في هذا الجزء من المقال ساستعرض وجهة نظري لأبيِّن كيف أن الرؤى حول أولويات المرحلة القادمة لسلامة الوطن، وعلى المستوى النظرى تحديداً، تكاد تكون متقاربة بين ما طرحه المؤتمر الوطني من جهة (خطاب الوثبة)، وما ظلَّت تطرحه بقية القوى المعارضة بشقيها السلمية والمُسلَّحة من جهة أخرى. ولكنني كذلك سأوضح باسهاب، وبالتزامن ما أمكنني ذلك، وجهة نظري حول الطريقة الجارية الآن وإلى أي المسارات يمكن أن تذهب بنا وبوطننا، خصوصاً من جانب المؤتمر الوطني، فهو بخلاف تعنُّته في رفض بعض الإجراءات الواجبة والمنطقية، يُصرُّ كذلك على المضي قدماً نحو حوار لا طائل منه، ولابد، إن استمر بشكله الحالي، هذا حتى ولو أثمر نتائج تماثل بين رؤاه وبعض رؤى المعارضة، وذلك لأسباب سردناها في مقالنا السابق، ولكننا ولمزيد من التأكيد نقول إن الرؤى حتى وإن تطابقت، لن تكون حلاً للمشكل القائم في السودان ما لم تجد الآليات المناسبة لإنفاذها، وكل من الإجراءات، والرؤى، والآليات، تتكامل وتتشابك ولا ينفصل بعضها عن بعض، فإن أُنقصت أي منها، فإن النتائج النهائية لن تكون محقَّقة أو قابلة لتكون وسيلة للرضا الدائم بين الأطراف.
وخطاب الوثبة الذي قدمه المشير البشير في يناير 2014 سيكون النقطة التي أنطلق منها، وذلك لعدة اعتبارات:
1- أولاً هو أول دعوة للحوار من الحكومة تجد قبولاً مبدئياً من جميع الأطراف وفي آن واحد،
2- ثانياً لأنه الخطاب الذي يستند عليه نظام الخرطوم فيما يقوم به حالياً من حوار ويدَّعي أنه الخط الذي يسير عليه،
3- ومن جهة ثالثة لأن به بعض العناوين التي يمكن الاعتماد عليها للتداول حول التفاصيل التي هي جوهر المخرجات خصوصاً في موضوعي السلام والهوية. فبالرغم من أن هذا الخطاب كان به الكثير من الفجوات التي تقود إلى فجوات أكبر ألحقت الضرر بالإجراءات التي تلته، وهو بالتالي قمين بالكثير من الملاحظات الواجبة لتتبع مساره ومؤداه، ولكن، وللأمانة، فإن به بعض النقاط التي ستبقى عهداً بينه/حزبه والشعب، فإن صدق وعده فهذا ما نرجوه وكل حادب على شأن الوطن، وإن نكص، فإن تهمة النكوص ستظل تلاحقه كما هي بدون تغيير، إلى يوم يبعثون. فجوات الخطاب
بخلاف اللغة المُعقَّدة والغامضة والمصطلحات الصماء في كثير من أجزاء الخطاب كما أشرنا في المقال السابق، نجد أن قارئ الخطاب(البشير) غير منسجم مع النص المكتوب، ولا لوم، إن احتوى على أخطاء هنا وهناك طالما أنه لم يكتبه، ولكنني أستميح القارئ في أن يأخد بعض الوقت لمتابعة الخطاب من على (اليوتيوب) مثلاً، وفي نفس الوقت، متابعة النص المكتوب بموقع الشروق شبه الحكومي على الرابط: http://ashorooq.net/index.php?option=com_content&view=article&id=36742:2014-01-28-13-19-20&catid=100:2009-07-21-10-57-23&Itemid=1128
ولكي لا يُظن بنا إهدار الوقت فيما لا طائل منه، أضع بعض النماذج للاختلافات بين ما هو مكتوب وما هو مُقال لفظاً، والتي ربما تبيِّن أكثر، مقصدنا من هذا الرصد والذي سنأتي إليه لاحقاً:1- غير منتحل أو مستوهب من الأباعد أو موروث عن كلالةٍ(لاحظ حركات الفتح والكسر في منتحل أو مستوهب) 2- ولكن فلا بديل عن العمل الذي يبدأ بقبول مبدأ التعاون أصلاً لكل نجاح 3- فرصنا وتحدياتنا مع المحيطات الثلاثة: الأفريقي، والعربي، والعالم ثالثي أكثر(لاحظ الخطأ في عالمثالثي) 4- إن دعا داعٍ للفداء لن "نهن"(لاحظ أن النص الأصلي يقول نخُن).
هذه النماذج وغيرها لمن أراد مزيداً من الرصد، توضِّح بجلاء أن سيادة الرئيس لم يأخذ قسطاً معقولاً لمناقشة هذا الخطاب، إن كان مع من كتبه، أو مع آخرين، أو مع نفسه، وهنا يأتي الشك الأول في أن كل ما يُبنى على هذا الخطاب سيكون هشاً، وأوَّله مخرجات الحوار الماضي الآن استناداً على هذا الخطاب، فكيف للسيد الرئيس وهو المشير في الجيش السوداني، أن يخطئ في نشيد العلم مثلاً؟! إن هذا الخطاب ولما وجده من دعاية وحشد إعلامي، كان على تاليه أن يأخذ في الحسبان، التدرُّب عليه وتجويد الكلمات ومخارجها ومعانيها ومقاصدها، حتى لا تصبح فيما بعد موضعاً للتنُّدر، خصوصاً وهو يُطلق لشعب ذكي، لمَّاح، خبر السياسة كما خبر التندُّر بالسياسيين والرؤساء، ولن يفوت على فطنة هذا الشعب أن هناك تعديلاً كبيراً طرأ على الخطاب وربما في اللحظات الأخيرة، وهو ما جعل البعض يُقبِل وبقوة (الترابي)، والآخر يُدبِر وبقوة أيضاً(قوى المعارضة الأخرى)، وهذا ما يثير الشك الثاني بأن هناك طبخةً أُعدَّت بليل، ولاغرابة، فالعديد من الطبخات أُعدت وقدمت للناس في صبحهم، وأشهرها مسرحية الرئيس والحبيس!
النقطة الثانية الجديرة بالنظر هي الرؤية الموضوعة في الخطاب لقضية السلام، فقد جاء في خطاب الوثبة أنه: (ليست هناك من حاجة لتبيان أن هذه الدعوة إلى التعاقد على الوثوب إلى الأمام تكون ناقضة لنجاعتها إن هي لم تضع السلام أولوية مُطلقة)! انتهى. إن الأولوية المُطلقة في ظننا هي التي لا تحدِّها حدود، إن كان على المستوى السياسي أو الفكري أو التنظيمي، فإذا كان السلام بالنسبة للمؤتمر الوطني أولوية مُطلقة، فلمَ لم يستجب للمطلوبات والإجراءات التي وضعتها القوى التي رفضت الحضور للخرطوم وهي التي يُشكِّل حضورها سنام الوصول للسلام (الغاية) بحسب الخطاب؟! إن ما يبيِّنه الأمر الواقع ، وبرفض جُل حَمَلة السلاح لهذه الدعوة بشكلها الحالي، يُنذر بمواصلة الحرب، والتي تعتبر-كما قال الخطاب- (وسيلة لغايات أخرى، تتعلق بالمصالح الخاصة، حزبية أو فئوية أو قبلية)، والسلام (الغاية) هو الذي أُطلقت من أجله دعوة الحوار؛ فكيف يصبح الوصول إليه أمراً صعباً؟! مع الوضع في الاعتبار أن أغلب القوى الرافضة الآن، هي التي ينشدها "بحق"، المؤتمر الوطني بخطاب السلام هذا، وكذلك مع التأكيد على أن إجراء وقف إطلاق النار(المؤقت بالطبع)، والمُعلن من جميع الأطراف، يصبح أيضاً (وسيلة) لا (غاية)؛ فكيف تتصدر هذه (الوسيلة) المشهد الآن بحيث يتكثَّف حولها الضوء، مع تعتيمٍ بالغٍ للغاية الحقيقية(السلام)؟! وقبل أن أبارح هذه النقطة، أود أن أشير إلى جزئية في خطاب الوثبة شدَّتني وربما تحتاج لمزيد من التمعُّن، فقد قال البشير: إن السلام إيجاب، ولن يتحقق كنتيجة، إلا إذا كان كذلك، السعي إليه قصد، لا اضطرار، وهذا يُخرج أية صفقة ضعف أو طمع من كونهما سلاماً!
نقاط العهد
لقد جاء خطاب الوثبة بعد أشهر قليلة من أحداث سبتمبر 2013 والتي راح ضحيتها أرتال من الشباب كشهداء، بسبب رفضهم السياسات الاقتصادية للحكومة، وقد كانت سبتمبر حقيقة، نقطة تحوُّل في نظرة الشعب السوداني وبكامله، لمن يحكمونه، فجعلت من كانوا يظنون أنهم في معزلٍ عن الخطر، يستشعرونه معهم في غدوهم ورواحهم وبين جنباتهم، فالشاهد أن دماء أولئك الشهداء، غسلت مرآة سكان الخرطوم ومدني وأخريات، فرأوا ما يحدث في دارفور وجبال النوبة في شوارعهم وفي جسد فلذات أكبادهم، فأضحت بالتالي، أكذوبة الأمن والسلام لسكان مُدن الشمال، عارية من كل تضليل، مكسية بإهاب الواقع، وظاهرة لكل ذي عينين.
والآن، فإن الناظر والمتابع للشارع السوداني، يجد اجماعاً على أن الاستهتار بالتغيير وبمن يدعون له، أصبح أمراً معدوماً، وأن سؤال "من البديل؟"، الذي فركتنا به بعض الأصوات والأجهزة الاعلامية فركاً، بات غير مطروح، وأن خيار التغيير تحوَّل من كائن في رحم الحركات الشبابية والقوى المعارضة الداعية له، إلى مولودٍ ينتظر ليصبح كائناً يمشي على قدمين، وهو الأمر الذي توصَّل إليه المؤتمر الوطني- بحسب خطابه-، فهرول نحو الاعتراف بأن الفقر أصبح مشكلة يجب أن تُحل، وأن هذا الحل لن يأتي إلا عبر التغيير، فقد جاء في خطاب الوثبة أن: (الفقر نسبي ويجب أن يقاتل والحزب لا ينظر إلى تطلع الناس للخروج منه على أنه تذمُّر مزعج بل على إنه حافز قوي للعمل). لا نريد أن نتوقف عند عبارة (الفقر نسبي) هذه كثيراً، فالمؤتمر الوطني وقياداته تعرف جيداً مستوى الفقر في السودان، ولكننا نريد أن نتوقف عند(الحزب لا ينظر إلى تطلع الناس للخروج منه على أنه تذمُّر مزعج)! وفي ظننا أن نفس الأمر يجب أن ينطبق على بقية الحريات والحقوق، فمتى سينظر هذا الحزب "الحاكم" إلى تذمُّر الناس من متلازمة النقصان في هذه القضايا على أنه غير مزعج ومتى يكتشف أن التذمُّر والاحتجاج في كل الحالات حافز للعمل لا هادم للوطن ومهدد للسلامة العامة؟!
ما نريده هو أن تُستثمر هذه المعرفة، أي معرفة أن التذمُّر لا يجب أن يكون مزعجاً للحكومة، من خلال خطوات عملية لا تقتصر على السعي لرفع الحظر والعقوبات الاقتصادية الدولية، بل تتعدى ذلك إلى التعامل بغير سلاح القمع والمنع والتقتيل والقنابل المسيلة والرصاص مع كل المتذمِّرين ابتداءً من المتذمِّرين من الفقر، والمتذمِّرين من الأوضاع الصحية والتعليمية، والمتذمِّرين من القوانين، والمتطلِّعين لحرية التعبير، والفئات التي تنشد التجمُّع والتظاهر السلمي لأسباب تخصهم وفئاتهم، والمحتشدين من أجل منتدى سياسي أو ورشة عمل مدنية، وكل مُتذمِّرٍ من ممارسات الحكومة وفي كل الجبهات. هنا وبهذا، تصبح الحكومة على إحدى عتبات بناء الثقة، وبدونها سيكون الشعب ومن قبله المعارضة، مستمرة في كونها، على غير ثقة بالخطابات والهتافات والوعود، وحينها لن يستطيع كائن من كان، أن يقنعهم بجدية الحكومة في السعي نحو التغيير أو الحوار.
هناك نقطة جوهرية أخرى أثارها خطاب الوثبة وهي التي تتعلق بموضوع الهوية، والواضح أن هذه النقطة من الخطاب وبشكلها هذا، تضع على المحك وعلى ميزان الصدق والوعد ممارسات عديدة، وأقوال جلية سابقة. وهي بهذه الصفة ربما لا يضاهيها طيلة تاريخ الإنقاذ إلا اعتراف البشير في رمضان ما، بمنزل التيجاني السيسي، بتلوث أياديهم بدماء السودانيين! فقد جاء في الخطاب: ( إن التنوع والتمازج يجب ألا تكون شعارات غير مُسَتشَعرة، لأنها لو ظلت كذلك فلن تعدو أن تكون أحابيل مثل التي بثها الاستعمار في حياة أمتنا وليست هي مناقضة لوحدة الأمة.
وجودنا في أفريقيا جزءا أصيلا منها لا ينافي وجودنا في كلّ عربيّ أفريقيّ وغير أفريقيّ، والإقبال على أحدهما باستثناء الآخر عقوق، والزهو بأحدهما دون الآخر غرور، والانتفاع بأحدهما دون الآخر حماقة لقد صارت بعض جوانب هذه المعادلة شعارات حروب في مجتمعنا آن أوان دمغها ودمغ مروجيها من هذا الجانب أو ذاك، كلهم مخطئ، وكلهم قليل العناية بالإنصاف والعدل وغير مدرك لسير التاريخ، ولا مُتَمَسَّك له في العياذ بدروع عرقية لا يشهد لها دين ولا عرف ولا مصلحة ولا مذهب فكري. إن المؤتمر الوطني يرى أن وثبة السودانيين غير ممكنة إذا استثنت أحداً قوماً أو قبيلة أو لوناً أو لساناً أو كياناً، وقوة السودان الكامنة هي في هذا التفرد الذي لم يمكن إلا بالإندغام المتسامح الواعي الذي يربط مصائرنا معاً. لا يجب أن نحترب على الهُويَّة، إن الدستور الذي أرسى مبدأ المواطنة أساساً للحقوق والواجبات، آذن بالحرب على العصبية وعلى الاستئثار بالهوية أو إدعاء إعادة صنعها أو اقتطاع الجغرافي لتأييدها أو لحمايتها أو لإيذاء نقيضها). ويضيف الخطاب: (وحزبنا مستعد أن ينافح عن رؤيته وسلامتها بدون أن يصادر حق أحد في نقدها أو تقويمها كلياً أو جزئياً طالما أقبل محاوراً برأيه). انتهى.
إذاً، والعهدة على الخطاب، فإن هذه هي رؤية المؤتمر الوطني التي سينافح ويدافع عنها، وبالتالي كل خطابات "الدغمسة" والهوية الإسلامية ودستور الشريعة وغيرها من الأقاويل، لن تكون ضمن خطة المؤتمر الوطني في المرحلة القادمة؟! والحال كذلك فإن بيننا وبينهم الزمن، والتاريخ حاضر، وسيسجل كل كبيرة وصغيرة إن كان في موائد التفاوض أو عند ظهور مخرجات حوارهم هذا، كما أن الممارسة العملية هي المحك الرئيس.
هذه بعض الملاحظات على خطاب الوثبة الذي يشكِّل رؤية المؤتمر الوطني للحوار إن كان في شكله الحالي أو عند استجابته-ربما- لصوت العقل والمنطق وقبل بالإجراءات والمطلوبات التي تسعى لها المعارضة، وفي ظني أن هناك مشتركات على المستوى النظري، بين بعض هذا الخطاب، وبعض خطاب مجمل قوى المعارضة خصوصاً التي تحمل السلاح، ولا يبقى لنا الآن إلا النظر في الرؤى المتصلة بالمحاسبة والعدالة وشكل الحكم والدولة، وهي في ظننا مما لا يشكل عبئاً كبيراً إن جلست هذه الأطراف للتفاوض وهناك نماذج كثيرة في العالم يمكن الاحتذاء بها عند مناقشة هذه القضايا، أما قضية الآليات فهي ما سنأتي إليه في مقال لاحق.