا أحد السجناء كزعيم لهم، بعد أن أخذنا منهم جميعا عهدا مغلظا (في الأصل: بعد أن أقسموا بلحية النبي. المترجم) بأنهم في تلك القرية في غاية السرور والامتنان، وأننا قدمنا لهم كل ما يحتاجونه وزيادة، وسيبقون حيث هم. ثم تركتهم وعدت مطمئنا في باخرتي إلى كوستي. وعند وصولي استقبلني مفتش المركز وهو بادي الانزعاج وألقى إلى بقنبلة من العيار الثقيل حين قال لي:"لقد عاد كل أبناء الخليفة عبد الله الذين تركتهم في تلك المستوطنة إلى كوستي برا قبل وصولك". ويبدو أنه في الليلة التي تركت فيها هؤلاء الناس في تلك المستوطنة، قامت مجموعة من الأسود بمهاجمتهم وقتلت من بقرهم وغنمهم ما شاء لها الله، الأمر الذي أفزع أبناء الخليفة فمضوا يسابقون الريح نحو كوستي، وقطعوا المسافة لبلوغها (وهي لا تقل عن مائة ميل) في سرعة قياسية (لا ريب أن أولئك السجناء كانوا قد تركوا في ذلك القفر دون سلاح يدافعون به عن أنفسهم لأسباب لا تحتاج لشرح. المترجم). وهكذا لم تلق أولى محاولاتي لبناء قرية أي نجاح يذكر!
أذكر قصة أخرى عن عملي فيكوستي. طلب مني رئيسي مفتش المركز أن أسافر بالباخرة إلى الجبلين لأشرف على بناء مركز للشرطة ومكتب للبريد هنالك. ونفذت الأمر وأخذت في معيتي عددا من البنائين والنجارين وغيرهم من الحرفيين، وقمنا باختيار مكان معين شيدنا فيه مبنيين فخمين من الطوب الأحمر على شاطئ النيل الأبيض. وكنت لقلة خبرتي – للأسف- قد أهملت دراسة مناسيب النيل في الأعوام السابقة قبل الشروع في البناء في ذلك المكان. في ذات يوم من أيام عام 1938م (أي بعد مرور 17 عاما على تشييدي لذلك المبنى) تلقيت وأنا مدير للمديرية برقية من الجبلين تفيد بأن مياه فيضان النيل الأبيض قد غمرت مباني الحكومة هناك وخربته تماما. لم أعترف بالطبع لرئيسي مفتش المركز فيكوستي بأني كنت المسئول عن بناء تلك المباني في عام 1921م!!
وحدثت لي فيكوستي قصة أخرى... حزينة هذه المرة... في ذات ليلة مقمرة استيقظت من نومي فزعا وأنا أحس بوجود شخص ما بقربي. جلست على السرير وتبين لي أن هنالك فتاة تقف قرب رأسي وفي يدها سكين طويلة تقطر منها دماء. كانت تلك الفتاة طويلة سوداء، وعارية تماما كما ولدتها أمها. ظننت للحظات قليلة أنها قد طعنتني، فقفزت من السرير بصورة غريزية لاإرادية، وهجمت على الفتاة وطرحتها أرضا، وانتزعت بعد لأي من يدها تلك المدية الدامية. وأفلحت بصعوبة في أن أربط تلك الفتاة العارية بحبل تصادف أن وجدته بالقرب من سريري، ثم لففتها – كالدجاجة- بملاءة سريري. وأحضرت شمعة موقدة من داخل البيت لأجد أن من كان مطعونا هو تلك الفتاة المسكينة وليس أنا. كانت مطعونة في ثديها. وعلمت منها أن زوجها السكير كان قد آب إلى كوخه (قطيته) ثملا، وأراد أن يضاجعها فنفرت منه،فأثار ذلك جامح غضبه فاستل سكينه وغرسها في ثديها. غير أن الزوجة أفلحت في الامساك بالمدية، وسارعت بالهرب إلى أقرب نقطة حكومية طلبا للعون والأمان.
عملي مفتشا في مركز بمديرية أعالي النيل (1921 – 1923م)
دهشت جدا وفرحت لترقيتي في نهاية عام 1921م لوظيفة مفتش مركز في مديرية أعالي النيل. وغادرتكوستي قبيل عيد الميلاد لاستلام عملي في منطقة الرنك (ومساحتها تعادل مساحة اسكتلندا). كان كل السكان في تلك المنطقة من جنوب السودان، وتحديدا من قبيلة الدينكا... تلك القبيلة النيلية الوثنية التي كانت (وما تزال) مشهورة بأنها واحدة من أشد قبائل السودان ولعا بالحرب. ولا غرو، فقدكانوا محاطين بأعداء تقليدين... العرب عن شمالهم، وقبيلة الشلك عن جنوبهم .
وكانت أفظع مواجهة شهدتها هنالك في منطقةجيلهاكGelhakعلى بعد مئة ميلا جنوب الرنك ...آتاني رجل يلهث من شدة الركض وأبلغني بالقتال الذي دار في منطقته. قدرت مما سمعت من الرجل أن الموقف بالغ الخطورة، فقمت على الفور بأخذ رجلي شرطة معي وتوجهنا للمنطقة، بعد أن أصدرت الأوامر لقوة مسلحة أن تلحق بنا. سرنا لمدة 10 ساعات متصلة قبل أن نصل إلى جيلهاك، لأجد أن ذلك القتال هنالك أسفر عن مقتل نحو 12 رجلا، وإصابة 70 آخرين بإصابات بليغة. وكان جلهم من التجار العرب ومن قبيلة الشلك. كان المهاجمون (من رجال الدينكا) قد هاجموا المنطقة بأعداد كبيرة، وقتلوا وجرحوا من قاومهم، ونهبوا وسلبوا كل ما كان بإمكانهم سلبه ونهبه، ثم انسحبوا لغابة مجاورة. قمت مع الشرطيين بما كان متاحا لنا عمله، فدفنا الموتى، وضمدنا جراح المصابين. ثم اتخذت من أحد المتاجر الصغيرة المنهوبة مركزا لعملي، وبعثت بواحد من الشرطيين على بغلته إلى حيث يجد أقرب طبيب بريطاني، وبالآخر ليقص أثر المهاجمين من الدينكا الذين اختفوا في الغابة. وبعد مرور يومين سعدت بوصول الطبيب البريطاني قادما على ظهر باخرته (التي اتخذها كعيادة متحركة على النهر)، وبدأ في علاج الجرحى والعناية الطبية بهم.
وبعد مرور أيام قلائل، رأيت من بعيد في الأفق، وأنا أحلق ذقني ذات صباح عند مدخل القطية التي كنت أقيم فيها، رجل الشرطة علي بغلته وخلفه عدد كبير من رجال الدينكا المحاربين. لطالما أعجبت بالاحترام البالغ الذي يبديه الدينكا للحكومة وممثليها (وتصادف أن كان رجل الشرطة الذي بعثت به لتعقبهم من قبيلتهم). نجح ذلك الشرطي في العثور عليهم في الغابة، ووجدهم في شغل شاغل بتقسيم الغنائم والاسلاب، وأفلح في جعلهم ينصاعون لأمره ويعودون معه لمقابلتي وهو أمامهم يقودهم للمحاكمة وبندقيته على كتفه. كان من الممكن لأي من رجال الدينكا خلفه أن يقذفه بحربة، ولكن لم يحاول أحدا أن يفعل ذلك، فهيبة الحكومة كانت قوية آسرة. وتطلب معرفة هوية قائد الهجوم أياما عدة، غير أني في النهاية أقمت لهم محاكمات قضت بسجن كل رجال المجموعة لفترات تراوحت بين عامين إلى خمسة أعوام ، مع غرامات بلغت نحو 200 رأسا من البقر، والتي قمت بتسليمها لرجال الشلك والتجار (العرب) على سبيل التعويض، ثم قفلت راجعا للرنك.
وكان زعيم الدينكا في المنطقة (واسمه يول كير) خير صديق لي عرفته في المنطقة، وكنت أدين له بحياتي. كان رجلا طويلا (قد يصل طوله لسبعة أقدام)...يسير حافيا دوما، وعنده عشرين من الزوجات وعدد كبير من الأطفال. وكان يرافقني دوما في رحلاتي التفقدية لتفتيش المنطقة (والممتدة لمئات الأميال) والاطمئنان على الأمن فيها. لم يفارقني لحظة واحدة بالليل أو النهار في تلك الجولات الطويلة. وفي يوم من أيام عام 1922م وبينا أنا معه في إحدى تلك الجولات، أصبت بزحار (دوسنطاريا) أصابني بوهن شديد فلم أعد قادرا على امتطاء حماري. كان يول كير يحملني كطفل رضيع ويضعني على حماري ويظل ممسكا بي طوال فترة الرحلة ، والتي امتدت لاثني عشر يوما. لقد كان بالفعل صديقا وفيا مخلصا لن أنساه طوال حياتي. نعم لقد كان رجلا وثنيا وعريانا ولكنه كان صديقا لا يخذلك أبدا في ساعات الضيق والحاجة...لقد كان أحد هبات الطبيعة لي.
لقد ارتبطت حياتي في السودان بالجرائم والمساجين، فلا بد لي إذن من أن أحكي قصة عن هذا الجانب هنا. لا شك عندي أن السودان هو من أقل البلدان التي تنتشر فيهاالجريمة. ولا ريب عندي أيضا أن مساجينه هم من أكثر الناس تسامحا وظرفا. وكنت – خلال عملي- أصادق هؤلاء المساجين. أذكر أنني كنت ذات مرة جالسا عند الأصيل في استراحتي في "كدوك" والتي تبعد بنحو ميل من شاطئ النهر. دق جرس السجن معلنا تمام الخامسة مساء (حين يجب على المساجين ايقاف عملهم في الطرق وشاطئ النهر، والعودة للمعسكر حيث يتناولون وجبتهم الأخيرة ويخلدون للنوم بعد أن يغلق الحراس عليهم الباب حتى صباح اليوم التالي). ولكن بعد حوالي نصف ساعة من سماعي لذلك الجرس رأيت من بعيد مجموعة من السجناء يسيرون نحوي، وفي أيديهم بنادق الحراس الأربعة. لم يكن معهم من الحرس أحد. توجست منهم خيفة، وكانت أول خاطرة طرأت على عقلي هي أن هؤلاء المساجين تمكنوا من التغلب على حراسهمواستولوا على بنادقهم، وهم الآن في طريقهم لفعل شيء منكر تجاهي. ولكنهم لما قربوا مني صاح واحد منهم أنهم في حيرة من أمرهم. قال إن الحراس سلموهم بنادقهم، وذهبوا للحانة (الإنداية) لشرب البيرة (فقد كان النهار قائظ الحرارة) ووعدوهم بالرجوع إليهم قبل موعد الانصراف عند الخامسة. وعندما رنت أجراس الخامسة ولم يأت الحراس جن جنونهم، فإن عادوا للسجن بالبنادق فلن يصدقهم أحد، وإن تركوها علي الشاطئ فربما يأخذها عابر سبيل فتقع الملامة والندامة عليهم. وقر قرارهم أخيرا على أن يذهبوا للرجل الأبيض، والذي سيصدقهم. لم تخطر فكرة الهروب على عقولهم بتاتا. وبالطبع سررت بعودتهم أيما سرور، فأمرت بأن يعطي كل فرد من أولئك المساجين الأربعة مؤونة شهر كامل، وخفضت مدة محكومية كل واحد منهم تخفيضا كبيرا.
مفتش مركز في كردفان (1923 – 1931م)
كانت تلك بالتأكيد أسعد أيام حياتي في السودان على الإطلاق. فقد كنت قد نقلت من مديرية أعالي النيل مترقيا إلي وظيفة مفتش مركز في غرب كردفان وهي من أكبر المراكز في السودان... لم يخطر ببالي وأنا أقطع المائة وأربعين ميلا من الأبيض عاصمة كردفان إلى النهود، حيث عاصمة مركزي، أنني سأقضي هناك ثمانية أعوام ونيف. استغرقت تلك الرحلة على ظهر جمل سبعة أيام كاملة، بينما غدت ذات الرحلة فيما أقبل من أيام لا تستغرق بالسيارة أكثر من ثلاثة ساعات.
وكانت السمة الطبيعية الرئيسة للمنطقة هي إمدادات المياه، أو بالأصح نقصها. لم تكن هنالك من آبار في المنطقة غير ما كان موجودا في "النهود" و"الأضي" و"أبو زبد" و"المجلد" ...وفي موسم الجفاف (والذي يمتد من نوفمبر إلى يوليو) لم يكن هنالك من مصدر للمياه غير بعض الآبار ومياه الأمطار التي تخزن في أشجار التبلدي. كانت تلك الشجرة هي أعز ما تمتلكه قبيلة الحمر، وكان النزاع حول ملكيتها من أكثر القضايا التي كنت أقضي فيها بين المتخاصمين. وكان الناس يحفرون حفرة كبيرة حول جذع تلك الشجرة تتجمع فيها مياه الأمطار، ثم يحدثون تجويفا كبيرا في جذع الشجرة يصبون فيه تلك المياه المتجمعة حولها. كانت غالب أشجار التبلدي قديمة، ويمكن للأشجار الكبيرة منها أن تخزن عدة آلاف من جالونات المياه... لتستخدم في شهور الجفاف. لم يبلغني أبدا في خلال سنواتي في المنطقة أن أحد قرب تلك المياه بغرض السرقة.
وكانت كل جولاتي التفقدية خلال فترة الأربعة أعوام الأولى من عملي في المنطقة تتم على ظهور الإبل. ولكن مع حلول عام 1927م استلمت سيارتي الأولى- كانت نوعا قديما من طراز تي فورد. كنت أسميها على سبيل التدليل "ليزي" Lizzie (ولعله اسم التحبب (الدلع) لإليزابيث/ الياصبات. المترجم). وكنت كثيرا ما أبدأ رحلتي بتلك السيارة، وأختمها على ظهر حصان أو جمل، أو حتى على قدمي، بعد أن أصرم عددا من الساعات في دفع هذه الـ "ليزي" المنغرسة عجلاتها في الرمال.
وفي ذات يوم مطير من أيام عام 1926م وأنا بالنهود في داري المبنية بالطين اللبن كنت في معية صحاب نستمتع بلعبة الورق المسماة بيرديج. فدخل علي رجل شرطة فزعا ليخبرني بأن المطر الغزير الذي انهمر فجأة قد غمر كل المباني الحكومية ومبني السجن والسوق...وكلها مبنية من الطين اللبن. اختفت في دقائق كل تلك المباني، وجرفت المياه الغزيرة كل ما صادفها من بشر وحيوانات ونبات وحجر... خرجنا لاستكشاف الخراب الذي أحدثته تلك المياه، وما أن خطونا أمتارا قليلة خارج الدار حتى وجدنا الماء يصل إلى ما فوق الخصر، ووقفنا في أماكننا نشاهد مباني الحكومة تستحيل إلى أكوام من ركام طين غروري لزج. وعند الفجر ذهبت مجددا لمعاينة الأضرار فرأيت أنه لم يبق من تلك المباني وما فيها شيء يذكر، وضاعت كل الملفات وأثاثات المكاتب. و رأيت فوق روبة عالية ثلة من الرجال... كان أولئك هم المساجين الذين اختفت مباني سجنهم تحت مياه الأمطار. جلسوا في صبر دون أن يفكر أحد منهم في الفرار، وهم في انتظار من يأتي ويأخذهم مجددا لمحبسهم... لحسن الحظ كان مكتب التلغراف قد بني على أرض مرتفعة، فجلست فيه وبعثت لمدير المديرية في الأبيض رسالة تلغرافية من صفحتين أخبرته فيها بالكارثة التي حاقت بمدينتنا، وطالبا منه العون المالي لجبر ما انكسر.
والآن إلى قصة حادثة القتل التي وقعت في طريق الفاشر. غادرت النهود فجر أحد الأيام مع بعض الموظفين بسياراتنا في جولة تفقدية للمنطقة كان من المقرر أن تستغرق ثلاثة أسابيع. وبعد أن قطعنا مسافة عشرين ميلا، ومع بزوغ أول ضوء للشمس أمرت الموكب بالتوقف لملء مبردات السيارات بالماء، ولم أشأ أن أنتظر، فمضيت في السير في الطريق مشيا على الأقدام بعد أن أوصيت السائقين باللحاق بي في الطريق. رأيت بعد مسيرة ميل واحد ما خيل إلي أنه ثلاثة رجال نائمين تحت ظل شجرة. تقدمت نحوهم ففوجئت بسماع أنين صادر من أحدهم، ولما قربت منهم تبين لي أن اثنين منهما كانا مذبوحين من الوريد إلى الوريد، بيد أن الثالث كان ما يزل حيا، رغم إصابته البالغة. وأتت – لحسن الحظ - سيارات موكبي في تلك اللحظات، فأمرت بأن تسرع إحداها بالعودة بالرجل المصاب إلى مستشفى النهود بعد أن سقيته جرعات كبيرة من الويسكي الذي كنت أحمله، فقد كان ذلك هو "الدواء" المنبه الوحيد الذي كان معي، وأستطاع الرجل – وبصعوبة- أن يتمتم بكلمات قليلة عن حقيقة ما جرى له، فقل إنه تاجر "تمباك"، وقد أتى للأبيض قادما من الفاشر (والمسافة بينهما 400 ميل) مشيا على الأقدام في صحبة خادميه وهما يحملان "تمباك" لبيعه في الأبيض. وباع الرجل (والذي ولد كفيفا) بضاعته في الأبيض وكسب من بيعته تلك ستين جنيها. وفي طريق عودة الرجل مع خادميه للفاشر مروا بالنهود وقضوا في منزل أحد سكانها عددا من الليالي. وبعد سماعي لذلك الجزء من قصة الرجل بعثت إشارة إلى شرطة النهود لتلقي القبض على كل من كان يسكن في الشارع الذي قضى فيه الرجل الضرير وخادميه أيامهم في النهود بتهمة الاشتراك في جريمة قتل لرجلين وتسبيب أذى جسيم لثالثهم. و ظللت أداوم التفكير في تلك القضية، وأنهيت جولتي التفتيشية في عشر ليال (بدلا من أسبوعين). ثم عدت للنهود، فوجدت أن الرجل الضرير لم يزل طريح الفراش، وأن هنالك نحو 170 رجلا من رجال النهود محبوسين في الحراسة لمجرد الشك في إنه قد تكون لهم علاقة ما بتلك الجريمة. ولم توجه لهم أي تهمة محددة، وبذا لم نستطع تقديمهم لمحاكمة قانونية. من حسن حظنا أن المبدأ القانوني القاضي بضرورة "مثول المتهم أمام القضاءhabeas corpus " لم يكن معمولا به في النهود آنذاك!! أحضرت المتهمين في طابور وجعلت الرجل الضرير يمر عليهم ويسمع كل واحد منهم ينطق بعدة كلمات. وتمكن الرجل الضرير – وبسهولة ودون تردد- من تحديد من قاموا بارتكاب تلك الجريمة وكانوا أربعة، غير أنهم لم يعترفوا بذلك الفعل. وأرسلت من يقوم بحفر الأرض في بيوت أولئك المتهمين، وبعد أيام طويلة من الحفر وجدت الشرطة كامل المبلغ المسروق ومعه مسروقات قديمة أخرى مخبوءة تحت الأرض. قدمت المتهمين للمحاكمة وحكمت عليهم بالإعدام. وقبيل تنفيذ الحكم اعترف الرجال بجرمهم، وتم تنفيذه بالفعل.
من قصص حياتي الزوجية
تزوجت في عام 1929م. وغمرني أصدقائي من السودانيين بدعواتهم، والتي جعلتني بعضها أحمر خجلا. بعث لي ناظر الحمر "منعم" بتهنئة قال فيها: "تهاني الحارة. أدعو الله أن يرزقك أطفالا كثيرين". ومن القصص التي لن تنساها زوجتي أنها كانت في أحد المستشفيات في إنجلترا لتضع مولودنا الأول في عام 1931م. وعندما صلت الأخبار إلى النهود بأننا قد رزقنا بنتا، قام أحد تجار النهود بإرسال برقية لها تقول: "مبروك. أدعو الله أن يرزقك ذكرا في القريب العاجل".
ومن حكايات زوجتي الكثيرة أخترت لكم هذه الحكاية. كنا نتناول العشاء معا في أول ليلة لها في النهود، وكانت وجبتنا تلك مكونة من طبق واحد هو حساء الفول السوداني. لاحظت أن زوجتي كانت تشعر بضيق شديد وهي تحاول ابتلاع ذلك الحساء. قلت لها إنه يجب عليها أن تتعود على ذلك الطبق إذ أنه يكون عليها تناوله كل مساء لأربعة عشر عاما قادمة. وبعد أسابيع من تلك الليلة كنت أحتسي شرابي الليلي المعتاد (الويسكي بالصودا) حين وقعت حشرة كريهة نسميها "الحشرة النتنة" داخلكأسي، فقذفت بالشراب على الأرض ممتعضا. رأتني زوجتي فسألت عما أفعل فأريتها الكأس وحدثتها عن أن تلك الحشرة تفسد أفضل شراب في العالم وتجعله غير صالح للشرب. تناولت زوجتي الكأس وتذوقت القطرات التي بقيت في الكأس، فصاحت قائلة:"آه...هذا هو ذات الطعم الذي وجدته في ذلك الحساء في أول ليلة لنا هنا." فهمت أخيرا لماذا لم تحب أبدا حساء الفول السوداني!!
نائب مدير مديرية كردفان (1931 – 1933م)
كان من المفترض والمتوقع أن تكون ترقيتي ونقلي للأبيض من أسباب سعادتي، بيد أن ذلك لم يحدث، إذ كنت حزينا بالفعل لمفارقة النهود وحمرها، وأيامي التي قضيتها على ظهور الإبل وفي السيارات وأنا أجوب قراها ودساكرها زائرا للأهالي. وفي المقابل كانت وظيفتي الجديدة في الأبيض وظيفة مكتبية دوامها من التاسعة صباحا حتى الثانية ظهرا، مع دوام مسائي أيضا.
ومن قصصي في الأبيض أن البريطانيين في تلك المدينة قرروا إقامة كنيسة لهم بعد أن كانوا يؤدون صلواتهم في فرندة النادي، أو في غرفة كبيرة في دار مدير المديرية. وقمنا بجمع ما يكفي من الأموال لبناء كنيسة صغيرة، ولكننا اختلفنا في تسميتها. أقترح الاسكتلنديون منا أن نسميها على اسم القديس "سانت اندروز"، بينما اقترح الإنجليز أن نسميها "سانت بيتر". وحسم الأمر بتصويت سري أعلن بعد نهايته أسقفنا أن "سانت بيتر" قد تغلب على "سانت اندروز" بصوت واحد.
نائب السكرتير الإداري(1934 – 1936م)
إن كنت قد شعرت بالغربة والوحدة والبعد عن السودانيين بنقلي من النهود للأبيض، فقد ساء الوضع أكثر بنقلي في بداية عام 1934م للخرطوم نائباللسكرتير الإداري في الحكومة المركزية، والخرطوم هي "محور الكون".
وكانت أسعد أيامي خلال العامين ونصف اللتان قضيتهما نائبا للسكرتير الإداري هي عندما زارنا وفد كبير من مشايخ القبائل في الخرطوم. وأذكر اليوم الذي لبوا فيه دعوتي لشرب شاي المساء في داري، وكان ذلك قرب نهاية زيارتهم للخرطوم. كان معظمهم بين السبعين والثمانين من العمر، وكانوا في مناطقهم يتحكمون في رجال ونساء قبائل كبيرة. أرتهم ابنتي الصغيرة لعبها ودماها ودببها، وكان شغفهم واهتمامهم الحقيقي بتلك اللعب والدمى والدببة واضحا جدالا تخطئه عين.
مدير مديرية النيل الأزرق (1936 – 1940م)
أستطيع التأكيد (وأنا مدير لمديرية النيل الأزرق) على أن وجود البريطانيين في السودان لم يكن من أجل مصلحتهم هم ، بل من أجل السودانيين، ومن أجل تحضيرهم لذلك اليوم الذي يمكنهم فيه حكم أنفسهم بأنفسهم (هكذا! المترجم). ونجحت السياسة البريطانية في السودان في ذلك المسعى، بتطويرها لكل ما هو خَيِّر ومفيد من التراث السوداني التقليدي، والحياة السودانية وثقافتها، وبإعطاء السودانيين أفضل ما أنتجته الحضارة الغربية . لذا كنا نأمل أن تقوم "دولة سودانية" مستندة على مبادئ مستمدة من خير ما في الشرق والغرب... إلى أي حد نجحنا في الوصول لذلك الهدف وتلك الغاية؟ الإجابة ليست عندي ، بل عند القارئ. آمل أن يكون سودان اليوم، وسودان الغد كذلك، وفي المستقبل البعيد أيضا كذلك...ليس غربيا بالكلية، وليس شرقيا خالصا. لهذا السبب كان السودان من أكثر الدول جذبا للإداريين البريطانيين للعمل في خدمته.
alibadreldin@hotmail.com
/////////////