إدارة الفريق عبود العسكرية للسودان وتطبيق برنامج أسلمة وتعريب جنوب السودان .. عرض: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 



إدارة الفريق عبود العسكرية للسودان (1958 – 1964م) وتطبيق برنامج أسلمة وتعريب جنوب السودان
General Abooud’s Military Administration in the Sudan (1958 – 1964): Implementation of the programs of Islamization and Arabization in Southern Sudan
Scopas S. Poggo سكوباس س. بوقوو
عرض: بدر الدين حامد الهاشمي
هذا عرض لبعض ما جاء في مقال طويل (من 35 صفحة) نشر في العدد التاسع من مجلة "دراسات شمال أفريقيا" والصادر في عام 2002م عن الحكم العسكري الأول وبرنامجه لأسلمة وتعريب الجنوب بحسب ما يراه كاتب المقال (سكوباس س. بوقوو) والذي يعمل أستاذا مشاركا في جامعة أوهايو الأميريكية. وقد نشر هذا المؤلف من قبل كتابا عن جنوب السودان بعنوان "أول حرب أهلية في السودان 1955 – 1972م).
أورد المؤلف في بداية مقدمته فذلكة تاريخية للعلاقات بين الشماليين والجنوبيين. وذكر بأنه، ولعقود طويلة، لم يلعب الدين دورا مهما في الصراعات بين الطرفين. غير أنه وبعد القرن الثالث عشر، وبعيد دخول العرب وبأعداد كبيرة للسودان وتزاوجهم مع السكان المحليين (النوبة) أتخذ الشماليون من الأسلمة والتعريب هدفا لهم لنشره في سائر مناطق السودان على اختلاف ديانتهم وأعراقهم. وقابلت القبائل الجنوبية (خاصة الدينكا والشلك) ذلك المسعى بمقاومة شديدة، وزادت طبوغرافية المنطقة من صعوبة الأمر. ولذا فشلت عمليتي التعريب والأسلمة، في الفترة بين نهاية القرن السابع عشر وحتى النصف الأول من القرن العشرين، في تخطي خط العرض 13. ولم يلق السكان الذين كانوا يعيشون في المناطق جنوب خط العرض 13 بالا للإسلام ولا للمسيحية، وظلوا على معتقداتهم التقليدية والتي كانوا يعدونها أسمى من كل دين يأتيهم من خارج ديارهم.
وأصدر بابا الفاتيكان في 3/4/1846م مرسوما أنشأ بموجبه إرسالية هدفها إدخال الزنوج الأفارقة في المسيحية، ومساعدة المسيحيين في السودان، ومنع تجارة الرقيق. ويعد الحكم التركي – المصري (1821 – 1885م) أكثر النظم التي حكمت السودان تسامحا مع الإرساليات المسيحية، بقبوله لعدد كبير من المبشرين الأوربيين في جنوب السودان.  وغدت الخرطوم منذ 1848م مركزا مهما لنشر البعثات التبشيرية الكاثوليكية في وسط أفريقيا. وأقيمت في وسط الخرطوم كنيسة كاثوليكية (ومدرسة) على أرض رجل تركي مسلم اسمه شريف حسن، كان متعاطفا مع البعثة التبشيرية، والتي مددت لاحقا نشاطها لأرض النوبة والجنوب.
وحاول الحكم المهدوي (1885 – 1897م) إدخال الإسلام عنوة في جنوب السودان، غير أن المقاومة المسلحة للقبائل الجنوبية أفسدت كل تلك المحاولات باعتبار الإسلام (مثله مثل المسيحية) دينا دخيلا على ثقافتهم.
أما الحكم البريطاني – المصري (1898 – 1956م) فقد أقر سياسية فصل الجنوب عن الشمال، وعدم نشر الإسلام في الجنوب، وترك الجنوبيين لقمة سائغة للبعثات التبشيرية المسيحية كي تنصرهم. وعند استقلال السودان في 1/1/ 1956م كان عدد المسلمين الجنوبيين قليلا جدا مقارنة بالمسيحيين. ولم تقم مساجد بالجنوب إلا في مدن قليلة جدا.  وظل الوضع على ذلك الحال حتى 17 نوفمبر 1958م حين قام الجيش بقيادة الفريق إبراهيم عبود باستلام السلطة. وكان عبود هو أول رئيس سوداني يقر وينفذ سياسة تعريب وأسلمة الجنوب بوسائل شتى شملت القوة العسكرية والاقناع واستخدام كل المصادر المالية والبشرية المتوفرة. وبدأت المظاهر الإسلامية من مساجد ومعاهد دينية ومدارس تدرس اللغة العربية في الظهور. ورغم تلك السياسة الحكومية فقد كان هنالك في جنوب السودان عند سقوط نظام عبود في 21 أكتوبر 1964م حوالي نصف مليون كاثوليكي في مقابل عدد قليل من المسلمين الجنوبيين، والمسيحيين من طوائف أخرى.
وسرد المؤلف في الجزء التالي من مقاله تاريخ قيام نظام الفريق إبراهيم عبود وتعطيله للدستور، وما أورده في بيانه الأول من ضرورة الحفاظ على السودان موحدا مهما بلغت التكلفة. وكان واضحا أن عبود قد أقر سياسة التعريب والأسلمة كرجل عسكري عربي ومسلم، وكان واضحا أنه يرغب في تطبيق تلك السياسة بصورة سلمية، ولكنه كان على استعداد أيضا لتطبيقها بالقوة العسكرية إن دعا الأمر. ولعله كان متأثرا بالجو العام الذي ساد في تلك الأيام. فقد صرح زعيم طائفة الختمية السيد علي الميرغني في عام 1957م بأن غاية مطمحه ومناه هو أن يرى الإسلام يعم كل جنوب السودان. وكان رئيس الوزراء عبد الله خليل قد قام في نفس العام بتأميم (سودنة) مدارس الإرساليات، وأنشأ مصلحة حكومية للشئون الدينية تحت إشرافه المباشر، وخصص لها مبلغ 173000 جنيه سوداني لنشر الإسلام في الجنوب وإنشاء المعاهد الإسلامية فيه. وواصل مدراء مديريات الجنوب في عهد عبود (خاصة علي بلدو في الاستوائية) في تنفيذ تلك السياسة بحماس شديد. وصار التلاميذ الذين لا يدخلون الخلوة ويتعلمون العربية أولا لا يجدون فرصا كبيرة في دخول المدارس في كثير من مدن الجنوب بغض النظر عن مستواهم الدراسي. وضرب المؤلف لذلك مثلا بطالب من فنجاك (في أعالي النيل) كان الأول على فصله في المدرسة الوسطى، ولكنه لم يقبل في مدرسة ملكال الثانوية لا لسبب سوى أنه لم يجلس لامتحان مادة الدين (الإسلامي).
وكرر المؤلف في أكثر من موضع اهتمام حكومة عبود بإقامة المساجد والخلاوي والمعاهد الإسلامية والمدارس الثانوية في جنوب السودان، واهتمامها الأشد بنشر اللغة العربية في كل مؤسساته التعليمية. ويرى الكاتب أن تعليم اللغة العربية كان يعد مقدمة منطقية لتعليم الطلاب مبادئ الإسلام ومن ثم اعتناقه. وأورد ما جاء في منشورة جنوبية هي "صوت جنوب السودان" الصادرة في عام 1964م (والتي كثيرا ما أستشهد بها المؤلف في مواضع أخرى) من أن مدراء المديريات الجنوبية أصدروا بيانا جاء فيه: "يجب أسلمة وتعريب الجنوب من أجل تحقيق وحدة سياسية في السودان، والوصول إلى الهدف النهائي: قطر واحد (هو السودان) ولغة واحدة (هي العربية) ودين واحد (هو الإسلام)". وكان ذلك الهدف يقتضي بالضرورة منع حرية الأديان، وسلب الحقوق اللغوية، وتقييد الحريات السياسية.
ولتنفيذ سياسة عبود لتعريب وأسلمة الجنوب تم فرض استخدام اللغة العربية، ليس فقط في المدارس، بل في مكاتب الحكومة أيضا. ومثل ذلك عقبة أخرى أمام تطلعات الجنوبيين (الذين لا يجيدون العربية) في المساواة في التوظيف بالحكومة (خاصة في وزارات سيادية مثل الخارجية والدفاع)، وعدوا تلك السياسة محض "عبودية سياسية".
وأنتقل المؤلف في جزء آخر من المقال للحديث عن القوانين واللوائح التي سنها نظام الفريق عبود لإنهاء عمل المبشرين الأجانب في الجنوب، وأورد خطابا من مدير الاستوائية علي بلدو بتاريخ 4/ 2/ 1959م لكل المبشرين في الاستوائية ينبأهم فيه بعدم عزم الحكومة السماح ببناء أي إرساليات جديدة في الجنوب. وأورد أيضا ما كتبه في 30/9/1959م دكتور كامل الباقر (مدير مصلحة الشئون الدينية وقتها) في صحيفة "الرأي العام" مشيدا بتأميم (سودنة) المدارس التبشيرية كخطوة مهمة في طريق "التوحيد الثقافي" للسودان، وواعدا بفتح المزيد من المعاهد الدينية بالجنوب حتى الوصول إلى الغاية المرجوة، ألا وهي الوحدة الثقافية الإسلامية. وأورد المؤلف أيضا نص خطاب آخر من علي بلدو بتاريخ 2/11/ 1959م لمفتشي شرق الاستوائية جاء فيه: "يجب علينا حماية المسلمين والوثنيين من الوقوع لقمة سائغة في يد المسيحيين. وهذه هي الطريقة الوحيدة لجعل كل فرد يختار الدين الذي يرغب في اعتناقه، وها حق مكفول في الدستور". وفي فبراير من عام 1960م أصدرت الحكومة قرارا بجعل يوم الجمعة عطلة أسبوعية في سائر البلاد، وإلغاء العطلة الأسبوعية في يوم الأحد في مديريات الجنوب. وكان لذلك القرار آثارا وأبعادا تعليمية وسياسية مهمة على الجنوبيين المسيحيين. فقد قام على إثره طلاب مدرسة رمبيك الثانوية بالإضراب احتجاجا على ذلك القرار. وتبعهم في ذلك طلاب مدرسة جوبا التجارية وبعض المدارس الوسطى (وذكر الكتاب أن واحدا أو أكثر من أولئك الطلاب غدوا فيما بعد ضباطا في الجيش). وتم اعتقال قادة إضراب مدرسة رمبيك ومحاكمتهم بعشر سنوات سجنا (خفضت فيما بعد لثلاث سنوات)، بينما سجن بقية الطلاب المضربين في المدارس الأخرى لمدد مختلفة. (لمزيد من المعلومات يمكن للقارئ الاطلاع على كتاب البروفيسور عبد اللطيف البوني المعنون "البعد الديني لقضية جنوب السودان" من إصدار مركز الدراسات الاستراتيجية عام 1996م، وعلى الجزء الرابع من "الوثائق الأمريكية عن عبود" بقلم محمد علي محمد صالح في الشبكة العنكبوتية).
وكانت لتلك الإضرابات والاحتجاجات وما تبعها من آثار أخرى في الاستوائية حين أصدر علي بلدو (والذي كان مصرا على أن المبشرين هم من حرضوا الطلاب على الإضراب) أمرا بمنع تجمهر أكثر من ثلاثة أشخاص في مكان مفتوح. وكان ذلك يعني منع تجمعات المسيحيين للصلوات في الميادين العامة.  وأكد ذلك التوجه الرسمي للدولة خطاب من وكيل وزارة الداخلية في خطاب له بتاريخ 27/7/1960م يشير إلى ضرورة مواصلة التضييق على البعثات التبشيرية واعتبار تلك السياسة أمرا سريا حتى لا تعلم به تلك البعثات. فقد كانت الحكومة ترغب في إنفاذ سياسة التعريب والأسلمة، إلا أنها كانت تخشى من الرأي العام العالمي، خاصة القوى المسيحية في العالم الغربي، ومن التغطية الإعلامية السالبة (والتشويهية من وجهة نظرها) التي قد تواجهها من الصحافة الغربية.  وفي أيام تلك الأزمة هرب بعض السياسيين (مثل جوزيف أدوهو) والقساوسة (مثل س. هور) ولجأوا لأوغندا. وفي العام التالي (1961م) أنشأ هؤلاء أول تنظيم سياسيي معارض للجنوبيين في الخارج.
وتناول المؤلف الحملة الإعلامية التي صاحبت وأعقبت عملية التعريب والأسلمة بالجنوب. وذكر أن الحكومة قامت أولا بتخيير كل رجال الإدارة الأهلية بالجنوب بين اعتناق الإسلام أو فقدان كل سلطاتهم التقليدية. ووافق كثير منهم على اعتناق الإسلام حفاظا على سلطاتهم ونفوذهم في أوساط مواطنيهم. وأرسلت إليهم الحكومة طائرات خاصة حملتهم إلى الخرطوم حيث وجدوا ترحيبا كبيرا واحتفالات ضخمة، وقامت الإذاعة السودانية بالإعلان عن أسماء كل رجال الإدارة الأهلية في الجنوب الذين اعتنقوا الإسلام. ولعل القصد من ذلك الإعلان الإذاعي هو بعث رسالة للمجتمع الدولي بجدية الحكومة في عمليتي التعريب والأسلمة، وبعث رسالة أخرى للجنوبيين بأن قادتهم الشعبيين قد دخلوا في دين الإسلام وأن عليهم أن يحذوا حذوهم. وطلبت الإدارة في الجنوب من التجار الشماليين العاملين في مختلف المناطق حمل المصاحف معهم حيثما ذهبوا ليروه لزبائنهم من الجنوبيين. وكان ذلك من أجل "العرض" فحسب، وليس من أجل عاطفة دينية حقيقية. وقد كان أحد المفتشين قد خاطب جمعا من الجنوبيين وقال لهم: "لسنا مهتمين بصلاتكم أو صيامكم. كل ما يهمنا هو أن تدخلوا الإسلام وأن تدعوا الآخرين من أهلكم لدخوله، وأن يقوموا بتغيير ديانة أبنائهم المسيحيين للإسلام. فالمسيحية دين غريب عليكم كان ينبغي أن يذهب مع رحيل المستعمر الأوربي".
ورغم كل ذلك فقد أكد المؤلف على أن حكومة عبود كانت "ترسم للعالم الخارجي صورة للسودان كبلد متحرر ومتسامح دينيا" إلا أنه كان برى أن أفعالها كانت تناقض تلك الصورة تمام التناقض. ففي نوفمبر من عام 1962م قامت الحكومة بطرد المبشرين الغربيين من جنوب السودان. وقاومت الحكومة السودانية عبر سفاراتها في العالم الغربي الحملة التي شنتها المنظمات المسيحية (وبابا الفاتيكان) ضدها. فأرسلت السفارة السودانية بواشنطن في 24/1/1963م خطابا إلى صحيفة "كاثوليك نيوز" بنيويورك رددت فيه ما تقول به الحكومة من محافظتها على الحريات الدينية (وغيرها) في البلاد، وعن احترامها للأديان (ومن بينها المسيحية).
وخلص المؤلف إلى أن الصراع بين البعثات التبشيرية الأجنبية وحكومة عبود العسكرية كان مبعثه الرغبة في السيطرة على شعب الجنوب، وفي تنصيره أو اسلمته. واستخدم الطرفان كل الموارد البشرية والمالية والسياسية وغيرها لجذب أفراد المجتمع الجنوبي له. وأكد على أن مصالح الطرفين كانتا على طرفي نقيض. فقد كانت حكومة عبود ترى أن إشاعة التعريب والأسلمة في أوساط الجنوبيين هي أقصر الطرق لتوحيد البلاد وتكامل طرفيه، بينما كان المبشرون برون أن تنصير الجنوبيين هو أنجع الوسائل لإشاعة التمدن في أوساطهم، وفي "إنقاذ أرواحهم".
وكانت حكومتي ما بعد الاستقلال (برئاسة إسماعيل الأزهري وعبد الله خليل) ترغبان في إشاعة التعريب والأسلمة بالجنوب، غير أنهما انشغلتا بتوطيد سلطتيهما وبناء مؤسسات الدولة. ولم يتم تنفيذ أي خطوات عملية للأسلمة والتعريب إلا في عهد الفريق عبود العسكري.
*************        *****************    **************
لا ريب أن المؤلف قد بذل جهدا أكاديميا كبيرا في تعضيد نظريته حول جزء مهم من تاريخ مشكلة الجنوب (رغم بعض التحفظات على بعض الانتقائية في الأمثلة التي ضربها للتدليل على ما يراه). وقام الكاتب في مقاله الشديد التفصيل بإيراد 82 مرجعا، غير أن بعضها كان قد كتب بأقلام المبشرين أو نشر في صحف الجنوبيين الغاضبين من حكومة السودان في ذلك التاريخ مما يجعل حياديتها ومصداقيتها الكاملة محل نظر. غير أن اعتماده أيضا على الوثائق الأصلية المتوفرة في مكتبة جامعة درام وغيرها هو مما يحمد له بلا شك. وكان يجدر بالمؤلف أن يسرد ويناقش أصول الصراع (السياسي والديني) بين الشمال والجنوب في العهود التي سبقت العهد التركي بسنين طويلة.
وبدا وكأن المؤلف يلقي باللوم كله على الحكومة العسكرية الأولى، ولكنه يمر سريعا على حقيقة أن حكومتي الأزهري وعبد الله خليل (الديمقراطيتين) هما من بذرتا عمليتي الأسلمة والتعريب في الجنوب. وربما كان من الممكن أن تواصل الحكومة الديمقراطية في ذات المنحى الذي نحته حكومة عبود العسكرية لاحقا لولا قيام الانقلاب العسكري الأول بالبلاد.
ولم يأت الكاتب في مقاله المفصل على أي ذكر لمواقف الأحزاب السودانية الشمالية المعارضة لحكم الفريق عبود في قضية الأسلمة والتعريب. وتلك الأحزاب كانت – كما هي الان – مختلفة الأيديولوجيات والاتجاهات، فبعضها ذو اتجاه إسلامي، وبعضها طائفي، وبعضها الآخر علماني التوجه.
وأخيرا، لا شك – في رأيي – أن المقال يسلط الضوء على بعض جذور المشكلة بين الشمال والجنوب، والتي أختار لها شعب الجنوب الحل الحاسم – في نظرهم-  وهو الانفصال التام في فبراير 2011م. غير أن ذلك لم يأت بالنتائج المرجوة كما هو واضح الآن ... ولكن تلك قصة أخرى.        

        
alibadreldin@hotmail.com
////////////

 

آراء