قصة رحلتين: تتبع خُطى بعثة علمية أتت للسودان في 1934م بعد نحو سبعين عاما .. ترجمة : بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 



 Retracing Footsteps: Khartoum 1934 and 2007
ماري كينان Mary Keenan
ترجمة : بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة لبعض ما جاء في مقال للسيدة البريطانية ماري كينان عن رحلة علمية قامت بها للسودان في عام 2007م تتبعا لخطى  فريق بريطاني  مكون من ثلاثة من العلماء البريطانيين (مع مرافقيهم) جاء إلى  السودان في عامي 1933 و1934م لجمع عينات من التربة والنباتات وتصنيفها من مناطق في  دارفور وجبال النوبة والجنوب. وبحسب ما أوردته الكاتبة في موقعها البديع (المذكور أدناه) فقد استغرق تأليف هذا الكتاب عقدا كاملا من الزمان.
https://thathardhotland.wordpress.com
وفي هذا الموقع حكت المؤلفة عن أن رحلتها للسودان كانت هي أول رحلة طويلة لها خارج الجزر البريطانية (باستثناء عشرة أيام بباريس). وكالت الثناء على كل من صادفته في الخرطوم، حيث أقامت في ذات المنزل الذي كان يسكن فيه خالها في ثلاثينيات القرن الماضي. وكانت تتجول وحيدة بالمدينة ممسكة بقارورة مياه بيد، وبخريطة للمدينة في اليد الأخرى، وبحقيبة صغيرة على ظهرها. وزارت دار الوثائق وكل متاحف الخرطوم، وصافحت مئات السودانيين المرحبين.
 ونشر هذا المقال في العدد الخامس والثلاثين المجلة البريطانية "دراسات السودان Sudan Studies"، والصادر عام 2007م".
المترجم
*********   **********         ********    *********
بدأت في 26 فبراير من عام 2007م في رحلة للخرطوم لتتبع خُطى رحلة قام بها أحد أقربائي (مع عالمين آخرين) للسودان. وبادِئَ ذِي بدْءٍ أسرد حكاية تلك الرحلة، والأسباب التي دعتني للقيام بتلك المغامرة، وعلاقتها بالماضي. وفي حقيقة الأمر فهذه حكاية رحلتين يفصل بينهما ثلاثة وسبعون عاما. غير أنهما ترتبطان بشخصين، لا يعلم الأول منهما شيئا عن الثانية، ولا تعرف هذه الثانية شيئا عن الأول إلا ما قرأته عنه في الوثائق ... غير أنهما يرتبطان بصلة الدم، وبرباط فكري معقد لا ينفصم مع مرور الأعوام.
لحظة اتخاذ القرار
بدأت الحكاية بموت عزيز لدي في عام 1996م. حينها اتخذت قرارا شخصيا وواعيا بأن لا أقع فريسة للاكتئاب. وعوضا عن اليأس والقنوط قررت الالتحاق بدورة في التصوير الفوتوغرافي، وبعد مرور ثلاثة أعوام من ذلك قررت الاستمرار في الدراسة والحصول على درجة جامعية في ذلك الفن. غير أني أصبت في حادثة منعتني من مواصلة العمل في حقل التدريس، فتوفر لدي زمن فائض للتفكير والتأمل. حدثت نفسي بأن علي أن أوقظ في نفسي ما خمد من حب لعلوم النبات، إذ أن كل ما كنت أقوم به طوال حياتي كان يتعلق بالتصوير والتشكيل ورسم المناظر الطبيعية، والتعرف على النباتات. وكان كل ما أرسمه أو أصوره مستلهم من وحي الطبيعة.  ولهذا السبب قمت بزيارة متحف التاريخ الطبيعي بلندن وبحثت في أرشيفه عن ابن خال لأمي (واسمه جيمس إدجار داندي) كان يعمل مسئولا في قسم علم النبات بالمتحف البريطاني بين عامي 1956 و1966م. لم يسبق أن وقعت عيناي على قريبي هذا، غير أني عرفته أكثر كعالم نبات من خلال قراءتي لما تركه من وثائق ومذكرات وخرائط تتعلق برحلة علمية قام بها في عامي 1933 و1934م.
وقرأت في شغف ونهم بالغين كل ما له صلة بقريبي ذاك وبتلك الرحلة التي كان الغرض منها جمع عينات تربة ونباتات من مناطق مختلفة في السودان. ووجدت مذكرات الرجل مدهشة التفاصيل وبالغة الدقة، وبها خرائط متقنة للأماكن التي زارها مع مجموعته. ووجدت نفسي أقول لمسئول الأرشيف بالمتحف: "أوه... ألن يكون أمرا رائعا إن تمكنت من إعادة رحلة خالي بعد مرور سبعين عاما عليها!". ووجدت نفسي أجيب على سؤالي بالقول سرا: "نعم ...  لم لا!؟ ولكني سأحتاج لدراسة البيولوجيا والحصول على درجة علمية فيها حتى يجد ما سأقوم به بعض التصديق والقبول! لقد بدأ الشغف (passion) - لحظة اتخاذ القرار الذي غير وجه حياتي وللأبد.
وعوضا عن درجة جامعية في فن التصوير الفوتوغرافي، غيرت اتجاه دراستي وحصلت في عام 2000م على منحة دراسية من مؤسسة Bodyform Career مكنتني من الالتحاق بجامعة تخرجت فيها بدرجة البكالوريوس في البيولوجيا متخصصة في فرع  يتعلق بالحفاظ على بيولوجيا البيئة Conservation Biology وذلك في عام 2004م. وفور حصولي على تلك الدرجة استقلت من عملي وبدأت في تعلم اللغة العربية المنطوقة استعدادا للسير في خطى خالي، والقيام بذات ما قام به في رحلته في ثلاثينيات القرن الماضي.
البحث
كنت في غضون سنوات دراستي بالجامعة أواصل البحث والتنقيب في كل جوانب تلك الرحلة العلمية الفريدة، مستخدمة في البدء مذكرات داندي فحسب، واكتشفت أنه كان في صحبة عالمين آخرين. وكان داندي يشير إليهما في مذكراته بالحرف الأول في اسم كل واحد منهما (وهما "م" و"س").  وبحثت في أمرهما وتبين لي أن "م" هو سيسيل جريهام تراكوار موريسون ، المحاضر بجامعة أكسفورد، والمتخصص في الكيمياء الزراعية والاقتصاد الريفي. وكان الرجل هو "قائد" تلك الحملة العلمية.  أما الآخر المشار له بحرف "س" فقد كان هو دينستان سكيلبيك، وكان يعمل محاضرا في علم التربة بمدرسة الاقتصاد الزراعي بأكسفورد. أما قريبي جيمس إدجار داندي فقد كان عالم نبات بالمتحف البريطاني بلندن.
وبحثت عن عائلة خالي داندي حتى عثرت في عام 2001م على ابنته، وتعرفت عليها وحصلت منها على مذكرات والدها. وبحثت كذلك عن ولده، وزرته في عام 2005م حين منحني أثمن هدية تلقيتها في حياتي وهي مجموعة من الصور التي التقطها والده في تلك الرحلة وعددها يفوق ثلاثمائة صورة فتوغرافية.
ويجد المرء في مذكرات الرجلين وصفا دقيقا لكل ساعة تقريبا من ساعات أيام تلك الرحلة العلمية. وتؤيد دوما المعلومات التي وردت في مذكرات أحدهما تلك التي وردت في مذكرات الآخر. واتسمت مذكرات داندي بالقصر، وبتركيزها على المعلومات المجردة، وخلوها من العاطفة والانفعال. بينما كان سكيلبيك يضيف لمذكراته العلمية الكثير من الألوان والعاطفة والتاريخ والأفكار وبواعث التفكير. وتم التأكيد من أبحاث مصادر أولية على صحة محتوى وتفاصيل كل المعلومات التي وردت في المذكرتين. وتغطي مذكرات داندي نحوا من عشرين أسبوعا (منذ تحركه من لندن 1/12/1933م إلى تاريخ عودته لها في 21/4/ 1934م). بينما بدأت مذكرات سكيلبيك من يوم 21/12/1933م في الأبيض، وانتهت يوم 16 / 4/ 1934م وهو على ظهر الباخرة راج بطانة ؟ (Rajputana) وهو في طريقه إلى إنجلترا.
وعند نهاية تلك الرحلة العلمية تم تجميع كمية كبيرة من المعلومات والنتائج، وتقرر أن يقوم الباحثون بجمعها وتحريرها في كتاب. وجاء في نهاية سطور مذكرات سكيلبيك الآتي: "... سأعود مجددا لتلك الأرض القاسية الحارة ..."، ووجدت تلك الكلمات " الأرض القاسية الحارة" هي الأنسب لعنوان كتابي هذا.
وكما نعلم فلم يتمكن أي واحد رجال تلك البعثة العلمية من العودة مجددا لتلك الأرض... غير أني فعلت ذلك بالإنابة عنهم... بعد مرور ثلاثة وسبعين عاما تحديدا.
الحملة 1933 – 1934م
قام موريسون بتنظيم تلك الحملة العلمية بغرض بحث العلاقات بين التربة والنباتات التي تنمو عليها في مختلف أرجاء السودان (ذات الحرارة المتساوية تقريبا) والتي تتساقط عليها كميات متباينة من الأمطار سنويا. وكانت مهمة داندي المباشرة هي جمع مختلف أنواع النباتات للمتحف البريطاني. وأفلح الرجل في جمع 747 عينة نباتية، شملت بعض أنواع الفطريات والحزاز / الأشنات lichens والطحالب.  بينما قام موريسون وسكيلبيك بجمع عدد كبير من مختلف صنوف التربة، استخدمت فيما بعد لأغراض التدريس.
ولم أعثر على أي وثيقة عما أنفقه موريسون على تلك الحملة من مال. غير أني علمت أن سكيلبيك كان قد تحصل على منحة قدرها خمسة وعشرين جنيها من (جامعة) أكسفورد، بينما تحصل داندي على خمسين جنيها لتغطية نفقاته، شريطة أن تخصم خمسة عشر يوما من أيام الحملة من عطلته السنوية المعتادة!
وبدأ داندي رحلته على ظهر سفينة شحن هي SS Mongolia من تيلبري في مقاطعة اسكس في 1/12/1933م، بينما دبر موريسون وسكيلبيك برنامجا مختلفا فاعتليا ظهر تلك السفينة من مرسيليا بفرنسا. ووصل الرجال الثلاثة إلى ميناء بورتسودان في الخامس عشر من ديسمبر، ومنها استقلوا القطار للخرطوم، والتي بلغوها في اليوم التالي. وأقام داندي في الخرطوم بمنزل جي ايلمر مفتش الغابات بحي المقرن، حيث تولى الرجل وزوجه تنظيم جولات لداندي في "غابة السنط" وحديقة الحيوان وبعض المناطق المختلفة في الخرطوم وأمدرمان وشمبات.
وفي الخرطوم قام أفراد الفريق بتحضير برنامج الحملة، وشراء المعدات اللازمة والملابس المناسبة من محل اس واس فانيان S & S Vanian (وكان ذلك المتجر المتنوع البضائع المستوردة يقع في شارع البرلمان بالقرب من محل "مرهج"  في "السوق الأفرنجي" ولعله ظل يعمل حتى بداية سبعينيات القرن الماضي. المترجم). وسافروا جميعا للأبيض بالقطار، والتي قاموا فيها بتدبير أمور الخدم والمواصلات.  وفي تلك المدينة بقي الفريق بأكثر مما كان مخططا له بسبب صغر حجم اللوري الذي تم استئجاره. وأخير تقرر سفر الفريق إلى النهود بالسيارة وبلوري أكبر حجما. وفي الطريق توقف الفريق في ليلة عبد الفصح (الكريسماس) في استراحة "ود بندة"، حيث وجدوا فريقا من صائدي الحيوانات الوحشية يقيمون في تلك الاستراحة. ثم بدأت مسيرة الفريق العلمي نحو الفاشر، وبدأ في الطريق لتلك الحاضرة العمل في جمع عينات مختلف أنواع النباتات إلى أن بلغوا الفاشر في 27 /12/ 1933م.
ومن الفاشر، وفي الطريق إلى زالنجي، تم تنظيم قافلة على ظهور الحمير في جلدو Guldu استعداد لمسيرة تبلغ عشرة أيام إلى جبل مرة. وهنا تخلف موريسون عن مرافقة الوفد، وحل محله البريطاني ماكسويل كين والذي كان يسكن زالنجي مرشدا للفريق. ومن جلدو بدأ الفريق في الصعود لجبل مرة إلى أن وصل أخيرا إلى Nyuringya مركز الفور، والذين قام سكيلبيك بالكتابة في مذكراته عنهم وعن عاداتهم. وفي الطريق لأعلى الجبل مر الفريق العلمي بعدد من القرى القائمة في أودية شديدة الخصوبة والخضرة وتكثر بها زراعة المدرجات (terraced cultivation) والأشجار. وأكمل داندي وسكيلبيك الصعود إلى قمة الجبل سيرا على الأقدام أو على ظهور البغال، وظلا يجمعان عينات مختلفة من أنواع التربة والنباتات قبل أن يعودا إلى نيرتتي، والتي قضيا فيها أياما إضافية. وكانت رحلة العودة من أعلى الجبل عسيرة وبطيئة، فكان على الشخص أن يهبط ببطء عبر ترسبات ملحية وشقوق عميقة في أحجار الخفان (pumice stones) كانت من الضيق بحيث لا تسمح إلا بمرور شخص (أو حيوان) واحد فقط.  وقام سكيلبيك بجمع عينات من التربة في كورينجا حيث مناجم الملح الضخمة.  ومضى الفريق في طريقه إلى بحيرات ديربا حيث أقاموا حولها معسكرهم. وطفق داندي في جمع عيناته حول البحيرة، بينما قضى سكيلبيك وكين معظم الوقت في السباحة في الجزء "الذكري" من البحيرات، فالأهالي يطلقون على البحيرة الأصغر والأعمق "البحيرة الذكر"، ويطلقون على الأخرى "البحيرة الأنثى"! (توجد على الشبكة العنكبوتية صورة بالغة الروعة لتلك البحيرة https://twitter.com/m1434g/status/340846359366209536 المترجم).  وأظهرت صورة بالأقمار الصناعية أن حجم البحيرة "الأنثى" الحالي أصغر مما كانت عليه في عام 1934م.
 ثم هبط الجميع إلى كالوكيتنيق Kalokitting، حيث نقلهم لوري إلى الفاشر في خمسة أيام. وعند إحصاء ما تم جمعه من نباتات من دارفور تبين أن داندي كان قد جمع 200 عينة نباتية من منطقة جبل مرة وحدها، وكان هذا رقما غير مسبوق في زمانه.
وعاد الفريق إلى كردفان مرة أخرى عن طريق النهود، وعبر منها إلى الدلنج، حيث قام بجمع عينات تربة ونباتات من جبل كرمتي وسرف كالندي وجبال مندال، ومنها ساروا إلى كادقلي والتي زاروا فيها مزرعة ومحلجا للقطن ومزرعة تجريبية. وكتب داندي عن تلك المزرعة وقطنها "التجريبي" والذي كان يرحل من كادقلي إلى الأبيض ليصل في نهاية المطاف إلى مانشيستر. وأرتحل الفريق باللواري إلى بيرداب وجبال كاتشا وكافينا وبقية جبال النوبة، حيث جمعوا منها 150 عينة نباتية، وعددا مماثلا من مختلف أصناف التربة.
وفي الخامس من فبراير وصل الفريق إلى تلودي ووجد أن الحرارة فيها بلغت 43 درجة مئوية (والفصل هو فصل الشتاء!) وزاروا فيها محلجا للقطن وجمعوا بعض العينات، قبل أن يتوجهوا إلى تونقا حيث قابلوا قسيسا (إيطاليا؟) اسمه أكورسي يجيد لغة الشلك.  وبعد ذلك سافر الفريق ولمدة أسبوع كامل على ظهر الباخرة "الرجاف" من ملكال إلى جوبا في مديرية منقلا. وكان من ضمن ركاب تلك الباخرة أوربيون كثر منهم أميرة رومانية (كان يشك في أنها "أميرة مزيفة")، وسيدة أعمال سويسرية تملك شركة Celanese ومصانع بيرة كارليسيبرج، كانت في رفقة ولدها (والذي كان يعتقد أن والدته ترتدي ملابس غير مناسبة تماما!)، وأسقف كريدون البريطاني وعائلته، وهم في طريقهم ليوغندا، مع عدد من الأساقفة في طريقهم لجوبا حيث سيعقد مؤتمر للأساقفة هنالك.
(توسعت الكاتبة بعد ذلك في وصف ما قام به الفريق العلمي من جمع للنباتات والتربة (وبعض الأسماك أيضا) في جوبا وياي ويامبيو ورمبيك وشامبي. ووصفت أيضا مجهودات الأطباء في مكافحة العمى (الذي أسمته "عمى السودان")، وكيف أن سكيلبيك أصيب بالملاريا والتي جعلته يتخلف عن باقي أفراد فريقه، والذين عادوا للخرطوم، حيث تقابلوا جميعا، ومنها سافروا بالقطار إلى وادي حلفا  ومنها إلى مصر.  المترجم).
وبعد قراءتي لمذكرات سكيلبيك وداندي ازداد إصراري على تتبع خطواتهم، والقيام بذات الرحلة، وتحقيق ما عجزوا عنه من العودة لتلك "الأرض القاسية الحارة".
التخطيط لزيارة الخرطوم في 2007م
استعنت في التخطيط لرحلتي المرتقبة للخرطوم بمذكرات داندي وسكيلبيك، وبقائمة اسماء النباتات وأنواع التربة التي جمعاها، والصور التي التقطها داندي (وكل ذلك مذكور في كتابي) إضافة إلى مصادر أولية منها وثائق وأوراق علمية ورسائل ومواد أرشيفية  كان منها قائمة بأسماء زعماء قبائل وحكام وعلماء نبات ومفتشي مراكز وعلماء حشرات وقساوسة وأطباء وسواح وغيرهم.
ولم يكن من المتيسر لي تتبع كل خطى ذلك الفريق العلمي. غير أني كنت أعلم أنه من الضروري أن أبدأ رحلتي من الخرطوم، تلك المدينة التي بدأت منها رحلة الفريق العلمي وانتهت. وقررت أن تكون زيارتي للخرطوم بين 26 فبراير و12 مارس 2007م. فقمت بحجز تذكرة الطائرة وغرفة في فندق الأكربول في أبريل 2006م. وبعد إكمال تلك الإجراءات سافرت لأكسفورد في مايو 2006م لمعرفة المزيد عن قائد تلك الفريق العلمي موريسون، وستلبيك، وقمت أيضا بتصوير أسماك الـ polypterus التي أصطادها رجال قبيلة الباريا من النيل الأبيض في " ديم سليمان" في 1934م، وأحتفظ بها داندي في ثلاثة قوارير كبيرة بمتحف التاريخ الطبيعي في جامعة أكسفورد.
وكان الحصول على تأشيرة دخول السودان أعسر مما تصورت. وتلقيت كثيرا من النصائح المتناقضة من مختلف الجهات بخصوص التأشيرة قبا أن أتقدم بجوازي لسفارة السودان بلندن للحصول على التأشيرة. وبقي جوازي لثلاثة أشهر كاملة فيها قبل أن أستلمه. وعند استلامي لجوازي تبين لي أن صلاحية تأشيرتي كانت قد انتهت منذ فبراير 2007م. وأخبرت أيضا أن إصدار تأشيرة جديدة ليس ممكنا. وبعد تبادل عدة رسائل ومحادثات هاتفية قلقة تم السماح لي أخيرا بإعادة تقديم طلبي للحصول على التأشيرة. وكان مما زاد الطين بلة أن مصرفي لم يكن لديه أي معلومات عن السودان، وكذلك كان العاملون بوكالة السفر التي تعاملت معها لا يعلمون عن أي شخص يرغب في زيارة السودان في تلك الأيام.
لقد كانت رحلة الخرطوم لمدة أسبوعين بالنسبة لي أمرا خطيرا وهما عظيما بالنظر إلى أنني لم أركب أي طائرة في حياتي سوى لمدة 10 دقائق في طائرة صغيرة بجناحين متوازيين (bi-plane) في عام 1954م، ولم أغادر بريطانيا في حياتي إلا في رحلة (برية) مع مدرسة الفنون إلى باريس لمدة عشرة أيام في 1962م. ومما زاد الأمر سوءا هو قلة مصادري المالية، فأنا متقاعدة عن العمل ولم أحصل على أي منحة من أي جهة لتمويل رحلتي هذه. ورغم اقتصادي (بل وتقتيري) الشديد على نفسي في الملبس والمأكل فقد كلفتني تلك الرحلة نحو 40% من دخلي السنوي الكلي.
وقمت قبل السفر للخرطوم بالاتصال بالمعشبة بقسم النبات بكلية العلوم بجامعة الخرطوم، ورئيس الجمعية السودانية لأرشفة المعرفة The Sudanese Association for Archiving knowledge (لعله السيد إبراهيم  منعم منصور. المترجم) والذي دلتني عليه سيدة بريطانية كان والدها قد قابل أفراد ذلك الفريق العلمي في النهود (حيث كان مساعدا لمفتش المركز) في يناير من عام 1934م.  كذلك حصلت من بروفيسور أنور عثمان أستاذ علم الآثار ببيرقين بالنرويج على دعوة لزيارة دار الوثائق بالخرطوم (في دارها الجديدة التي افتتحت في 2006م). ومن عجب فقد عجزت عن التواصل المباشر مع تلك الدار بالخرطوم وأنا في لندن، فقمت بالاتصال ببيرقن وتم لي ما أرد بعد أن تواصل بروفيسور أنور (والذي كان قد شهد حفل افتتاح مبنى تلك الدار الجديد قبل أسابيع من تواصلي معه) مع مدير الدار علي صالح كرار.
الخرطوم 2007م
كان الإجهاد والتوتر الذي قاسيته قبل بدء تلك الرحلة عظيما. غير أن الرحلة بالطائرة كانت ممتعة جدا، خاصة عندما قربنا من الخرطوم، ورأيت الصحراء – لأول مرة في حياتي- من عل. وما أن هبطنا في الخرطوم وأخذتني سيارة أجرة لفندق الأكربول مع ثلاثة ضيوف آخرين حتى زال تماما ما كان بي من قلق وإجهاد. وكانت درجة الحرارة يومها 36 درجة مئوية، وذلك ما كان يناسبني تماما. وأحببت الخرطوم من النظرة الأولى، وأحببت فندقي الصغير والذي أولاني – كما يفعل مع كل ضيوفه - كل عناية واهتمام حتى قبل وصولي للخرطوم، وزودني بكل المعلومات الضرورية وما ينبغي علي فعله وما علي تجنبه.
وكنت أتجول في الخرطوم في كل مكان وأنا أحمل قارورة ماء في يدي اليمني وخريطة للمدينة في يدي اليسرى وأضع حقيبة صغيرة على كتفي. وكان المواطنون يرحبون بي ويمدون لي أيديهم مصافحين في ود حقيقي ظاهر حيثما ذهبت.  ولم تفتني ملاحظة أن "التواصل بالعين eye contact " عند السودانيين مختلف جدا عنما ألفته في بريطانيا (لعلها تقصد بصورة أكثر صراحة ممارسة التحديق / البَحْلَقَة في الآخرين! المترجم). لقد شعرت بالأمان وأنا أسير بمفردي في الخرطوم ليلا مثلما أشعر به وأنا أسير في أي مدينة صغيرة ببريطانيا نهارا.
 وبحثت في الخرطوم عن المنزل الذي أقام به داندي في عام 1934م، ودلني عليه رجل سوداني (هو أحمد عزيز مسئول العلاقات العامة بوزارة الزراعة) وأنا في زيارة غير مرتب لها سلفا لرئاسة تلك الوزارة.  أخذني الرجل بسيارته عبر شارع الجامعة غربا إلى المشتل في منطقة المقرن. ووجدت أن المنزل المقصود قد تم تغييره قبل نحو خمسين عاما، وأن الشتول التي غرسها خالي عام 1933م قد صارت الآن أشجارا ضخمة. وقمت - وأنا في غاية الانفعال العاطفي- بأخذ  عدد من الصور الفتوغرافية لذلك المنزل، وقام أحمد مشكورا بتصويري وأنا واقفة بقرب تلك الشجرة  التي غرسها قريبي قبل سبعين عاما، وذلك قبل أن يرجعني لمبنى الوزارة ويسرع بالذهاب من فوره لحضور اجتماع.  وحزنت جدا عندما سألت عن حديقة الحيوان وأخبرت أنها قد أزيلت من مكانها . لقد كان داندي قد التقط  صورا فتوغرافية كثيرة لحيوانات تلك الحديقة، كانت من ضمنها صورة بديعة لطائر اللقلق "أبو سعن".
وكان داندي قد زار أيضا "غابة السنط" والتي كان قد تقرر في 1939م أن تصبح ملاذا (حظيرة) للحيوانات البرية (خاصة الطيور). ووجدت تلك الغابة في 2007م وقد استحالت لسوق مفتوحة لباعة التحف الخشبية والأحواض والحمامات (sinks and baths) أيضا!
وكان داندي قد التقط عددا كبيرا من الصور الفتوغرافية من الخرطوم في عامي 1933 و1934م. وكانت واحدة من أغراض زيارتي للخرطوم هي التقاط   أكبر عدد من الصور لكل تلك الأماكن.  وبالفعل أفلحت في فعل كل ذلك في أيامي بالخرطوم (ما عدا تمثال كتشنر والذي كان موجودا في الميدان الواقع أمام وزارة المالية، والذي تم ترحيله لثكنات كتشنر في جيثام بمقاطعة كنت). ومنعتني الشرطة من تصوير المكان الذي كان يقف عليه ذلك التمثال. غير أني تمكنت من تصوير الجامع الكبير (القريب من فندقي) ومحطة السكة حديد ومدرسة كتشنر الطبية (كلية الطب الآن) ومعمل استاك للأبحاث في الجهة المقابلة لكلية الطب.
لقد كان شعورا غامرا بالعاطفة الجياشة أن أجوب ذات الشوارع التي سار عليها خالي قبل نيف وسبعين عاما.
وقمت بزيارة بيت الخليفة في أمدرمان في الثالث من مارس 2007م  ووجدته ذات البيت الذي قام بتصويره خالي داندي في الثامن أبريل 1934م، غير أن مبان كثيرة قامت حوله الآن، وأن الأشجار المحيطة به قد غدت أضخم حجما. وعوضا عن حارسين كانا يرتديان ثيابا تقليدية (كما في صورة عام 1934م) فقد وجدت في 2007م  ثلاثة من رجال شرطة السياحة يرتدون زيا غربيا أزرق اللون يجلسون بالقرب من سيارتهم حراسا على ذلك البيت.
لطالما رغبت في التقاط صورة لمبنى المتحف القومي على النيل وإهدائها إلى ولد وبنت أنتوني آركيل، والذي أنشأ أول متحف بالخرطوم في عام 1938م. وكان آركل قد خلف جي. دبليو. قرابام والذي تقاعد عن العمل في قسم الآثار وعمل بين عامي 1938 و1948م  على إنشاء متحف الخرطوم. وأقيم المتحف أولا في مبنى كلية غردون التذكارية قبل نقله المنطقة أخرى بالخرطوم. وكان ولد وبنت آركل قد بعثا لي بمذكرات والدتهما، والتي جاء فيها أنها وزوجها كانا قد  استضافتا ذات ليلة  داندي وسكيلبيك وموريسون في الفاشر حيث كان آركل يعمل بها  مفتشا للمركز.   
وزرت المعشبة في قسم النبات بكلية العلوم في جامعة الخرطوم، وتأملت في ما تختزنه تلك المعشبة من نباتات. وأخبرتني الدكتور مها الكردفاني مسئولة المعشبة بأنهم يفتقدون لأي سجلات تاريخية عن النباتات بين عامي 1929 و1937م، وأن كتابي سيسد فجوة كبيرة في ذلك الجانب. وعند عودتي لبريطانيا علمت أن طالبتين سودانيتين قد حصلتا على درجة الماجستير في علم تصنيف النباتات، وان إحداهما قد اكتشفت نوعا جديد لم يسبق لأحد تسجيل تصنيفه من قبل. وعلمت من زيارتي للجامعة أن هنالك كثيرا من الامتحانات تجرى باللغة الانجليزية، رغم أن الكثيرين لا يفهمونها أو يتحدثون بها بطلاقة، إذ أن لغتهم الأولى هي العربية.
وقمت ذات يوم بزيارة لرئيس الجمعية السودانية لأرشفة المعرفة ، السيد إبراهيم منعم منصور، وكان معه ابنه وجمع من الناس. واكتشفت من خلال الحديث معه أن والده، عبد السلام، كان هو الناظر القبلي الذي قابل داندي  في الفاشر في عام1934م . وكتب لي فيما بعد السيد إبراهيم منصور خطابا رقيقا جاء فيه "... إن للعمل الذي تقومين به  قيمة تاريخية وأخلاقية وعاطفية  عظيمة. إنه يحفظ للأجيال القادمة ما كان عليه الحال في تلك السنوات البعيدة في بلادنا. ...لك مني كل التقدير والاحترام... وارجو أن تستمر هذه المكاتبات بيننا".

لم يكن هنالك أي سواح  في فندق الأكربول عند نزولي به. غير أني قابلت في ذلك الفندق رجلا استراليا  اسمه ماكس رايلي، وتملكني العجب عندما أخبرني الرجل بأن أحد أعمامه كان قد قابل داندي وصحبه في فبراير من عام 1934م  وهم على ظهر باخرة نيلية  اسمها "الرجاف".  وتذكرت بالفعل أن قسيسا يحما اسم آرثر رايلي وزوجه كانا من ضمن من ورد ذكرهم في مذكرات  داندي عند إشارته لوفد الكنائس الذي كان يرافقهم في تلك الباخرة وهم في طريقهم لمؤتمر كنسي في جوبا كان سيعقد بين الخامس عشر والثامن عشر من فبراير، مع ثلة من القساوسة (وتأكدت من اسمائهم جميعا من مراجعة وقائع ذلك المؤتمر).  
وعلى ذكر تلك الباخرة، فقد كان على ظهرها أيضا دكتور باركر، وهو شيخ كبير من كمبريا بإنجلترا. وكان الرجل – بحسب ما قرأت في مذكرات داندي- قد دفع شلنا كاملا (خمسة قروش) لشراء حذاء باتا أبيض اللون عندما كان في الخرطوم. وبحثت في أيامي بالخرطوم عن محل باتا هذا، ولكني علمت أنه كان بشارع الجمهورية  ولكنه للأسف أغلق قبل سنوات قليلة.
وفي أثناء بحثي عن محل باتا صادفت مبنى السودان للأقطان. وطلبت مقابلة أحد المسئولين فيه، وأفلحت في الحصول على موعد مع المدير المالي للمؤسسة  في اليوم التالي. وعند مقابلتي للرجل، والتي امتدت لساعتين، أخذني في جولة بشارع البرلمان وأطلعني على عينات من نباتات القطن البرية وزهورها الصفراء اللون، وبذورها الصغيرة. وأراني كذلك أشجار النيم والمسكيت في ذات المنطقة. وكان داندي قد غرس شتول المسكيت  في منطقة بالخرطوم (اسمتها الكاتبة Khartoum Foot Fox Hounds المترجم) في أبريل من عام 1934م. ولا أدري موقع تلك المنطقة بالتحديد ولكن ربما تكون بالقرب من منطقة المقرن. وذكر لي مدير الأبحاث بمؤسسة القطن أنه سيحضر مؤتمرا  عالميا عن الأقطان بليفربول في أبريل من 2007م، واتفقنا على اللقاء هنالك.
وكنت قبل سفري للخرطوم قد أرسلت رسائل لمكتبة جامعة الخرطوم ولعدد من الكليات بالجامعة، غير أني لم أتلق من أي منهم ردا. وقمت بزيارة المكتبة في الخرطوم، غير أني دهشت من عدم قدرة أي ممن قابلتهم من الموظفين على التحدث باللغة الإنجليزية. وعلى الرغم من أني تعلمت قبل حضوري للخرطوم قليلا من العربية، إلا أنني كنت أدرك أنها كانت قليلة النفع عند الحديث مع موظفي تلك المكتبة.
سأعود
أكملت بحثي في الخرطوم، أو كدت. وتبقى لي أن أبحث عن ناشر مناسب لكتابي (الضخم، والذي يزن قرابة  الكيلوجرامين)، وكان همي أن يحافظ ذلك الناشر على النوعية الممتازة للصور الفتوغرافية التي التقطها داندي.
سأقوم من الآن فصاعدا بتعلم العربية (الدراجة السودانية)، وبعد نشر الكتاب سأبعث بنسخ منه للذين ساعدوني في أيام زيارتي للخرطوم. لقد كانت أيامي القليلة في الخرطوم عامرة بالإنتاج والسعادة والمتعة التي رفعت من روحي المعنوية .
لقد نشأت منذ مولدي في منطقة خضراء منبسطة وذات حدائق غناء...و هذا ما ألفته وأحببته طوال حياتي. والخرطوم مدينة حارة ومزدحمة وجرداء غبراء ومزعجة ومليئة بالحفر وركام النفايات. ورغم ذلك تعلق قلبي بها. قال لي أحدهم في الفندق: "إما أن تحبين الخرطوم أو تمقتينها ... لا توجد منطقة وسطى".
الحق يقال: ما يزال قلبي معلقا بالخرطوم. لا بد أن أعود لها يوما ما.
**********     *************
ملحوظة: بحسب ما علمت من موقع الكاتبة فإنها فشلت في العثور على ناشر لكتابها، فتولت أمر نشره وتوزيعه بنفسها. المترجم


alibadreldin@hotmail.com

 

آراء