عدم المساواة والديمقراطية بالسودان عبر التاريخ

 


 

 



Inequality and Democracy in Sudanese History
وليام واي. آدمز  William Y. Adams

مقدمة: هذه ترجمة لبعض ما جاء في مقال طويل لوليام آدمز (1927م - ؟) بروفيسور الأنثروبولوجي (غير المتفرغ) بجامعة كنتاكي الأميركية نشر في عام 1994م بالعدد الأول من "مجلة "دراسات شمال شرق أفريقيا"  Journal of Northeast African Studies. ويبدو أن هذا المقال مأخوذ من نص محاضرة عامة.
والكاتب خبير في علمي الآثار والأنثروبولوجي، ومن أشهر من عملوا في منطقة النوبة بشمال السودان منذ عام 1959م في حملة لإنقاذ الآثار هنالك، وذلك بتكليف من اليونسكو، ونشر عن تلك المنطقة كتابا في عام 1977م عنوانه Nubia: Corridor to Africa.. وظل الرجل رئيسا فخريا للجمعية السودانية لعلم الآثار منذ عام 1997م وحتى الآن.
المترجم
***********      ***********      ***********
يصعب الحديث عن "الديمقراطية" في السودان – ليس لأسباب تاريخية أو سياسية، بل لأسباب معرفية (أبستمولوجية). ماذا نعني بالديمقراطية؟ لعل الكلمة هي أكثر الكلمات التباسا وزلقا في اللغة الإنجليزية أو اللغات الأخرى.  وليس هنالك من قطر في العالم الآن (سواء أن كان مسيحيا أو شيوعيا أو إسلاميا) لا يزعم أنه "ديمقراطي". ويفسر ويعرف كل حزب سياسي أو جماعة، من أقصى اليمين لأقصى اليسار، الديمقراطية بما يتماشى ويخدم مصالحها الذاتية. وعندما يتحدث الساسة الليبراليون عن الديمقراطية فإنهم يعنون في الغالب العدالة الاجتماعية أو عدالة توزيع الفرص، وهي شيء – كما علمنا- غير قابل للتحقيق بدون تدخل كثيف من الحكومة بوسائل مثل فرض "التمييز الإيجابي"  أو برامج مكافحة التمييز.  أما عندما يتحدث المحافظون عن الديمقراطية فإنهم يعنون حرية الفرد من قيود الحكومة، ويشمل ذلك حرية المخدم في تعيين (أو عدم تعيين) من يرغبون فيه/ فيها.  ومهما يكن من أمر، فتفسير كل فريق من هؤلاء هو تفسير منطقي وشرعي كذلك.
ولتفادي الخلط بين الخطابة/ البلاغة وبين الايديلوجية يجب على المرء أن يوضح ما يقصده بكلمة "الديمقراطية". ومع تطور مفهوم الديمقراطية في العالم الغربي عبر القرون الثلاثة الماضية، غدت الديمقراطية تعبر عن ثمانية تطلعات ومثل عليا:
أولا، حق تقرير المصير: حيث يحق لكل قومية أو شعب أو قبيلة حكم نفسها بنفسها.
ثانيا، مشاركة المواطنين: حيث يحق لكل مواطن في وسط قوميته أو شعبه أو قبيلته أن يسمع صوته عند اتخاذ القرارات الجماعية، ويشمل ذلك اختيار قياداته.
ثالثا، حكم الأغلبية: وهي مفهوم أن القرارات التي يتخذها 51% أو أكثر من المواطنين (أو ممثليهم) ملزمة لكل أفراد الأمة، بغض النظر عن رأي الأفراد فيها، وبغض النظر عن قبولهم أو رفضهم لها.
رابعا، سيادة حكم القانون: وهي أن يحتكم المواطنون للقوانين التي صاغها ممثلوهم (الشرعيون)، وليس للقوانين الاستبدادية أو المراسيم الإضافية.
خامسا، المساواة / التكافؤ في الفرص: وهي حق كل مواطن بالغ في الحصول على كل الموارد والفرص والثروة والسلطة بغض النظر عن أصله وظروف نشأته.
سادسا، الفصل بين الدين (في الأصل الكنيسة) والدولة، ويترافق ذلك مع حرية الأديان والتعبد.
سابعا، الحرية الشخصية: وتعني حرية المواطن في التعبير عن رأيه الخاص، وممارسة شعائر دينه، وأن يحكم بما يراه في / على كل المواقف دون فرض أو إكراه من الحكومة.
وأخيرا، وهو يخص واحدا من أهم الغايات والمثل العليا وهو أن تظل الأمة – والعالم أجمع - في حالة سلام، يحافظ عليه بموافقة ورضاء كل الشعب، وليس بالقوة المسلحة.
وكما يبدو، فإن جميع النقاط السالفة الذكر تتسق مع بعضها، وليس عليها من خلاف. وهنا تظهر المعضلة التي واجهت كل الشعوب والأنظمة التي تطمح كي تكون "ديمقراطية" منذ فجر التاريخ.
وبنظرة على ما قبل التاريخ وعلى التاريخ السوداني نلحظ أن واحدا أو أكثر من النقاط الثمانية المذكورة أعلاه قد توفر بالسودان عبر كل العصور، غير أنها لم تتوفر أبدا في مزيج كاف يسمح بإطلاق كلمة "ديمقراطية" على أي من الدول أو الحكومات التي مرت على السودان عبر العصور.
ولعل أكثر العصور التي مرت على السودان ديمقراطية كانت هي العصر الحجري، أي قبل الحضارة الفرعونية. ولا نعرف بطريق مباشر الكثير عن ذلك العصر، غير أنه يمكننا استنتاج الكثير من معلوماتنا العامة عن طبيعة المجتمعات القبلية. فتلك المجتمعات تتميز بحكمها حكما ذاتيا، وفيها قدر كبير من مشاركة المواطنين، وتتخذ فيها القرارات الكبرى بواسطة مجلس من الشيوخ أو زعماء القبيلة، أو بكل أفراد القبيلة أحيانا. وكان رأي الأغلبية هو الذي يسود دوما. ومن القواعد المرعية في كثير من تلك المجتمعات القبلية أن القرارات لا تصبح نافذة إلا بعد أن يوافق عليها الجميع. وهنالك في هذه المجتمعات مبدأ تكافؤ الفرص (ربما باستثناء فيما بين الجنسين) إذ أنه ليس هنالك طبقة وارثة ذات امتياز خاص، وليست هنالك عبودية في تلك المجتمعات عادة. ولكن من ناحية أخرى، لم يكن حكم القانون سائدا في المجتمعات القبلية إلا قليلا (خاصة في الأمور الدينية). أما الجرائم مثل القتل والاغتصاب والسرقة فقد كانت تحل عن طريق المفاوضات (أو الانتقام) بين الأطراف ذات العلاقة. ومن المهم تذكر أنه، وبعكس ما هو شائع، فإن الحرية الشخصية محدودة جدا في المجتمعات القبلية، ليس بسبب أي قسر أو إكراه من الحكومة، بل بسبب قيود القرابة والتزامات الطقوس القبلية. وفي كل عصر كان هنالك كثير من الرجال العظماء الذين كانوا يرحبون بمقدم الحضارة، أو حتى الأنظمة الاستعمارية، ربما لأنهم تحرروا من طغيان القرابة. ووجد كثير من علماء الأنثروبولوجي السياسية أيضا أن أبناء القبائل كانوا عادة من المرحبين بفرض القوانين واللوائح الغربية، والتي كثيرا ما عجلت بتسوية كثير من العداوات والنزاعات والتي كان من الممكن أن تتواصل لأجيال بعد أجيال في المجتمعات التقليدية.
وعند ظهور حضارة كرمة العظمى في الألفية الثانية قبل الميلاد كان السودان قد سار في طريق الأوتوقراطية الفرعونية. ودفن حكام كرمة في مدافن ترابية ضخمة مع مئات من الخدم والحيوانات وكم هائل من المقتنيات الثمينة. وبذا كان حكام كرمة لا يختلفون في شيء عن حكام مصر في الاستبداد، بل كانوا في الواقع يعرفون مثلهم بالفراعنة، وكان ما ينطقون به من كلمات يمثل القانون المرعي. كذلك تعد مقابر كرمة دليلا على وجود طبقة مميزة هي طبقة "النبلاء". وكان مجتمع كرمة مجتمعا مولعا بالحرب. وبذا يمكننا القول بأن تلك الفترة في تاريخ السودان لم يكن بها من صفات الديمقراطية سوى الحكم الذاتي.
ثم جاء الغزو المصري للسودان في 1580 قبل الميلاد وإنشاء مستعمرة على أرضه حكمت لمدة خمسمائة سنة. وكان ذلك النظام نظاما استعماريا لا يختلف عن الاستعماري الأوربي الذي حكم أفريقيا بعد 3000 سنة من ذلك التاريخ. وأقام المستعمر المصري في السودان مجتمعا من طبقتين فقط: الطبقة الحاكمة، وبقية السكان، وأقام في مصر (والسودان أيضا) بيروقراطية لم ينج منها أحد من السكان. ولم يكن ذلك الحكم المصري للسودان عنصريا بحال، فقد أتاح لبعض السودانيين تولي مناصب قيادية في الإدارة الاستعمارية. ويمكن القول بأن ذلك النظام الاستعماري المصري أتاح، وللغرابة، عدالة في توزيع الفرص للذين تقع أعين الفرعون عليهم!
وفي حوالي عام 1000قبل الميلاد رحل المستعمر المصري وحل محله حكام سودانيون في نبتة. ولم يكن نهجهم في الحكم يختلف كثيرا عن نهج أسلافهم.  ولم يكن يميز فترة حكم "كوش" من الحكم المصري السابق غير أنه كان حكما ذاتيا. وأنتقل الحكم بعد عقود من نبتة إلى مروي، وهنالك ظهرت طبقة وطنية (وراثية) من النبلاء يقع ترتيبها بين طبقة الحكام وطبقة عوام الناس. ثم ظهرت من بعد ذلك طبقة رابعة في مجتمع مروي هي طبقة العبيد.
وبعد سقوط دولة كوش أتت في حوالي عام 400م، ولفترة قصيرة، مملكة بالانا في شمال السودان. وليس هنالك من وثائق مكتوبة عن تلك المملكة سوى أنها كانت مشابهة في سائر تقاليدها لدولة كوش. وبحسب ما عثر عليه العلماء من مقابر بالغة الفخامة والثراء في بالانا وقسطول فقد عدوا تلك الدولة دولة أوتوقراطية.
ومع ظهور الممالك النوبية المسيحية في القرن السادس الميلادي خطا السودان نحو الديمقراطية. فتخلصت البلاد من الملكية الإلهية، فلم يزعم ملوك النوبا المسيحيين لأنفسهم أي صفة إلهية، ولم يخلفوا بعد موتهم أي مقابر ضخمة أو تماثيل تمجدهم. وقاموا أيضا بفصل الكنسية عن الدولة، ولم تعد ممارسة الشعائر الدينية مرتبطة بالمواطنة. وكانت في تلك الدولة حرية شخصية واسعة شملت النساء أيضا. وهنالك من الدلائل المتنوعة ما يشير بسماح الحكام للنوبيين في العصور الوسطى بالتحول عن دينهم ودخول الإسلام دون أي نوع من العقاب. كذلك أدخلت الدولة في ذلك العصر حكم القانون، وحافظت على السلام مع جيرانها لفترة زادت عن ستمائة عام بعقدها لاتفاقية البقط. وبذا فقد كانت تلك الفترة في تاريخ السودان تفوق ما قبلها في مجال الديمقراطية.
وتغير المشهد في نهايات تلك العصور الوسيطة عندما استولى المماليك على الحكم في مصر، وألغوا عمليا معاهدة البقط، وسيروا الحملات العسكرية على السودان.  وحمل ذلك حكام السودان وسكانه على التحول إلى المزاج الحربي، فزادت أهمية الارستقراطية العسكرية على حساب الملوك (وهو ذات ما حدث في بدايات سنوات القرون الوسطى بأوروبا)، فبنيت القلاع الحربية في كثير من مناطق شمال السودان.
وفي نهايات سنوات القرون الوسطة تدفق على السودان المماليك والعرب الرحل. وأنشأ العرب دولتين مختلفتين في شمال السودان، واحدة على ضفاف النيل، والأخرى في المناطق النائية. واستولى العرب على القلاع الحربية المنشأة على ضفاف النيل وأقاموا عليها دويلات مستقلة صغيرة على رأس كل منها مك، وتحول أهلها للإسلام وتزوجوا بنساء مسلمات. أما في المناطق البعيدة عن النيل فقد أنشأ العرب حكومة قبلية استمرت عقودا طويلة.
ورغم عدم توفر وثائق كافية فإنه يبدو أنه كان هنالك نوعا من "الديمقراطية الفوضوية" في السودان عقب سقوط مملكته المسيحية. فقد كانت هنالك حرية أديان (رغم قطع العلاقة بين الكنيسة في السودان بالكنيسة المصرية الأم). ولم يقدم علماء وفقهاء الإسلام للمنطقة إلا بعد نحو قرنين من ذلك التاريخ. وحافظت القبائل العربية التي دخلت البلاد على تقاليد الجزيرة العربية، وقوانين الإسلام بقدر فهمهم لها. وكان من رجال تلك القبائل العربية بعض العناصر المميزة، والعناصر الأخرى ممن هم أقل شأنا منهم. وكان هنالك أيضا في أوساط رجال القبائل وفي المناطق النيلية بعض الرقيق.
واشتعلت الحروب بين الدويلات الصغيرة في البلاد، وأدت تلك الأحوال الفوضوية إلى انتصار ملوك الفونج على القبائل العربية وعلى الممالك الصغيرة  القائمة على ضفاف النيل، وأقامت ولسنوات قليلة فقط إمبراطورية / سلطنة سودانية (متحالفة). بيد أن تلك السلطنة لم تصمد طويلا بعد غزو إسماعيل باشا للسودان في 1820م وإكمال اعادة الاستعمار المصري عليه بحلول عام 1822م، وإنهاء نحو 3000 سنة من الحكم الذاتي بالسودان. وكان الحكم التركي – المصري للسودان حكما استبداديا خالصا، لم يتح الفرصة لأي مشاركة للسودانيين في اتخاذ القرارات المهمة.  ولكن من جانب آخر نجد أن لم تكن هنالك أي طبقة عرقية مميزة معينة في ذلك النظام، فقد أتي حكامه من أقطار مختلفة، وكان بعضهم سودانيا. وكان من حسنات ذلك النظام أنه أقام حكم القانون بإنشائه لمحاكم شرعية في البلاد، وأتاح فرصا عديدة للكل في مجالات التجارة، والتي غدت حرة من السيطرة الحكومية بعد عام 1850م.
وأبقى الاستعمار البريطاني – المصري (1898 – 1956م) على كثير من ملامح ومؤسسات دولة الاستعمار التركي – المصري، غير أنه كان أكثر ديمقراطية منه في جانب واحد، وأقل ديمقراطية منه في جانب آخر. فقد كان أقل ديمقراطية في أنه احتكر كل الوظائف العليا بالبلاد في يد البريطانيين، والذين تباعدوا عن السودانيين وكونوا "صفوة عرقية" حاكمة. غير أن الاستعمار البريطاني - المصري كان أكثر ديمقراطية من الاستعمار التركي – المصري في تأسيسه  لنظام قانوني متكامل في سائر أنحاء البلاد أساسه المساواة بين الجميع أمام القانون.
إن السؤال الذي يواجه السودان اليوم ليس عن إمكانية تطبيق الديمقراطية (نظريا) في البلاد، ولكنه عن نوع ومقدار الديمقراطية الذي يمكن تطبيقه فيها. لا شك أن حق تقرير المصير سيبقى من أهم مطلوبات وغايات الديمقراطية، غير أن قواعد الديمقراطية السبع الباقية (التي ذكرت في مقدمة هذا المقال) ما زالت تنتظر التحقيق أو التفاوض حولها.  ونسبة للتفاوت (والتناقض الداخلي) بين تلك القواعد، فينبغي ترتيب تلك القواعد بحسب أولويتها للبلاد.
أيهما أهم: حكم الأغلبية أم عدالة / تكافؤ الفرص بين المواطنين (والتي قد ينتقص منها حكم الأغلبية). وأيهما يأتي أولا: سيادة حكم القانون أم الحرية الشخصية (والتي قد يقيدها أحيانا القانون). أتأتي الواجبات المدينة أولا أم الحقوق المدنية؟ أما الاختيار الأهم في السودان الآن هو بين الديمقراطية العلمانية والديمقراطية الإسلامية. وهنالك مصاعب جلية في النوعين. فليس للديمقراطية العلمانية من سابقة تاريخية أو تقليدية في السودان، وهي توجد صعوبة في جعل الناس يؤمنون بها. وواضح أن الأنظمة الديمقراطية التي مرت على البلاد قد فشلت في فعل ذلك. وفي المقابل، فإن الديمقراطية الإسلامية لها جذور تراثية تليدة، إلا أن النظام الإسلامي يجب عليه إبراز المزيد من التسامح مع النساء، ومع المواطنين من غير المسلمين. ويبدو لي أن مزيجا مكونا من الديمقراطية العلمانية والديمقراطية الإسلامية قد يكون هو الحل الأمثل. غير أن المفاوضات المطلوبة للوصول إلى مثل ذلك الحل يمثل في حد ذاته معضلة كبيرة.
غير أن المشكلة الحقيقة ليست هي في إقامة الديمقراطية، بل في كيفية جعلها تعمل. لقد أثبتت تجربتي 1956م و1964م أنه من السهولة أن تكون مؤسسات ديمقراطية، غير أن المعضلة الحقيقية هي في الإبقاء عليها تعمل.
إن أهم الأخطاء الأساس التي يقع فيها الفكر السياسي الغربي (والتي ظل يكررها مرات ومرات خلال القرنين الماضيين) هي افتراض أن الديمقراطية متأصلة القوة لأنها "خيرة"، أو لأنها تمثل خير ما انتجته البشرية في مجال التطور السياسي. وقد ساد مثل ذلك التفكير التقدموي progressivist وانتشر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وأنشأت على أساس ذلك التفكير دول أمريكا الاسبانية التي استقلت عن اسبانيا بين عامي 1820 و 1823م. غير أن قلة قليلة من تلك الدول بقيت لأكثر من عقد واحد من الزمان. وتكرر ذات الشيء في أفريقيا في الخمسينيات والستينيات مثلما حدث أيضا في دول أمريكا اللاتينية.
يجب إدراك أن الديمقراطية لا تكون قوية بطبيعتها إلا إذا آمن بها المواطنون ووثقوا فيها بثقتهم في حكامهم وفي تطبيقهم للديمقراطية، وباحترامهم وطاعتهم لقوانين البلاد والمشاركة في العملية الديمقراطية ومؤسساتها. ولكن إن أخفى الناس السلع، أو بعثوا بأموالهم للخارج بسبب عدم ثقتهم في عملتهم المحلية، وإن انغمسوا في عمليات التهريب أو السوق الأسود بسبب عدم ثقتهم في الاقتصاد الرسمي (الشرعي)، أو أرسلوا أبنائهم وبناتهم للمدارس الخاصة أو المدارس خارج البلاد لأنهم لا يثقون في مؤسساتهم التعليمية، وإن لجأوا لتسليح أنفسهم أو أخذ القانون في أيديهم لعدم ثقتهم في وسائل الدولة في إنفاذ القوانين، وإن حاولوا بكل الطرق تحاشي الخدمة العسكرية بسبب عدم الالتزام بالوطنية، فإن الديمقراطية ستفشل. وهذا هو التحدي الذي يواجه السودانيون الآن.
وأعتقد أن العائق الأكبر، ليس أمام قيام الديمقراطية ولكن أمام الحفاظ عليها، كان دوما هو تقليد الرعاية patronage القديم. فلقد كانت الحكومات التي مرت على السودان منذ الفراعنة مرورا بالحكم البريطاني – المصري عبارة عن شبكة ضخمة من "الرعاية"، والتي تمثلت في نظام الحزب الواحد والذي تصب منه السلطة من الأعلى إلى أسفل. ويعتمد مثل هذا النظام على قاعدة الولاء للأشخاص أكثر من القيم العليا أو المؤسسات، وفي مثل هذا النظام ليست هنالك مكان لمعارضة موالية / مخلصة. وعلى العكس من ذلك فالمعارضة هي بطبيعتها غير موالية. وانتشرت مثل تلك العقلية (المبنية على تراث تليد) منذ القدم وحتى الآن في السودان، ولا يمكن للديمقراطية أن تحيا  – في نظري-  دون التغلب عليها.  
 
      
        alibadreldin@hotmail.com

 

آراء