الدكتور: محمد عثمان الجعلي: رحيل مهيب
ليس العُمر إلا كمرور شهابٌ في الكون . برهة في زمن العلي القدير . لن يمنعنا الحُزن وملح الجفون ، أن نبتلع موسى عذابات الأحزان التي تمُرّ علينا زرافات . وينتقي الرحيل من أصحاب الأزهار الفوّاحة ،من الذين قدّموا الكثير في الوطن وفي المهاجر .تجده هادئاً لا تتعرف عليه إلا وتتعلّق به وتحبه . عليه عباءة تواضع العلماء . تجالسه فتستبشر ، وينسيك حلاة حديثه ، ولطف معشره ،كم مضى من الوقت ، بل تتمنى أن يكون الزمان رهن يديك ، ولكن مالك الوقت جلّت قدرته ، يختار للأرواح موعد استردادها . هي سنة الحياة اللهُم لا اعتراض على مشيئتك ، ولكن الحُزن لم يزل يجد أعشاشاً له بين أضلعِنا،فنفقد جُمانة تتوسط خرز العُمر ، كالطيف ، جاء برهة ورحل . فقدٌ عظيم لوطنه ومواطنيهولطلابه في مدرسة العلوم الإدارية بجامعة الخرطوم، وبقية بقاع المهاجر التي عمل فيها مستشاراً. لا تقُل لي : لماذا يهاجر أصحاب الكفاءات إلى خارج البلاد ؟ ، لأن الجميع يعلم أن ما يحدث في السودان، فهو طاردٌ للكفاءات وجاذبٌ لمنْ هم دون الكفاءة المهنية ، بل ودون الكفاءة الأخلاقية أحياناً . ولا يحتاج المرء لدليل ، فأمامك ورقة بيضاء منْ رآها عرف ما يُضمر كاتبها ولو لم تكتُب شيئاً !.
(2)
هو عالمٌ في إدارة الأعمال وتخطيط القوى العاملة . وهو التخصص الذي يفتقده الوطن كثيراً ، وهو علّة كل مشروع فاشل ، تمّ بدون دراسة جدواه الاقتصادية . قليل منا يعرف العجز ، عندما تكون الواردات أكبر من الصادرات ، أو تنهدم الصناعة التي تُخفف من ثقل العملات الصعبة ، أو ينهار مشروع النقل الأقل تكلفة في الترحيل ( شبكة السكك الحديدية )التي تركها المستعمرون بما تعادل 5500 كيلو متر ، ونستبدله بالسيارات الناقلة ذات الكلفة المضاعفة .و هل يصدّق المرء أن العمر الافتراضي للعجل الحديدي للقطار 50 عاماً ، فكم يا تُرى عمر العجل المطاطي للسيارات الناقلة ؟.
(3)
الدكتور" محمد عثمان الجعلي" عندما بدأ يكتب في الرواية قبل بضع سنين ، تفاجأ كثيرون وبدئوا يتساءلون : منْ هذا الروائي ؟ . أهو العالِم الذي كل ما مدَّ يده على ترابْ ،حوله كتلة من ذهب ؟. إن العمل الروائي لهو عمل مُضني . لقد كان الراحل " نجيب محفوظ " الذي بدأ يكتب رواياته في نهاية ثلاثينات القرن الماضي ، قد تحدث عن أنه يصنع لكل شخصية من شخوصه الروائية ملفاً خاصاً به : منذ رأى النور إلى التنشئة ، ثم مرحلة البلوغ والاختيار ، حتى الفعل والأثر في العالم الروائي .
فماذا فعل صاحبنا الدكتور" محمد عثمان الجعلي "؟ : لن تعُدّ خصاله ، ولن يكون لك سعة في محاولة الحديث عن لغته الروائية . شخوصه التي يبنيها ، ويرسمها في أرض المكان والزمان . يؤرخ لحياة المدن والأرياف الناهضة وأهلها ، يحفر في الوقائع . لمْ يولد الإنسان ملاكاً أو شيطاناً . فالواقع والبيئة هي التي تساعد في تطوير الميول الطبيعية .وتحول الإنسان إلى غريبٍ في وسط البيئة ، فيصير بطلاً في الشر أو بطلاً في الخير ، أو شخصية رماديّة . ثم هناك الصناعة الروائية . الإبداع الإنساني . وهي علائق بين مهارات متآلفة ، ومتشاركة ومُتحابة . فنجد تعبير مثل :
البناء في القص والشعر والموسيقى والرسم. ونجد الصياغة في البناء والصياغة في القص والصياغة في الشِعر وكذلك في الموسيقى و الرسم .وهناك صوت للكائنات والجمادات ،وصوت الراوي وصوت القصّ وصوت اللون وصوت النص . النهوض والسفر من السفوح إلى القمم وتدحرج الأحداث إلى خواتم ليس لأحد أن يتنبأ بها .
إن أكثر المناطق الروائية غرابة هي الجاذبية التي تجعلك تُمسك بالنصّ الروائي . لا يشغلك عنه شاغل ، فتعيش متصوفاً مَجذوباً ، تُسابق أحداث الرواية ، بما فيها من تسلسل جذاب ، وفراغات يتركها الكاتب لفطنة القارئ . تلك ميّزة اختّص بها الكاتب الروائي الدكتور "محمد عثمان الجعلي" . وهي دربة يشتغل عليها الكُتّاب سنين عددا ، لأن بُهار الجاذبية ليست بصناعة عشوائية ، فصاحبها متمرّس ومُتمكن وأفقه نحو القارئ أكثر اتساعاً .
(4)
هذا جزء من عالم الدكتور "محمد عثمان الجعلي" الروائي ، تقف أنت حائراً : أين وجد الوقت ليس للكتابة الروائية أو المقالات المنتشرة المتعددة الآفاق ، بل أين تدربت موهبته في الكتابة فدخلها عملاقاً ثابت الجنان ، وسط رياح هوجاء ، وهو في انعطاف العُمر !.
كتب " رحيل النوار خلسة " و" حفريات في ذاكرة الحوت " و "في الذكرى الثامنة لرحيل الزعيم محمد إسماعيل الأزهري" ، ذاك المبدع الرائع الذي رحل في زمان صناعة حوادث المرور!. وكتب " يا وطن الشدائد " وكتب " دفاتر أحوال الحضور والغياب : حواشي على متون الإبداع وكتب " وكتب "في ذكرى حرب حُزيران 1967 " وكتب " ضو البيت وداعاً"وكتب الكثير الذي نجهل .متقلباً بين المقالة الخضراء التي تنقي البيئة الثقافية و كتبَالروايّة. له لغة تمتّد سراطاً لا يشبه طريق أحد . اختطّ لكتابته أحرفاً من نُور .
(5)
قدمنا كتابه" حفريات في ذاكرة الحوت" في يوم من الأيام الفكرية بنادي السودانيين بأبوظبي . كان حينها هو يستشفي في مصر ، وكان الدكتور "مرتضى الغالي" في منصة التقديم :هرمٌ آخر يقدم لنا هرماً ... ، فهل من سياحة بين الأهرام الثقافية عندنا؟ . ها هي الدنيا ، لم تترك لنا سوى صفير الريح على المباني العتيقة التي حاول المستأسدون الجُدد غسيل ذواكرنا من أمثال هؤلاء.
(6)
التقيته أول مرة من بعد ذلك أثناء تكريم الجالية السودانية بالإمارات للمهندس المخضرم " علي أبوزيد " ، وكان شقيقي السفير "جمال محمد إبراهيم" يحدثني دائماً عن صديقه" الجعلي " كثيراً ، وكانت مقالاته في "صحيفة سودانايل الإلكترونية" ، تُنبه من كان في غفوة الأحداث فينهض يركض كالسّابح يسابق الريح. وجاء الزمان لنعقد قِراناً بين الكاتب الذي نقرأ له ، والشخصية الفريدة التي التقيتها ذات بُرهة . وتأنست معه في صالونٍ دافئ للدكتور " فتحي خليل ". ولم تزل الذاكرة والذهن يهتزان من طرب اللقاء ، كأنه جلس ليودّعنا . مرت الأيام ، أو دارت الأيام ، وجاء موعد الغيبة الكُبرى ، وهي أكبر من سعتنا على الاحتمال.
(7)
إن العالِم الخلوق قد تخرج في جامعة الخرطوم بكالوريوس الشرف ( 5) سنوات في إدارة الأعمال بكلية الاقتصاد عام 1973 ، ثم انتمى لجامعة " ليفر بول بالمملكة المتحدة ، نال فيها الدبلوم العالي ودرجة الماجستير التي استحق عليها جائزة أكاديمية هناك لتميُّزه في الأداء الأكاديمي ، ونال درجة الدكتوراه فيها أيضاً ، ثم صار بجامعة ليفربول مساعد محاضر ." فليفر بول" بدأ عمرها الأكاديمي عام 1881 ، وتخرج في الجامعة أربعة نالوا جوائز نوبل . بهدء عاش حياته وكما يقول صديقه دكتور فتحي خليل ( Low Profile )، متواضعاً ، يحمل كل الإرث العظيم ، ولا تخرج منه أنفاس العظمة والزهُو بما أنجز .
(8)
سبحانك ربي يا سيد الأكوان والأرواح ، إليك ننيخ الرواحل من بعد السَفر الطويل، وبككُنا ولم نزل نستعصم بجبالك العالية من الغرق في بحر زحام الدُنيا ، نستسمح فضلك العظيم وكرمك الفياض الذي فوق ما تتصوره أذهاننا ، أن تجعل للراحل مكاناً بين الذين أحببت واصطفيت من عِبادك ، إنك نعم المولى ونعم الرحمن الرحيم .
عبد الله الشقليني
11فبراير2016
alshiglini@gmail.com