البروفيسور الطبيب: عبد المنعم بله

 


 

 

شَوْقٌ إلَيكِ، تَفيضُ منهُ الأدمُعُ،
    

وَجَوًى عَلَيكِ، تَضِيقُ منهُ الأضلعُ

وَهَوًى تُجَدّدُهُ اللّيَالي، كُلّمَا
    

قَدُمتْ، وتُرْجعُهُ السّنُونَ، فيرْجعُ

   البُحتري

(1)

بئرٌ غير مُعطلة، لن يجفّ ماؤها ولو رحل. نتذكره بعد خمس سنوات من غيبه الكُبرى.

عَالِم هو مكتنز بالمعرفة، يَسّرَ المولى لنا أن نلقاه في دروب الحياة، وتكون صُحبته مُحببة رغم فارق السن. قريب إليك عندما تتعرف عليه. ودود، يُحسن احترام الرأي الأخر. ويُعنى بالأصغر سناً. كان دوماً يقول (إن التغيير إلى الأفضل أصحابه الشباب، ولن نقول كما اعتاد منْ هم في عمرنا إن الشباب لا يتقنون المعرفة مثلنا، بل نقول: هم أهل المستقبل، ومن انتبه منهم للفِكَر انعقدت عليه راية التغيير.)

(2)

صُحبته نعيمٌ أكبر من السِّعة، حتى تخال أنه من تواضعه يماثلك في العُمر، وتأخذك خُيلاؤك أن تقيس معارفك به، فتجد عند التحقيق أنك تملك حِفنةتراب أمام جبلٍ من المعرفة. خصّه المولى بذهنٍ ناقد، ثاقب. وتديُّنٍ راسخ عن عقلٍ وتفكُّر، لا عن تقليد وتتبُّع. كذلك معارفه، يحفر في كل شيء، ويقارِن ويستقصي المعلومة من مظانها الرئيسة، ليلقى زبدة الفِكَر وتفاصيل المعارف. يقرأ ويكتُب ويُحاضر كأنه ابن الأربعين وهو في السبعينات مما مضى من عمره. كانت بدايته في الطب البيطري ثم انتقل إلى الطب البشري ثم تخصص في صوفيا ثم ألمانيا الغربية قبل اتحاد ألمانيا، ثم انتقل إلى معرفة اللغة العربية والقرآنية و التاريخ و اللغات الأخرى. له كتب وأسفار باللغة الإنجليزية ، طبعها في الهند ، ولديه عند رحيله كتبٌ وأسفار تنتظر الطباعة والنشر . لمدة عام كان له برنامج تلفزيوني في دُبي عن الإسلام باللغة الإنكليزية، فأسلم على يديه مئات من الأسيويين.

يقول عن نفسه: (كنت أصلياً ولم أكن أُصولياً، ولم أكن متحزباً، ولم تكن معارف الإسلام الذي قرأناه أول أيامنا تُعنى بالشعر أو الأدب ولكني عدتُللفن والشعر عندما ازددتُ معرفة واكتشفت كم أنا كنتُ لا أعلم)

(3)

في بداية الثمانينات كان البروفيسور طبيباً استشارياً في جراحة الكُلى في ألمانيا الغربية كما أسلفنا، وقس أنت على ذلك. وعندما جاء دولة الإمارات المتحدة في بداية ثمانينات القرن الماضي، كان مستشاراً في أمراض وجراحة الكُلى. كان كثير التدقيق. حكى لنا من تجاربه أنه يكشف وجه المريض ويتعرف عليه قبل إجراء الجراحة، وصادف مرة أن رجلين بذات الاسم الثلاثي في ذات المستشفى وذات المواعيد، ولكن عمليتيهما تختلفان كماً ونوعاً، واحد منهما لإجراء عملية إزالة الوزتين والآخر كان ينتظره هولجراحة في الكُلى. أحدهما كان سابقاً الآخر وعندما كشف البروفيسور "عبد المنعم بله" وجهه، استدرك أن مريضه ليس هو، وفي الحال أمر بإيقاف كلالعمليات في المستشفى حتى اكتملت المراجعة، وكانت فراسته صحيحة.وأورد المناسبة في محاضرة عن أمراض الكُلى والوقاية منها والعلاج، ليُذّكرناشئة الأطباء بضرورة المعرفة اللصيقة بمرضاهم وخلق الصّلة الحميمة بينهم. والتدقيق يحيل الأخطاء الطبية إلى الصفر. وقال إن مهنتنا مهنة إنسانية تتعلق بحياة الإنسان، وهو من أثمن صنائع المولى، وقد بثّ مولانافينا العقل والتكليف، وغيرنا من الحجر والنبات تُسبح بحمده جلّت قدرته،وليس لديها ما لدى الإنسان من عقل.

(4)

أول من بدأ تعريفنا به، كان الصديق المهندس " مختار عثمان ". قال لي إن البروفيسور" عبد المنعم بله"، رجل موسوعي، ولو استدرجناه ليُحاضرنا، فإننا نكون قد غنِمنا. وقلت له: لم أتذكَّره. وقال سوف أعرفكم به فهو في الأصل مستشار في جراحة الكُلى، درس الثانوية في وادي سيدنا والطب في جامعة الخرطوم أواخر الخمسينات وتخصص في صوفيا وأمانيا الغربية وكان في بداية ثمانينات القرن الماضي كبير استشاري الكلى في ألمانيا الغربية،وحضر للإمارات عند بداية ثمانينات القرن الماضي. وهو موسوعي إن أطلقت له العنان، فلا مفرّ أنك مَجذوب لحديثه العلمي الشيّق السلس، فهو يُرسله بلغة عامية فصيحة، ويعيد معاني الكلمات العاميّة من تراثنا الثري ويبحر في تفسيرها بيُسر ويغنينا بنسبها في اللغة والتفسير والأمثلة العامّية الفصيحة.فهو يبدأ محاضراته بتعريفات المُصطلح في العربية والإنكليزية، وكثير من اللغات التي يتقن وقد قاربت التسع لغات، منها الألمانية والسريانية والعبريةوالبلغارية ومنها ما خفي عنا. يجيدهم كلهم. وقد زار عندما كان في ألمانيا قرية سورية ينطق أهلها بالسريانية ليتأكد، ولبعد الحدث وروايته لم نتذكر اسمها، وقد أضحت بعد الأحداث الجسام من بعد أربع سنوات من رحيله،نسياً منسياً دون شك.

(5)

في العربية يستدل بلغة القرآن، ويصلح شأن المُصطلح مما تعارف عنه الجميع، ويأتِ بالتصحيح لمعاني اللغة العربية الواضحة والخفية ويدلي برصفائها من الإنكليزية ويتخفف علينا بالغوص في عجائب اللغة القرآنية.كانت له في محاضرة أقمناها مُداخلة ثرية ذات مرّة، ولم نزل نتذكرها عن شمولية الآية القرآنية {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [الغاشية:17]؟

أدهشنا بالمعاني الجديدة، غير التي رواها المفسرون الأوائل، وبدأ في تشريح مكونات الإبل التشريحية، وأسرف في الوصف مع الترجمة للمصطلحات الطبية، وكانت مُداخلته ثراء لحاجة الموضوع، ولم يكن يحضِّر لها مُسبقاً. فقد كان باذلاً وقته وزمنه للآخرين، كان قائد البعثة الطبية السنوية التي تزور السودان من الإمارات، نهوضاً بالعمل التطوعي.

(6)

جلست بصحبته قبل أن تبدأ محاضرة له، وسألته: ألديكم علاقة بالبروفيسورحسن بله، والموسيقار " محمد بلة "؟ رد ضاحكاً: هما شقيقايّ الأصغران.قلت: كُنا في السبعينات نزور منزلكم مع الصديق " عمر محمد أبو القاسم "،ولم تكُن أنت هناك؟ قال: كنتُ خارج السودان.

هكذا يتعارف السودانيون في كل مكان. إن رقعة الأرض السودانية على اتساعها تبدو في بعض الأحايين قريةً صغيرة. جميع أهلها أقرباء ، أو بينهم صلة ومعرفة .

   

(7)

دعوناهُ مرّة أن يحدثنا في ذكرى مولد المصطفى سيد الأكرمين، وقدمه الدكتور "عز الدين هلالي ". وبدأت محاضرته على غير مع اعتدنا عن السيرة النبوية، وسجع الزمن الغابر وقصائد مسموعة منذ العصور الأولى. بدأ سيرة النبي الأكرم، كيف أعدّه المولى لتلقي الرسالة، مسلكه في حياته قبل الرسالةوسيرته قبل البعث، أخلاقه، أمانته، وسامته، وبطن عشيرته، وطريقة سيره،ومحبته الفقراء، كان يضع الحجر على بطنه الشريفة، لتحمّل الجوع وهو في نعيم الرزق من حوله، جوده، هيبته، قوته حين كسر حجراً ضخماً بفأس وقد عجز أصحابه أثناء حفر الخندق قبل معركة الأحزاب.

بدأ سيرة أخرى غير التي كُنا نسمعها كل عام في ذكرى مولد المصطفى.فكنا في سيرة النبي الأكرم، كأننا نسمعها أول مرة.

(8)

في محاضرة قدمها لنا يوم 20 أغسطس 2007 م عن أمراض الكُلى وأسبابها والوقاية منها والعلاج. وتحدث عن أهمية الاهتمام بالصحة الوقائية،لأنها تحفظ الجهد والمال. والسودان في زمان المحاضرة كان في ذيل قائمة الدول التي تهتم بالصحة الوقائية، رغم أنه قد ذكر عام 1949 كان على راس القائمة الدولة المُستَعمرة التي تُعنى بالطب الوقائي، قال (لدينا المساعدون الطبيون والمساعدون الصحيون ومفتشو الصحة، وتحدث عن السيدة " حنينة " أول سيدة تركب " الدراجة " في السودان، لم يزل يتذكرها في صغره. وكانت من مفتشي الصحة، تمر على المنازل، وتقيس المسافة بين الحماماتوقناني شرب المياه. وتأخذ عينة من مياه الشُرب لفحصها في المختبر.

وذكر البروفيسور "عبد المنعم بله" أن الكُلية والكِلية والكلوة جميعاً في اللغة العربية الصحيحة النسب، ففي الكُلية الواحدة نصف مليون مصفاة، وحجمها يمكن الإمساك به في قبضة اليد. وفي الكليتين عدد خيالي من الأنابيب.وإذا ربطت على بعضها، كانت كافية لتلتف حول الكرة الأرضية! وأنا كجراححذر كل الحذر في أن ألحق أقل الضرر بالكلية إذا اضطررت إلى ذلك.

كانت مُحاضرة محفورة في الذاكرة لثقل المعلومات وسلاسة شرحه وبساطة السرد، وأوصانا بشرب الماء، لأن المناطق المُبرّدة تخدع الجسد، ولا يشعر الإنسان بالعطش، وهو يورث الجفاف الجزئي الذي يتسبب في ضعف الكُلى ومن ثم فشلها.

(9)

استدرجناه في محاضرة أخرى عن " اخفاقات الجيل الثاني والثالث " من بعد الاستقلال. وكانت الصدفة قد جعلتني مُقدماً للمحاضرة: شارك في المحاضرة المهندس " عثمان مختار " والبروفيسور " عبد المنعم بله ". كانت القاعة محدودة الحضور، ثلاثون شخصاً. لم نُحظ بتسجيل المحاضرة، ولم نهتم لأن جاذبية الأحاديث وثراء المداخل واللغة والمعلومات وسلاسة تدفقها،حجبت كل مشاغلنا بالتدوين. لم تكن المحاضرة جلداً للذات، ولكنها قياس بمُدخلات ووسائل وآليات ثم المُخرجات لتلك الأجيال. أجيال توفرت لها مدخلات وكانت بين أيديهم وسائل وفق المُيسر في زمانهم، وبقيت المخرجات ومسئولية الجيل والوعي والقدرات المبدعة التي كان في مقدورها إنجاز أفضل مما كان. كانت مُحاكمة بكل أركانها: القضاء الجالس والواقف والشهود والحضور. وران صمتٌ عظيم ونحن نستمع. وذكر لنا البروفيسور:

(كنتُ في جامعة الخرطوم ونحن في نهاية الخمسينات. تأخذني العقيدة شأناً لا يدانيه خيار، وكان يميّزني أن المولى قد بث فينا نوره، وجعل عقلنا هو المصباح الذي ينير لنا الطريق، لم أكن مُقلداً، وكنت أنادي بأن نتخذ العلم منهاجاً لعصرنا. وقد عرفنا أنه قد ذكر المولى عزّ وجل في كتابه المُبين: أفلا تعقلون، أفلا تتفكرون، لعلكم تتفكرون، أفلا يتدبرون القرآن ...، إنها نعمة استخدام العقل مُوجِب التكليف، وكان رد الآخرين ضرباً مُبرِّحاً، ولم تزل آثار ضرباتٍ " بسواطير " في رأسي. سببها جماعة من أصحاب العقيدة من المُقلِّدين، لم يتحملوا نعمة سماع العقل ولغة العقلاء، وخطاب العصر والعلم،ولكن ربك ستّر، وصرت الآن في السبعينات، والعمر له سيد، فليأخذ أمانته فنحن على أتمّ الاستعداد)

وهتف جمع من الحضور: بعد عمرٍ طويل بإذن الله.

بعد أسبوع، وعند مطلع يناير2011 م، كان جالساً في صالون شقته ضحى.ودون شكوى مُسبقة، اتكأ وأسلم الروح كنسمة.

اللهم أنت صاحب الوديعة، وصاحب الوقت، والأمر منك وإليك، اللهم اسكنه مسكن الذين أحببت، وظلله من ظلال نعيمك المستديم الذي حفظته لعُبّادِك. أنت الواهب وأنت الرحيم وأنت الرؤوف وأنت المُعين الذي نرتجي في كل لمحة ونفس. وارزقنا بمنْ يرأف بالمسلمين ويخفف عنهم ويلات التشدُّد، وعثرات الذين يريدون أن يُرجعوا بنا إلى ظلام المعرفة. إنك نعم المولى ونعم النصير.

عبد الله الشقليني

9 يناير2016

abdallashiglini@hotmail.com

 

آراء