اكتوبر: الثورة والثورة المضادة

 


 

 

abdullahi.gallab@asu.edu

تأتي ذكرى اكتوبر هذا العام كما لم تأت من قبل او لا ككل عام. فمن جهة هذه الذكرى الخمسين لحدث لا يزال يقف متفردا كأهم حدث في تاريخ السودان الحديث وذلك لارتباطه المباشر بروح وآفاق المشروع الثوري وحركة التغيير في السودان من جهة وفي ذات الوقت ما تبعه من تطور وتنوع حركة وحراك الثورة المضادة. اذ علينا ان نأخذ امر كل من الثورة والثورة المضادة كعنصرين ظلا يعملان في إطار التأثير المباشر وغير المباشر في إطار حركة التغيير الاجتماعي في السودان. والثورة هنا لا تعني التغيير عن طريق العنف وانما تأتي عن طريق تقديم مشروع الحداثة في اتساق وتناغم كامل وجوهه الخاصة في التحرر من الاستعمار فقط وأنما يمتد للتحرر من النظام القديم باكمله متمثلا  في دولته القائمة على القمع والمبنية على الأفكار والممارسات الشمولية. يأتي ذلك  من اجل نظام جديد يقوم على واجبات ومقتضيات  حقوق المواطنة وحريات وإنسانية الانسان. ومن هذا وبهذا فان مشروع الحداثة مشروع مفتوح ومتجدد وليس أمرا جامدا او مكتملا في ذات الوقت. والحداثة هنا تعني ان يتأمل الانسان الحياة دون شروط مسبقة او جبر او قهر وان يعيش نتاج تأمله ذلك دون قهر. وهو ما يعني حرية التفكير والاختيار والاختبار وديمقراطية الاختيار والفعل. والثورة المضادة هي المشروع المضاد لذلك جملة وتفصيلا.

وتاتي ذكرى ثورة اكتوبر الخمسين في وضع لا يقارن باي وضع سابق. اذ ندرك بلا شك ان حالة الانفصال الوجداني بين السودانيين بجميع مشاربهم--بما في ذلك بعض الاسلامويين--وبين النظام القائم قد تحولت الى غضب هادر ضد النظام. وقد يهم كثيرا ان ندرك ان ذلك الغضب ظل يعبر عن نفسه بأساليب مستوحاة من روح ونهج اكتوبر. وعلى الرغم من ان عدم القبول بذلك النظام ذلك قد ظهر ذلك جليا بين الحين والآخر وبأشكال متنوعة منذ بداية عهد النظام الا ان ما ظهر اخيراً وخاصة في سبتمبر ٢٠١٣ قد أعطى مؤشرات وعلامات اكثر أهمية من اي وقت مضى. اذ قد تمثلت تلك العلامات المؤشرات جليا في الحضور الطاغي للشارع الشاب الذي ظل ينادي: "عائد عائد يا اكتوبر". و"حرية سلام وعدالة والثورة طريق الشعب". الإلهام يأتي من أكتوبر دون شك عائد وان الهدف الاسمى هو الحرية والسلام والعدالة وان كل ذلك لا شك آت عن طريق الثورة التي هي طريق الشعب. وذلك امر لا يرضى بأقل من اسقاط النظام. وذلك هو معنى ومبنى حركة التغيير الاجتماعي الذي انجزته اكتوبر بنجاح مسالم. علما بان معظم،  ان لم يكن كل، اولئك الذين خرجوا في شوارع الخرطوم ونيالا ومدني وبور سودان وغيرها لم يولدوا بعد في اكتوبر ١٩٦٤. بل انهم عاشوا كل عمرهم في ظل هذا النظام  وبؤس قفصه الحديدي الذي ما انفكوا يعملون ويهمهم ان يكسروه كما فعل آباء وأجداد لهم في اكتوبر ١٩٦٤.

وبعض اخر من حضور ذلك الشارع الشاب الجديد لم يولد حينذاك حتى آباؤهم  أو أمهاتهم  في أكتوبر ١٩٦٤. رغما عن ذلك ظل هؤلاء واؤلئك يدفعون بالدم حارا في عروق الوطن وويلهبون عاطفة وخيال المواطن وهم يهتفون في وجه الاستبداد عائد عائد يا أكتوبر.  هذا قد قرنوا بذلك الهتاف ما هو اكثر تعبيرا عن معنى ما تمثل اكتوبر في إطار التغيير الاجتماعي و خيارالشعب بانه يريد "اسقاط النظام"والشعب يريد"تغيير النظام" في ذات الوقت. فإسقاط النظام يعني اسقاط النظام القائم وتغييره يعني الانتقال بحركة التحرير نحو نظام جديد أساسه سودان جديد يجد الكل فيه ملامحه ويقوم على عقد اجتماعي حديد متفق عليه من اجل اعادة صناعة الدولة الوطنية.

لم يكن ذلك الحراك الجماهيري حصرا على منطقة بعينها وانما شمل كل المناطق من اردمتا غربا لترب هدل شرقا.  هذا وعلى مستوى الوجدان العام والعاطفة لا يزال هناك من يستجيشون حماسا عند سماع ملحمة هاشم صديق ومحمد الأمين  وأكتوبريات محمد المكي إبراهيم ومحمد وردي وأناشيد محجوب شريف. اذ ان اكتوبر الحدث التاريخي وما لحق ذلك من مكونات "الدين الاجتماعي" الذي قام وترعرع من فيض ما أنتج من عميق وتجليات اللحظة الثورية و افاق الخيال المبدع الذي يمكن أن تبدو به روح اكتوبر يظل حيا وماثلا للعيان. كل من هذين الأمرين له أهميته الخاصة المتعلقة بأكتوبر الحدث وأكتوبر الثورة وقيمة كل منهما الحياتية والتاريخية والسياسية والاجتماعية.
 
لذلك وان كان الذين كانوا يحملون فروع شجر النيم عام ٢٠١٣ وعلى مدى الهبات المنازلة للنظام تجد لنفسها تمثلا بمن كانوا يحملون مثل تلك الفروع الخضراء زمان، فهم بلا شك ما انفكوا والحال كذلك يأملون وبجلاء ووفق تفكيرهم الحر تأكيد فاعلية التواصل مع تلك اللحظة التاريخية التي شكلت ذلك التاريخ الحي في الوجدان والخيال السوداني. ذلك التفكير يمثلهم  وهم وبه يمثلون صلة الوصل بين هذه اللحظة التاريخية وتلك التي قد تتوافد اللحظة من تجليات حركة الحداثة وارتباطها بأكتوبر الثورة. اذ يعتقد هؤلاء وأولئك بانه و بمثل هذا الاسلوب السلمي والذي هو من صلب مشروع الحداثة يمكن قيادة حركة التغيير الاجتماعي نحو غاياتها المأمولة وهي اسقاط النظام ومن ثم تغيير واقعهم.

هذا ومن جهة اخرى تجدر الملاحظة بأن هلع منظومة الانقاذ من مصير أشبه بمصير نظام عبود قد انعكس في العنف والفظاظة التي واجه بها النظام مواطنين عزل لا يريدون بقاءه. وبذلك وعلى طريق ذلك العنف الممنهج الذي عم قطاعات السودانيين في طول البلاد وعرضها يعني في معناه العميق أمرين اثنين: الامر الاول هو ان النظام والذي يمثل الحلقة الاخيرة من تطور حركة الثورة المضادة قد وصل بنهج العنف الذي تولت قيادته الحركة الاسلاموية منذ ستينيات القرن الماضي قد وصلت  بما أبتدعت وطورت لأشكال وأساليب العنف ضد المواطنين الى مرحلته النهائية. لذلك فالنظام  إذن منهكا بالعنف الذي اخترع ووصل به الى ما ليس بعده غير الانهيار. فقد أتى النظام بنموذج جديد في الفصل بين الدين والدولة. فقد حول النظام العنف ليصبح صاحب الامتياز الخاص في إطار الدولة وبه وحده يعتقد صون النظام. اما الدين فقد عبرت عنه السخرية السودانية بقولها: "الكيزان دخولنا الجامع ودخلوا هم السوق"٠ ومن ثم اصبح الدين هو ما ادخل فيه العامة . ولم يبق للاسلامويين منه الا يتمدد به سوق التمكين والتحلل وتعدد الزوجات والحج السياحي المدعوم بواسطة الدولة وممارسات القمع للرجال والنساءالقائمة بعنف الدولة.

اما  الامر الثاني والذي لا يمكن تحقيقه هو ان النظام الذي لم يهدأ له بال منذ يومه الايام في الاعتماد على العنف كأسلوب ووسيلة للحكم لن يهدأ له بال والأمر كذلك من ناحية مستلزمات بقائه ومن ناحية وجودية الا بقتل الناس جميعا. وذاك امر يقع في دائرة المستحيل اذ ان الوجود المعارض لن تتوقف تياراته وما تنتج من بشر ما دم هناك وجود إنساني في السودان.

 هذا والأمر كذلك ولعل من اهم مستجدات الأمور هو تحول مهام القيام بالعنف من الدولة ومنظماتها القمعية الى التنظيمات العشوائية مثل جنجويد حميدتي وعشوائيات السلفيات الجهادية. وبقدر ما تمثل عنف هذه العشوائيات في دارفور وأبو زبد والأبيض والخرطوم في سبتمبر الماضي فهو يقف الان حول العاصمة كمهدد للمواطنين والدولة في ذات الوقت. هذا وبمثل ما ذلك آلتحول المضطرد للعنف الناتج من تصاعد نهج الثورة المضادة بعد اكتوبر ١٩٦٤؟وحتى الان. اذ تحول ذلك العنف بداية من عشوائيات الأنصار وحزب الأمة القرن الماضي بعد ثورة اكتوبر الى عشوائيات الاسلامويين وعم فيما عم الجامعات والشارع السياسي. ومن بعد أخذ ذلك العنف أشكالا اكثر ضراوة على مدي عمر جمهوريتي الاسلامويين. وها نحن  نرى الان كيف يتحول العنف الان من القطاع العام الممثل في النظام الاسلاموي الى القطاع الخاص العشوائي المتمثل فيما ذكرت من جنجويد. ونحن هنا امام تطور جديد من تطورات الحالة السودانية يتحول فيها الضحايا الى قتلة. هذا ومن ثم وعن طريق امتلاك أدوات العنف العشوائي الخاص والذي يمثله الان كل  من موسى هلال وحميدتي في الميدان السياسي الذين كان يحدد لهما ما يود ويشرف عليهما النظام القائم ادخل الامر مدخلا اخر اكثر أثرا وخطرا. وها نحن الان نري ذلك التيار يتحول من تيار مستغل بواسطة النظام الى تيار مستقل بذاته له أهداف وتحالفات ومصالح مع او ضد النظام.  وقد يصبح النظام ذاته احد ضحايا ذلك النوع الجديد من العنف باعتبار ان النظام يمثل الحلقة الاخيرة القائمة على العنف المتواتر والمتطور لواحدة من اهم حلقات الثورة المضادة والحال كذلك يمكن ان تتحول منظومة العنف التي قد ينفرط عقدهافي اي وقت الى قنبلة عنقودية تتناثر شظاياها لتعم المكان كله.

لذلك فان حضور اكتوبر الان هو تذكرة لهؤلاء واولئك جميعا: الثورة والثورة المضادة وفق معان متباينة  على الرغم من ان موقف اي من هؤلاء واؤلئك الجماعي يظل على درجة عالية من الأهمية. فبمثل ما صنعت اكتوبر التغيير الاجتماعي زمان فان روح ومبادئ اكتوبر التي تظل في المخيلة والوجدان على موعد من صناعة التغيير الان. يتمثل ذلك في ثلاثة اتجاهات:

 يتمثل الاتجاه الاول في دافع الفئة الاولى اي فئة الثورة  الهادف بالنهوض بالمواطن ومجتمعه المدني صوب التغيير والتحرر وهو دافع يظل متسقا وأكتوبر الثورة.  

كما يتمثل الاتجاه الثاني في ما كان وما ظل يتماثل وبشكل مخالف دافع الفئة الثانية اي فئة الثورة المضادة والذي يامل ان يجد في كبح جماح حركة التغيير ما يتمنى ان يكون في إطار يمكن ان يؤدي لاستباق ما قد تأتي به حركة التغيير. أما الاتجاه الثالث فيمثل تحديا جديدا.  ففي الوقت الذي قد يكون من الصعب التكهن بما سيتمخض عن النتائج النهائية لمطمح اللاعبين الجد أمثال حميدتي وهلال الذين قام نهجهما على العنف من اجل النهب والسلب الا انه من الصعب على الانسان ان يتخيل بان يذهب هؤلاء الى بواديهم طائعين مختارين.  

وإذا كانت المعاني الكبرى لاكتوبر تتجسد للبعض في كونه واحد من أكبر واهم الأحداث في حياتنا وحياة السودان المعاصر في إطار تجليات تلك الروح الثورية فهو ايضا يمثل ما انطوت عليه أشكال اخرى من ما يقع ايضا في إطار حركة الثورة المضادة القادمة من صعيد اليسار. فان تجسد في الحركة الاسلاموية مشروع الثورة المضادة القادمة من صعيد اليسار. فان تجسدت في الحركة الاسلاموية مشروع الثورة المضادة  بكل أشكاله القائمة على العنف فهناك أشكال اخرى ووجوه متباينة للثورة المضادة التحف كل منها بوجه.
 
 أولى هذه الوجوه ذلك الذي وجد رواجا له في الاعلام الشفاهي  والذي تقوده بعض الجهات ومن منذ زمان طويل اذ تروج  بين الحين والاخر وتصاعدت وتائر في الفترة الأخيرة بان ثورة أكتوبر لم تكن بالأمر الهام. فقد كانت انفجارا تلقائيا وأنها قد قضت على نظام سعى بالتعمير في السودان و تجنت على ذلك الرجل الطيب إبراهيم عبود فان مثل تلك الأقوال يجدر الوقوف عندها وتأمل أهدافها ومعانيها. فهى ايضا تشير وبشكل اخر ومعنى مختلف لاهمية اكتوبر وما يمكن ان نسميه الفعليّين الرئيسيين المستقلين تماماً عن بعضهما البعض والذين لازما حياتنا في شمولها منذ ذاك الحين. فعلى سبيل المثال نجد تلك الرواية التي ظلت تتردد بانتظام  لتروى عن عدد قليل من المواطنين الذين حدث أن كَانوا في سوق الخضار في الخرطوم ذات يوم من الأيام  في منتصف الستينات من القرن الماضي لسبب له علاقة بالخضار و سوقه. لا لأمر يتعلق بالسياسة او الراي العام او الثورة. وعندماالتقى ذلك النفر بمحض الصدفة وجها لوجه بالمواطن إبراهيم عبود الذي لعله أتى ليتسوق هو أيضاً هتفوا له: ضيعناك وضعنا معاك. لقد ظلت تلك الرواية تتواتر بين الحين والاخر على مستوى الإعلام الشفاهي ومن ثم تصعدت على مستوى الإعلام المسموع والمشاهد والمقرؤ في ظل النظام القائم دون ان يتصدى لها احد بالتحليل او الدراسة او الدحض وكأنها هي الجملة المفيدة والحكمة الباقية على مدى الدهور التى حكمت على أكتوبر بالسقوط النهائي. ولعل معظم ما ظل يدور في هذا الإطار هو من نوع ما وصفه عبدالله علي ابراهيم "بقلة الأدب".

اما الوجه الآخرين ما جاء من قبل بعض فصائل اليسار السوداني تمثل في وجهه الأكبر في الانقلاب العسكري في ١٩٩٦بصفة خاصة. ومن غرائب امر ذلك الانقلاب عدم الاهتمام بدور الناصريين والناصرية في هذا الامر. لم يكن الانقلاب ذلك عملا قائما بذاته ولذاته وانما مثل الوجه الأكثر عنفا لاتجاهات ظهرت مباشرة بعد نجاح ثورة اكتوبر. لقد تمثل نجاح أكتوبر الأكبر في أمرين:
الامر الاول تمثل في الوجه البارز للسودان الجديد الذي تمثل في قوة المجتمع المدني في حركة التغيير. اذ اتضح بجلاء ان المواطن الاعزل تتمثل قوته في التمكين من القبض على فضاء المجتمع المدني وذلك عن طريق سيطرة عناصره الفاعلة المتمثّلة في الاتحادات والهيئات والنقابات والأحزاب على العمل المشترك من اجل الحريات والنهوض بحقوق الانسان. لقد برزت تلك القوى من واقع النضال من اجل الحريات. ومن واقع ما بعد أحدث الثورة برز التكوين الجنيني للمجتمع المدني الجديد ممثلا في ما سمي بجبهة الهيئات. لقد كان من الممكن ان ان يتسع الوعاء الجديد ليكون البرلمان الاول لما بعد إسقاط النظام ومن واقع مشروعيته الثورية وسيلة للتوافق على عقد اجتماعي جديد تقوم عليه قوائم السودان الجديد. غير ان هنالك من رأي ان يكون النظام الجديد غير ذلك. فقد خرجت بعض الدعاوى القائلة  بالعزل السياسي لقوى سياسية بعينها  من داخل جبهة الهئيات التي اتهمها من الإسلامويون ومن تحالف معهم بانها كانت واجهة للحزب الشيوعي. اذ جاءت من دعاوي ذلك الفصيل اليساري ذاك بان لا زعامة للقدامى وان الأحزاب قد ظلت في فترة بيات شتوى طوال فترة حكم عبود العسكري وان ما يسمى بالقوى الحديثة الممثلة في جبهة الهيئات هي التى قادت النضال ضد ذلك النظام حتى حين إسقاطه في اكتوبر. وفي إطار الصراعات السياسية التى نتجت بعد تكوين حكومات اكتوبر الانتقالية بدا الحديث عن سرقة الأحزاب لثورة اكتوبر  باعتبار ان هناك فصيل ثوري في الجيش يمكن ان ينقلب على النظام  ويتحالف مع المدنيين الثوريين من اجل نظام حكم جديد. ومن ثم أخذت بعض الأفكار الداعية لتغيير النظام السياسي وفق تحالف بين بعض قوى اليسار وفصيل بعينه في القوات المسلحة. وهو برنامج تحدث عنه صراحة  احمد سليمان القيادي في الحزب الشيوعي وقتها ودار سجال بينه وبين عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي على صفحات الصحف السودانية. وقد جاء الانقلاب العسكري تحقيقا لما ذهب اليه احمد سليمان.  وذلك امر بقدر ما هو يعبر عن بدايات نهج شمولي اكثر عنفا من نظام عبود  هو ايضا انقلاب عنيف ضد المبدأ الأساسي الذي قامت من اجله اكتوبر ونجحت في تحرير الوطن والمواطن من نظام مستبد يسخر الدولة وإمكانياتها للبطش والتضييق على الحريات. وقد قامت اكتوبر من اجل بسط الحريات وإعطاء الشرعية وحقوق الممارسة العلنية والكاملة للمواطنين في تكوين تنظيماتهم السياسية والاجتماعية والدينية دون قمع او خوف. لذلك فان الانقلاب في ذاته هو عمل مضاد لحركة التغيير الاجتماعي في الاصل.

 وسواء جاء هذا الاتجاه من جهة اليمين او اليسار فان مثل هذا الامر في مجمله موقعا رجعيا يقزم من أكتوبر وما أتت به. ومن هنا نجد ان الثورة المضادة سواء لبست ثوب اليمين او اليسار هي في نهاية الامر لا ترى حرجا في الحفاظ على السودان القديم ودولته القائمة والامرة والناهية والمسيطرة على توزيع المظالم وأنواع البطش بالمواطنين دون تمييز متى ما جاروا بالشكوى أو طالبوا بحقوق. وعلى راس تلك الحقوق المطالبة بالتغيير الاجتماعي من اجل سودان جديد. يتجلى ذلك الاتجاه الرجعي بصورة أساسية وبالغة الأثر في الانقلاب العسكرى وما يتبعه من نظام. إذ ليس هناك انقلاب عسكري افضل من الآخر وإنما تتبارى جميعا فيما بينها لتعطيل التقدم الاجتماعي والحط من الفكر والخطاب السياسى وإغلاق أبواب الحوار بكل أشكاله.

يقع النجاح الثاني لأكتوبر في عقد مؤتمر المائدة المستديرة كنموذج متفرد قام على الحوار المفتوح خارج إطار الدولة. لقد تم مؤتمر المائدة المستديرة تحت ظرف معين استجابت فيه القوة الجماهيرية لنداء اللحظة التاريخية من المتمثّلة في كيفية معالجة القضايا القومية الماثلة والتي لم يتفق الضمير الوطني على علاج اهم تلك القضايا التي تمثلت في علاج نظام عبود لها عن طريق القوة العسكرية. وقد جاء ذلك الموتمر كواحد من فيوض وفتوحات تلك اللحظة التاريخية. وتظل أكتوبر ويظل ذلك الموتمر من اهم ما قدمت الحركة السياسية السودانية لمرحلة ما بعد الاستقلال. فقد جمع بين قيادات جيل الاستقلال وجيل أكتوبر من الشماليين والجنوبيين. وبذلك فقد كانت أكتوبر البوابة الكبرى لدخول جيل جديد في ميدان العمل والفعل السياسي. ولا يزال من تبقى من جيل أكتوبر من السياسيين وقادة الرأي يتبوأ مراكز متقدمة في قيادة الحركة السياسية. هذا وقد طرحت أكتوبر قضية الحريات بقوة. الا ان مؤتمر المائدة المستديرة لم يستوعب ذلك في إطاره الشامل. لقد نظر الموتمر لقضية الوطن ولكن في إطار حصر ذلك في ما اسماه بقضية او مشكلة الجنوب. وبذلك لم يهتم ولم يستوعب قضايا الهامش المرئي في دارفور وجبال النوبة والشرق والمناطق الاخرى. ولم يمن في افقه ان قضايا الهامش لها ابعاد اخرى قد تكون غير مرئيّة وقتها تتمثل في قضية المرأة وفقراء الريف والمدن. ولم يعط الموتمر اهتماما لقضية الدولة وكيف يمكن اعادة صياغتها وبناء اجهزتها لتفي بمقتضيات المواطنة وحقوقها، وان تكون المواطنة هي أساس بناء الوطن. بمعنى اخر فان قضية السودان الجديد والتي كانت مطروحة في ذلك الوقت لم تجد الاهتمام الفكري الكافي الذي كان من الممكن ان ينتقل بالسودان كله الى مراق كبري في بناء السودان الوطن الممكن.

ختاما يقع الأمر الأهم  في إطار النظر الى أكتوبر في إطار تعظيمها. فاكتوبر في الأساس لم تكن أمرا هينا أو حدثا عارضا في تاريخ السودان وتطوره السياسي والاجتماعي. إذ بعد استقلال السودان الأول والثاني يأتي أكتوبر في طريق التحرر الذي لم يكتمل بعد. ويظل على المستوى الإقليمي والعالمي واحدا من اهم أحداث القرن العشرين. فقد أعطت تجربة أكتوبر أنموذجا يعتد به في مجال التغير الاجتماعي السلمى. فاكتوبر بذلك قد أعطى البرهان الناصع لقوة حركة الجماهير وفاعلية العصيان المدني كوسيلة في صرع  دولة الاستبداد والجبروت القائمة على العنف بكل أشكاله. وكما يقول دارندورف تلك كانت ساعة المواطن.  فقد أعطى ذلك المواطن  عن طريق وقفته الجماعية المجال العام طاقته غير المحدودة.  بذلك فقد استعاد المجال العام سلطته في قيادة التغيير. ومن ثم فقد استعادت التنظيمات والاحزاب السياسية والنقابات وكل منظمات وتشكيلات المجتمع المدني حريتها في التنظيم وأخذ المجتمع المدني ينمو بشكل متطرد وحرية. غير ان الحرب بين الثورة والثورة المضادة لا تزال سجالا.


Abdullahi A. Gallab (PhD)

Associate Professor

African and African-American Studies

Religious Studies

Honors Faculty

President of Sudan Studies Association

Center for the Study of Religion and Conflict Affiliate

Center for the Study of Race and Democracy Affiliate

Center of Middle Eastern Studies (U of A) Affiliate

Arizona State University

College of Liberal Arts and Sciences

Office Phone (480) 965-2921

abdullahi.gallab@asu.edu

(1)  www.ashgate.com/isbn/9781409435723  

(2) http://africanarguments.org/category/making-sense-of-sudan/a-civil-society-deferred/

(3) http://www.upf.com/book.asp?id=GALLA001

(4) www.ashgate.com/isbn/9780754671626

(5) www.africanarguments.org/category/sudan/islamism/

 

آراء