الضباط الأحرار والرفاق: الحزب الشيوعي السوداني ونميري وجها لوجه (1) .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 


الضباط الأحرار والرفاق: الحزب الشيوعي السوداني ونميري وجها لوجه 1969 – 1971م (1)
The Free Officers and the Comrades: The Sudanese Communist Party and Nimeri Face to Face 1969 – 1971 (1)
ألان غريش   Alain Gresh
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذا هو الجزء الأول من ترجمة لبعض ما جاء في مقال للصحفي الفرنسي ألان غريش (1948م -) عن المواجهة التاريخية بين نميري والحزب الشيوعي بين عامي 1969 و1971م تم نشره بالعدد الحادي والعشرين من المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط والصادر في عام 1989م.
وكاتب المقال، بحسب ما ورد في موسوعة الويكيبيديا وموقع "لوموند السياسية" هو ابن الشيوعي المصري الأشهر هنري كورييل (مؤسس الحركة المصرية للتحرر الوطني)، والذي طرد من مصر عام 1950م وقتل غِيلةً بباريس في 1978م. ولد الكاتب بمصر وأرتحل لباريس ليدرس الرياضيات واللغة العربية، وأنجز دبلوما في اللغة العربية، وقدم رسالته لنيل درجة الماجستير في الرياضيات، ودرجة الدكتوراه عن منظمة التحرير الفلسطينية. ونشر الرجل، منفردا وبالاشتراك، عددا كبيرا من الكتب والمقالات عن الإسلام والعرب والشرق الأوسط.    
المترجم
***********      ***********      ***********
يعد السودان (أكبر أقطار أفريقيا) أولا وقبل كل شيء جزءاً من العالم العربي الأكثر حساسية للمتغيرات السياسية التي عصفت بالعرب من المحيط الأطلسي إلى الخليج. وأصيب السودان، كبقية دول الجامعة العربية، بصدمة عنيفة عقب هزيمة 1967م. وتأثر السودان مثله مثل ليبيا وسوريا والعراق ولبنان بتلك الموجة العارمة التي أعقبت تلك الهزيمة. ففي 25 مايو 1969م استولى العسكر على السلطة في البلاد، وكانت أيديلوجية قادة الانقلاب هي ايديلوجية قومية عربية ملونة بـ "اشتراكية" قاعدتها الشعبية هي الجيش والطبقات الحضرية، ومثلها الأعلى هو التجربة المصرية.
وكان الشيوعيون العرب في الستينيات، ووفقا لما قرره المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي، قد تحالفوا مع "القوميين العرب" وقدموهم كقادة لهم. ومضى الحزب الشيوعي المصري في ذلك الطريق لأبعد مدى فحل نفسه تماما و ِنضَمَّ للاتحاد الاشتراكي العربي الذي أنشأه عبد الناصر. وقامت الأحزاب الشيوعية الأخرى في بلدان أخرى (مثل سوريا) بدور الوصيف للقوميين العرب، ورضيت بقدر ضئيل من السلطة، واكتفت ببعض الإصلاحات الاقتصادية الرسمية، والتي شملت التأميم الكاسح، والإصلاحات الزراعية المحدودة، والتعاون اللصيق مع الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية الأخرى.
غير أن الوضع في السودان كان مختلفا جدا بسبب وجود حركة عمالية قوية وحزب شيوعي به ظل قائما منذ سنوات طويلة. ولم تظهر فرادة ذلك الحزب (وسط الأحزاب الشيوعية الأخرى) في محتوى الإصلاحات التي أدخلها النظام العسكري الجديد، فقد تطابقت تلك الاصلاحات، ومنذ 1969م وما بعد ذلك، مع الإصلاحات الناصرية في مصر والبعثيين في العراق وسوريا. وعارض الحزب الشيوعي السوداني تلك الإجراءات خلافا لما فعلته الأحزاب الشيوعية العربية والحزب الشيوعي السوفيتي بناء على المقدمات والقواعد الأصلية لمفهوم الثورة. وظل هنالك سؤال أساس وجوهري خلف كل النقاشات والصراعات التي دارت حول محتوى وشكل التغيرات الاقتصادية والاجتماعية في السودان ألا وهو: من يقود عملية التغيير من بين كل القوى السياسية والاجتماعية بالسودان؟
وأثارت الحركة العمالية والحزب الشيوعي السوداني ذلك السؤال الجوهري عن القيادة، ولأول مرة في الشرق الأوسط بادعائهما الحق (والقدرة) على لعب ذلك الدور القيادي لقوى التغيير. غير أن تلك الثقة بالنفس عند الحزب الشيوعي السوداني وقائده عبد الخالق محجوب أدت لعدد كبير من حالات سوء الفهم في أوساط الحزب نفسه والذي أنشطر عديد المرات عقب صراعات وحوارات داخلية في أوساط الحركة الشيوعية، خاصة في الاتحاد السوفيتي.  ويقدم تاريخ السودان السياسي في الشهور الستة وعشرين التي أعقبت مايو 1969م (والذي أختتم بنهاية تراجيدية عقب الانقلاب اليساري المتطرف في يوليو 1971م) نفاذ بصيرة عميقة في العناصر المهمة في استراتيجيات الشيوعيين في الشرق الأوسط، والاتحاد السوفيتي كذلك.
وقع في فجر 25 مايو 1969م انقلاب عسكري (أبيض) قاده "الضباط الأحرار" أنهى التجربة الديمقراطية الثانية التي أعقبت ثورة 21 أكتوبر 1964م، والتي كانت قد أسقطت الحكومة العسكرية الأولى بقيادة إبراهيم عبود.  ولعل مما ساعد على انقلاب مايو كثرة الخلافات الحزبية بين مؤيدي المهدية والختمية، والتدهور الاقتصادي المستمر، والقمع العسكري بجنوب البلاد، والممارسات غير الديمقراطية مثل حل الحزب الشيوعي.
وأعلن جعفر نميري عن تكوين مجلس لقيادة الثورة برئاسته مكونا من تسعة ضباط ومدني واحد (هو بابكر عوض الله) والذي تقلد منصب رئيس الوزراء. وأفصحت بيانات الانقلاب الأولى وقرارته الباكرة عن طبيعة ذلك النظام الراديكالية، إذ أنه أعلن عن أن السلطة ستكون بيد العمال والمزارعين والجنود والمثقفين والرأسمالية الوطنية غير المرتبطة بالاستعمار. ودعا أيضا لتوسيع وتقوية العلاقات التجارية والاقتصادية مع الدول الاشتراكية والعربية، والانعتاق من السوق الاستعماري، وتوسيع قاعدة القطاع العام، خاصة في الصناعة ليحل محل رأس المال الأجنبي. وأكدت الحكومة معاداتها لإسرائيل والصهيونية وتأييدها الكامل للفلسطينيين وللمقاومة.
ويتضح مما سبق أن ثورة مايو قد قامت نتيجة مباشرة للصراعات الداخلية والأوضاع السياسية والاجتماعية والعسكرية في البلاد، غير أنها كانت قد قامت أيضا ضمن إطار عربي أوسع كان مثله الأعلى جمال عبد الناصر، كان في خاطره دوما هزيمة 1967م والتي هزت استقرار العالم العربي بأسره.
 لقد كان الضباط الأحرار من قادة ثور مايو من نفس قالب الضباط الذين قاموا بانقلاب العراق في يوليو 1968م، وانقلاب في الفاتح من سبتمبر 1969م، وانقلاب حزب البعث (التصحيحي) في سوريا بقيادة حافظ الأسد في نوفمبر من عام 1970م. وتعكس كل تلك الأمثلة نفس الأدوار التي قام بها العسكريون، ونفس الايديلوجية، وذات الخطب المعادية للإمبريالية، ونفس الدعوات لإزالة "آثار العدوان الإسرائيلي". وبعد مرور عشرين عام بقيت كل تلك الأنظمة التي ذكرناها عدا نظام نميري، والذي سقط، وإلى حد ما، بسبب عدائه للحزب الشيوعي السوداني.
لقد كانت قوة الحزب الشيوعي السوداني عاملا حاسما في الوضع الذي أعقب 25 مايو. وقد يقول قائل: "وكيف لواحد من أكثر الأقطار العربية تخلفا أن يكون فيه واحدا من أقوى الأحزاب الشيوعية في العالم العربي، والتي صار لهل نصيب من السلطة؟"
لقد نشأ الحزب الشيوعي في ذات السنوات التي قامت فيها الأحزاب الوطنية (أي بين 1940 – 1945م). لذا فلم يكن لتلك الأحزاب (الطائفية) الحق في ادعاء "أقدمية" أو "شرعية" أكثر من تلك التي كانت لدي الحزب الشيوعي، كما كان الحال في بعض دول العالم الثالث الأخرى مثل مصر والهند. ولعبت القيادة المتميزة لذلك الحزب من رجال مثل عبد الخالق والشفيع ونقد أدوارا مهمة في جذب كثير من المتعلمين والمثقفين للحزب الشيوعي من الذين لم يكن يستهويهم الانضمام لأحزاب طائفية.  لذا ظفر الحزب الشيوعي في انتخابات الجمعية التأسيسية بأحد عشر مقعدا (من جملة خمسة عشر مقعدا مخصصة للخريجين). وكانت هنالك علاقة تكافلية symbiotic بين الحزب الشيوعي والحركة العمالية ومزارعي الجزيرة والطلاب والخريجين من قوى الحداثة. ويعتقد البروفيسور ج. واربيرج أن تلك الجماعات المؤيدة للحزب الشيوعي لم تكن تشكل إلا نسبة قليلة نسبيا (أقل من 10 في المائة) من سكان السودان، أما بقية السكان فهم من أتباع الطائفتين التقليديتين. غير أن ذلك في رأيي ليس دقيقا تماما، فقد كان نفوذ الحزب الشيوعي في أوساط قطاعات المجتمع العصرية (مثل الجيش المثقفين) كبيرا. والمجتمع السوداني، على أية حال، هو مجتمع لم يتحضر إلا قليلا، ويعيش مكتفيا ذاتيا، وسلطته السياسية تتركز في الخرطوم. ولعب ذلك الحزب دورا مهما وحاسما فيه، يشابه ما حدث في الثورة الروسية عام 1917م. ومما أفاد الحزب الشيوعي أيضا أنه ولد من رحم الحركة الشيوعية المصرية التي ناضلت من أجل نيل الاستقلال الوطني، ولم يولد من رحم حزب شيوعي في قطر استعماري.  لقد كان حزبا وطنيا وكان كادره ونشطائه يختلفون عن نظرائهم في الأحزاب الشيوعية العربية في أنهم لم يكونوا غرباء (أجانب) عن المجتمع، ولم يكونوا من الأقليات (؟! المترجم).  وكان الشيوعيون يمتازون بحسن التنظيم الداخلي من القواعد وحتى أعلى التنظيم. وكان من حسن حظ الحزب الشيوعي أنه نشأ في زمن كانت فيه الحركة الشيوعية العالمية تحظى بهيبة (بريستيج) وشهرة عالمية بسبب انتصار السوفييت على النازية، ولتقديمهم مساعدات ضخمة للعرب والشعوب المستعمرة الأخرى في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
وفي يوم 24 نوفمبر 1965م قررت الجمعية التأسيسية حظر نشاط الحزب الشيوعي السوداني. وبعد نحو شهر من ذلك التاريخ تم حل الحزب قانونا وطرد نوابه من الجمعية التأسيسية. وأضطر الحزب للعمل "تحت الأرض" وصار هو (والقوى التقدمية الأخرى) في موقف المدافع. وحاولت تلك القوى تنظيم إضراب عام في فبراير من عام 1969م، إلا أنها منيت بالفشل في مسعاها.
وفي وسط تلك الظروف الصعبة عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في مارس 1969م اجتماعا ناقشت فيه أمورا كان من بينها دور الجيش وإمكانية حدوث انقلاب للاستيلاء على السلطة. وهنا برز صراع وانقسام حاد بين الأعضاء حول ظهور الجيش (بـ "ضباطه الأحرار" من الشيوعيين والبعثيين والناصريين والمستقلين) في المسرح السياسي بالبلاد. وظل ذلك الصراع يتعمق مع مرور الأيام والشهور التالية. وكانت بعض كوادر الحزب وقادته (مثل أحمد سليمان) تعقد الأمل على أولئك الضباط الأحرار في إحداث انقلاب يسلم السلطة للقوى الحديثة ويحافظ ويؤمن التغيرات الثورية التي تنجزها. غير أن غالبية أعضاء اللجنة المركزية للحزب أعلنوا عن رفضهم السير في ذلك الاتجاه الانقلابي، وأنهم يرون الجيش فصيلا واحدا من فصائل الثورة الشعبية والتي بدأت تأخذ وضع الهجوم.
وفي الشهر التالي عقد ثلاثة عشر ضابطا من "الضباط الأحرار" اجتماعا ناقشوا فيه فكرة الانقلاب على السلطة. وفي ذلك الاجتماع رفض سبعة من أولئك الضباط فكرة الانقلاب متبنين لرأي الحزب الشيوعي بينما أيده ستة منهم (أورد المؤلف هنا في ثبت المراجع، وبقصد المقارنة، كتاب تيم نبلوك "الطبقة والسلطة في السودان" والمترجم بعنوان " صراع السلطة والثروة في السودان". 1987م. المترجم). وفي التاسع من مايو 1969م أكد المكتب السياسي للحزب الشيوعي على رفضه للانقلاب.  وفي مساء 24 من ذات الشهر التقى جعفر نميري بالقيادي العمالي والشيوعي الشفيع أحمد الشيخ وأخبره محذرا بتحرك عسكري وشيك. ومرة أخرى عبر الشفيع عن رفض حزبه للانقلابات العسكرية (وردت روايات أخرى عن أن ذلك الاجتماع قبل ساعات من قيام الانقلاب كان مع عبد الخالق محجوب وليس مع الشفيع. المترجم).
ورغم رفض العسكريين لنصيحة الحزب الشيوعي بخصوص الانقلاب إلا أن الحزب قبل بمناصب مختلفة (في مجلسي قيادة الثورة والوزراء) ودعا في بيان له "القوى الثورية" لضمان نجاح الحركة. وضم مجلس قيادة الثورة ثلاثة ضباط شيوعيين هم هاشم العطا وبابكر النور وفاروق حمد الله (الأخير لم يكن شيوعيا في رأي غالب من كتبوا عن تلك الأحداث. المترجم)، بينما ضم مجلس الوزراء أربعة وزراء شيوعيين كان من بينهم جوزيف قرانق عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي، والذي تقلد وزارة جديدة اسموها "وزارة شئون الجنوب".
غير أن دخول أعضاء في الحزب الشيوعي لمجلسي قيادة الثورة والوزراء لم يغير رأي قيادة الحزب في الانقلاب، بل وأصدر الحزب منشورا لأعضائه في مساء يوم الانقلاب (25 مايو 1969م) يؤكد فيه على مقررات المؤتمر الرابع الصادر في 1967م عن السلطة و"الجبهة الوطنية الديمقراطية" (التي تضم العمال والمزارعين والبرجوازية الوطنية والمثقفين ورجال الجيش الثوريين) ومهامها في سبيل تحقيق الاشتراكية، والتي لا يمكن أن تتم عن طريق انقلاب عسكري، والذي هو محض تفكير "برجوازي صغير". وبذا صنف الحزب ما حدث في 25 مايو على أنه "انقلاب عسكري" وليس "ثورة".
وتم عزل كل قوى الرجعية المناهضة للثورة من المناصب الحساسة والمهمة مما خلق ظروفا أفضل لنمو الثورة الديمقراطية. وكان دور الحزب حاسما، ليس فقط في حماية النظام الجديد في وجه المعارضين، بل في نقل السلطة للطبقة العاملة. ولخصت اللجنة المركزية في منشور لها مهمة الحزب في تنظيم الجماهير وبث الوعي بالأيديلوجية الماركسية ومقاومة نفوذ البرجوازية الصغيرة. ولقي ذلك المنشور تأييد عبد الخالق محجوب، ولكنه ووجه بمعارضة قوية من عمر مصطفى المكي ومعاوية إبراهيم (وهما اثنان في المكتب السياسي المكون بين ثمانية أعضاء)، ومن أعضاء في اللجنة المركزية (مثل محمد أحمد سليمان، المسئول عن نشاط الحزب "تحت الأرض"). وكان هؤلاء المعارضون يؤمنون بأن الحزب قد أخطأ خطأ شنيعا بعدم المشاركة في الانقلاب، وبوصف قادته بأنهم "برجوازية صغيرة"، وبالتقليل من قيمة وقدرة الحركة الثورية الجديدة. ويمكن وصف الصراع بين الحزب والمنشقين بأنه أقرب شيء إلى المنازعة الدلالية semantic argument.  فعبد الخالق ومن معه يصفون قادة مجلس الثورة بأنهم "برجوازية صغيرة" بينما يصف المنشقون هؤلاء بأنهم "ديمقراطيون ثوريون" يمكن أن يقودوا السودان نحو الاشتراكية ويجب على الشيوعيين مساعدة ذلك النظام وتعضيد جوانيه الايجابية. ولم يكن الفرق بين الوصفين أمرا هينا عند الشيوعيين السودانيين آنذاك، خاصة وإن ذلك التفريق كان موضوعا مهما سبقت مناقشته في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي.
وظل الحزب الشيوعي السوداني يتأرجح بين الموقفين لشهور عديدة، ولم يستطع المكتب السياسي ولا اللجنة المركزية حسم الموقف. وكان موقف بعض أعضاء المكتب السياسي يتميز بالتردد وعدم الحسم، وكان من ضمن هؤلاء المترددين الشفيع أحمد الشيخ القائد العمالي، وفاطمة أحمد إبراهيم قائدة الاتحاد النسائي. وبالإضافة لذلك واجه النظام تحديا خطيرا من قبل اليمين (خاصة حزب الأمة والإخوان المسلمين). وكان لزاما على الحزب أن يختار أحد الفريقين.
ثم تواصل الصراع بين الحزب الشيوعي ونميري، حيث قام الأخير بتعيين وزراء شيوعيين في حكومته، كان معظمهم من الجناح المعارض لآراء عبد الخالق في مايو. وصرح أحمد سليمان (أحد كبار المعارضين لعبد الخالق) لصحيفة الأنوار البيروتية في 30/12/1970م بأن :"عبد الخالق كان دوما يتهمني بأنني "داعية انقلاب" لذا فإنه من الطبيعي أن يقوم مجلس قيادة الثورة (والذي يتهمه عبد الخالق بذات الاتهام) بالوقف في صفي وليس في صفه". وزاد من شكوك الحزب الشيوعي تجاه نميري قيامه بحل تنظيم "الضباط الأحرار"، (ربما خشية قيامهم بانقلاب آخر!). وزاد من تلك الشكوك استدعاء وزارة الداخلية لعدد من كوادر الحزب في 18/9/1969م.  وتسامحت السلطة الجديدة مع نشاط الشيوعيين السودانيين، غير أن الحزب الشيوعي ظل – وبحكم قضائي سابق- حزبا غير شرعي، وبقي تحت سيف ديموقليس ( وملخص قصة "سيف ديموقليس" هو أن الملك الصقلي ديونيسيوس، والذي عاش قبل 2500 عام في سيراكوسة، أراد أن يحقق أمنية لأحد تابعيه يسمى ديموقليس، والذي أراد أن يصبح ملكا ولو ليوم واحد. غير أن الملك اشترط لتحقيق ذلك شرطا واحدا وهو أن يضع فوق رأس ديموقليس سيفا معلقا بشعرة حصان واحدة. هكذا عاش ديموقليس يومه الملكي مرعوبا من أن تنقطع الشعرة ويسقط السيف عليه ويقتله. المترجم).
وظل التحالف بين الشيوعيين ونميري قائما حتى نوفمبر من عام 1970م. وكان "زواج المصلحة" ذاك قد فرض على الطرفين بسبب عدو مشترك ألا وهو مجموعات القوى التقليدية. ولا غرو فالنظام الجديد كان ضعيفا وفي أشد الاحتياج لكل عون يأتيه، خاصة من حزب يسيطر على النقابات والتنظيمات وله في أوساط الجيش أذرع ونفوذ. ولتلك الأسباب قبل نميري بضم ممثلين للشيوعيين في مجلس قيادة الثورة، متجاهلا لنصيحة باقي أعضاء المجلس. وظل الحزب الشيوعي يتأرجح بين النقد والتأييد للنظام الحاكم تبعا للصراعات الداخلية بين قياداته. ويمثل ما حدث في أكتوبر 1969م ذلك الموقف خير تمثيل. فقد صرح بابكر عوض الله رئيس الوزراء إبان زيارة له إلى المانيا الديمقراطية بين الرابع والتاسع من أكتوبر 1969م بأن "ثورة مايو لن تسير بغير الشيوعيين". وأثار ذلك التصريح حفيظة مجلس قيادة الثورة فأصدر بيانا نفى فيه صحة مقولة بابكر عوض الله وأكد بأن الثورة قد حلت جميع الأحزاب من يومها الأول. وأعقب ذلك بأسابيع تغيير في تركيبة مجلس الوزراء. وفي تلك الأيام المشحونة بالأحداث عقد المكتب السياسي اجتماعا عاجلا يوم 9/10/1969م شجب فيه قرار مجلس قيادة الثورة وأصدر عددا من التوجيهات لتأمين سلامة الحزب. غير أن الصراعات الداخلية لأعضاء المكتب السياسي للحزب أفلحت في منع أي رد فعل آخر رغم عقده لعشرة اجتماعات في تلك الأيام. وفي يوم 17/ 10/1969ك أصدر سكرتير الحزب عبد الخالق محجوب بيانا ضمنه بعض المقترحات جاء فيها: نشر تحليل ماركسي للمشكلة وعرضها على أعضاء الحزب والحركة الشعبية على وجه العموم، والعمل على منع أي تغيير وزاري، وتأمين سلامة الحزب، وعقد مفاوضات ونقاش صريح مع بابكر عوض الله وإعلامه بأن الحزب سيقف معه إن قدم استقالته، وتعبئة أعضاء الحزب للعمل في أوساط الجماهير لتخليص النظام من ضغط قوى اليمين.
وفي يوم 18 نوفمبر، وبينما كان المكتب السياسي يستعد لحسم موقفه، أخبر عمر المهدي (لعل المقصود عمر م. المكي. المترجم)  المجتمعين بأن التغيير الوزاري لن يحدث، فجمد المكتب السياسي مطالبه. غير أن نميري أصدر قرارا في 28 نوفمبر أعلن فيه توليه لرئاسة مجلس الوزراء. وجاء ذلك الإعلان بصورة مفاجئة لم تترك للحزب الشيوعي فرصة فعل شيء إزاء تلك الخطوة في اتجاه اليمين، خاصة مع تزايد سيطرة الجيش على الحكومة.  ولم تنعقد اللجنة المركزية للحزب مرة أخرى بعد اجتماعها في أغسطس 1969 إلا في مارس من عام 1970م، حيث تم في ذلك الاجتماع تأجيل موعد اجتماع القيادة لحسم الصراع في الحزب إلى أغسطس 1970م. غير أن "أزمة أكتوبر" كانت قد عضدت من موقف عبد الخالق محجوب، والذي كان يرمي إلى التخلص ممن كان يسميهم "العناصر اليمينة " في الحزب.  وفي تلك الأيام اهتز السودان بأحداث أخرى زادت من التوتر بين نميري والحزب الشيوعي.   

 
alibadreldin@hotmail.com

 

آراء