دولة سنار والتخيُّل التاريخي في إبداع الدكتور محمد عبد الحي
مَرحى .. تُطلُّ الشمسُ هذا الصبحُ من أُفْقِ القَبول
لُغة على جسد المياه
ووهجُ مِصبَاحٍ منَ البلّور في لَيلِ الجذورْ
و بعضُ إيماءٍ ورمزٍ مُستحيلْ .
اليومَ يا سنارُ أُقبلُ فيكِ أيامي بما فيها من العُشْبِ الطُّفُيلِيِّ
الذي يهتزُّ تحتَ غصونِ أشجارِ ... البريقْ
اليوم أقبلُ فيك كلَّ الوحْلِ واللَّهَبِ المُقَدّسِ في دمائِكِ ،
في دمائي
أحنو على الرملِ اليبيسِ
كما حَنوتُ علَى مواسِمِكِ الثرّية بالتدفُّقِ والنَّماء
وَأقولُ ، يا شمسَ القَبولِ توهَّجي في القلبِ ،
صفِّيني ، وصفِّي من غبارٍ داكِنٍ :
لُغتي ، غِنائي
سنارُ ... تُسْفرُ في بلادِ الصّحوِ جُرحاً ..
أَزرقاً ، قوساً ، حصاناً ..
أسود الأعراف ِ ، فهْداً قافِزاً في عتْمة الدمِ
معْدناً في الشمس ، مئذنةً
نُجوماً في عظامِ الصخرِ ، رُمحاً فوقَ مقْبرةٍ كتابْ
رَجَعَتْ طيورُ البحرِ فجراً من مسافاتِ الغيابْ
البحرُ يحلُمُ وحْدَهُ أحلامَهُ الخضراء َ في فَوْضَى العبابْ
البحرُ ؟
إن البحرَ فينا خضرةٌ
حُلم ، هَيُوليٌّ
في انتظار طلوعها الأبديَّ في لغةِ التُّرابْ .
*
الدكتور محمد عبد الحي ( مقطع من العودة إلى سنار )
*
(1)
هذا عمل شعري مبدع ، ومدهش . يأخذك عبر صورٍ تلملِم أشتاتاً ، تجتمع في موقع شعري . تتجاوز الزمان والمكان . هذا الخاطر الشِعري هبط فوق عاصفة دوارة . لن تنتهي ، سجال بين النص والمعاني ، بين الصور التي تهبط تتلوى ، ولن تستبين التاريخ إلا عباءة فضفاضة . هذا فتحٌ في الشِعر العربي جديد . لم يزل جديداً على المسامِع التي تتحسس دبيب الشِعر في الليالي الظلماء ، في السكون الذي يصرخ في الآفاق .
ليس من بُدٍ أن نُقلِع بسفائننا من الأرض ووقائعها ورائحة التراب والأكواخ والطين والشجر والمطر والنهر والقوارب وحياة الإنسان فيها ، لنهرب إلى السماء وأحلامها التي لا سقف لها . ونبتني للإبداع مكاناً أرفع . الأفق صراط وصال يمنع الأرض أن تصل السماء، إلاّ حين يمتد البصر الخّلاق ويُكسر الحواجز . التاريخ وقائع على الأرض : الناس والمجتمع والسلطة والصراع والتصالُح ، والقسر والانكسارات . الحنو للريح حين لا يمكننا قهر القوي إلا بالاستكانة ، فالصبر على الجمار ،هو منهاج الذين يبدئون خطواتهم الأولى مُسرين في الليل ، يعدّون العُدّة و لا يعرف بهم أحد ، إلا حين يدخلوا المعركة التي يعرفون فيها النصر يقيناً قبل البدء و يستعيدون مجدهم من جديد .
أما الإبداع فقصة أخرى ، أكبر من الواقع الذي كان في بطن التاريخ ، فهي قضية معقدة ، هي قضية تاج الوعي وثمرة تطوره. منها من تستند على تاريخ مشوب بالروايات المتفرقة من رواة التاريخ الشفاهي أو روايات الرحالة ، أو الذين يرون مكان تسطُع الشمس فيه ولا يعرفون الليل الذي يغطى جبالاً لا يصلها الرائي ،لكن يعرفها المُبدع بقلبه ، وذهنه الوثاب .الإبداع يأخذ من الواقع عجينة يطبخها برؤى جديدة وعلى نارٍ هادئة ، لا يَصلُح وصفها قراءة للتاريخ ، بل ثمرة إلهامٍ المبدعين أينما كانوا .
(2)
سنتخذ منحى مختلفاً في تقفي آثار الخارطة التاريخية لدولة سنار، التي استوحى من بطونها الدكتور " محمد عبد الحي "مكاناً وزماناً لموقعة ديوانه الشعري .أكثر من ثلاثة قرون قبل أن تنهار بعد سيطرة الهمج ومن ثمة الغزو التركي المصري عام 1821. سنقوم بسرد ما تيسر لنا وفق الرواة التاريخيين وروايات الرحالة والرواة الشفاهيين ، وأثرها في اصطناع أرضية عالمٍ ساحر ، جذب شاعرنا الفخيم الدكتور " محمد عبد الحي " لإنجاز قصيدته الممتدة في خمسة أناشيد . وتجوّلت عمره القصير من بدء شبابه إلى رحيله . سبعة عشر تعديلاً وتطويراً للنص الشِعري . وآخر المخطوطات أودعها صاحبها دار الوثائق المركزية ، لتُسلم لعائلته من بعد عشر سنوات من تاريخ رحيله .
(3)
لم يكن الدكتور محمد عبد الحي ، مثل الكثيرين من مبدعي وطننا ، عصفت بكثير منهم عواصف البداوة ، وحفظوا تاريخهم وتاريخ إبداعهم شفاهياً في الصدور . ولم يكن ليكتب أسفاراً على عجل ثم يرحل . بل جلس يجوِّد النص الشعري لغة ومرائي وأخيلة وغابات وتصاوير ومنحوتات للإنسان الذي خلق :من القبائل التي استوطنت سنار وما حولها : الجميعاب ، السروراب ، والعبدلاب والجعليين والميرفاب والحسنات والمسلمية واليعقوباب والعقليين والخوالدة والكواهلة والشمباتة والقواسمة والكماتير والعلاطيوين والزبالعة والفونج والهمج والجعليين العوضيين والبطاحين والشكرية والحمران والمكادة .
ومن الأشجار في المنطقة تجول في غابات : التمر الهندي والدليب والسدر والإهليلج والجمّيز والعُشر واللّعوت والسَّلم والخِروع والسيّال والحراز والسِعدة والهشاب والجوغان والحناء والصفصاف والقَنا .
ومن المزروعات :الدخن والقمح والذرة والعدس والماش " لوبا عدس " والبازلا والبازنجان والطماطم والملوخية والسلق والرِّجلة والكرنب واللفت والبصل والفلفل الحمر والبطيخ والخيار وقصب السكر .
ومن الحيوانات : الخيل والبغال والضأن والماعز والكلاب والهررة والإبل والبقر.
ومن الطيور : النسر والعقاب والصقر والحداة والرخم والقطا والسمان والقمري والهدهد والدجاج البري والحبارى.
(4)
إنها البيئة التي خلق منها الشاعر الدكتور " محمد عبد الحي " خلفية لمزرعته الخيالية المورقة بأزهارها والعجائب . شيد لديوانه البنية التحتية من الأُطر المعرفية والمنهاج المنضَّد .أخذ من تجارب الآخرين وزادها قوة ونضاراً. عمل مختبره في تجميع الأحرف والكلمات وخرجت بصهيلها ترزم الآفاق . عرض علينا أيقونات هي من مفاتيح القراءة للنص الشِعري ، ليشاركه القارئ قصة "الإلياذة " التي تجولت تاريخ الإنسانية في عصورها القديمة في موطنه وفي الأوطان الأخرى . وتنقل الشاعر بين الأزمان بمنطاد القراءة والعيش في دنيا منفتحة على نصوص وآداب شعوب متنوعة . ونهل من الآداب المقارنة في مباحثه الأكاديمية ، لتكن له الدربة على الخطو المتسع بين الأجيال الإبداعية.
عندما زار " المِربَد " في بغداد ، في عِراق السبعينات ، وقرأ من شِعره . احتارت النُخب الشاعرة في المنتدى وسرت همهمات تقول : منْ هذا المُبدع الذي نهض بالدهشة كأنه ينظر مُستقبل شِعر العربية ، وهو يُثبتُ حفرياته في العمق الإفريقي ، ويستخدم تقنية سابقة عصرها دون شكّ. استعصت عليهم ملامحه ليتعرفوا من الملامح ولون سحنته من أنه ينتمي لإفريقيا والسودان قلباً ونبضاً !. وقعت النُخبة في ذات التباس الهوية عند العامّة !!
(5)
سنمّر مروراً حالماً على أوراق التاريخ دولة سنار (1504-1821) . ونُقيم خيمة هُلامية بقدر ما يتوفر لنا من مصادر موثقة ، ونورد التقديم الذي ارتآه الشاعر. لنترك للقارئ مساحة للتخيُّل :كيف تجوَّل إبداع شاعرنا في الزمان والمكان ، وكيف نهل متخيراً ومنتقياً من التراث ما يعينه على الذهاب على حواف المهالك . وقت الحروب والأوبئة وصراع الأقوياء ، من أهل السلطان والجيش والقبائل والأعيان والتجار ورجال الطرق الصوفية . في محاولة جادة لتبيُّن الطريق الذي سلكه في مسيره الطويل . وجلوسه في معبد الكتابة، لينسج هذا الشِعر الفخيم ، في زمان كان الشعر العربي يحاول أن يتنفس وينطلق من قيود الماضي وأوزانه الثقيلة على الكتف ، فكان سبّاقاً إلى السقف العالي قبل شُعراء العربية .سابقاً حداثتهم ، ومنيراً الطريق . مُعبِداً تضاريسه .وأصبحت من بعد تجربته الأرض منسابة منزلقة للتسفار الآمن ، بخطوات متزنة بطيئة ، كأنه يحفر في صخر اللغة باحثاً عروق كنوزها ، ووجده دون شك .
(6)
نحن أمام قضية دولة سنار المخْتَلَف حول أصولها : أأهلها من أصول أموية عربية أم من أصول شلكاوية أم من أصول برناوية أم من أصول أريتيرية ؟!، والفهم التقليدي المنقول من الإخباريين والشفاهيين والرواة الذين يخفُّون أغراضهم ، أو يفتت نسيج كتاباتهم النسيان والسهو ، فهم سود البشرة . وإلى الفهم الذي نصطلح عليه خلفية التخيُّل الروائي في الحكايات التي سندت الشِعر ومكّنته من النطق بحناجر أهل تلك الأزمنة . فكثير من نظائر الروايات تحقق فيها شروط التخيّل الذي يمكّننا أن نُجلس الرواية التاريخية في ميزان هويّتها : كيف قاربت أو فارقت التاريخ الحقيقي أو تاريخ رواية الخصوم ، أو نسجّت سجادتها على نول غريب الشكل والتكوين
. أما الإبداع " الشعري " فقضية أخرى رقيقة شفافة ، أكبر من السرد الروائي وأخصب أخيلّة وأبعد سماء من سقوف السرد الروائي مجتمعة . لأن الشاعر لا يصنع لنا من تصوره للتاريخ واقعاً للهويّة التي يريد لها أن تنطق بألسنتها شخوص روايته الشعرية والحياة التي يحيى النص ، بل يصور عالماً ممكناً لحياة حالمة راقصة بدلال ، أو ساجدة بيقين ، أو حزينة ببكاء المطر على سفوح الخد، تصنع مجرى لها على سطوح زلقة . تنهل منها القلوب الشقيّة المرهفة ، التي تحسّ بوقع الخطو على الثرى ، وتسمع بأذانها دبيب النمل .
(7)
تحدث في مهرجان جائزة الطيب صالح قبل ثلاثة أعوام الدكتور العراقي " عبد الله إبراهيم" في ورقته عن كتابه" التخيّل التاريخي " ليكن بديلاً عن مفهوم الرواية التاريخية . قاصداً المرجعية التراثية والتخيّل السردي وأصطلح على ذلك بالتخيّل التاريخي ، الذي وجد صعوداً مثيراً للعجب لرواية التخيل التاريخي . ثم يستقيم أمر أهم نماذجها في الموضوع ، وهو سؤال الهوية . وتحدث أن الأدب والفن لن يكون بمعزل عن سؤال الهوية ، ولا ينحسر ولا ينعدم في تراث الأمم . حافراً بين الأمثلة والحدود المتداخلة بين المرجعية التراثية والسّرد الروائي التخيلي الحديث والرؤية السردية الكاملة .الرواية التي تنشق عن الأصول التي خلفها التاريخ في سيرته . ومعرفة مقدار الملامسة لهذه المادة التاريخية و مقدار الانشقاق عنها .والمرويّات التي كُتبت من فئةٍ أو طائفة أو الرّواة الخصوم . إن أخبار التاريخيين وهم يتحدثون عن التاريخ المشكوك في أمره ، في حين أن التمثيل السردي يقر بالتاريخ التي استند عليه الكاتب من المنابع والمصادر دون تدقيق .
أما الشِعر فقضية طافية على حُلم سماوي غريب . أقام الشاعرُ بنية تحتية لقصة شعره من أولها إلى منتهاها .لذا لن يذهب ادعاء تأسيس الدكتور " محمد عبد الحي " ثقافة الإسلاميين الحاكمين إلاّ أدراج الرياح. هذا مُبدع وهؤلاء لا يتمتعون بفكر ولا ميّزة للتأمل ، بل الطاعة في المنشط والمكره ! . صفٌ من النّمل العامل وفق التنظيم والتوجيه . من فكَّرَ منهم ابتعد أو وقف يتأمل ، تتساقط القُشور من ملمسه الخشن ، وعادت إنسانيته إلى طبيعتها . غيرت بعض الثعابين جلودها ، فهل من عودّة ؟
عبد الله الشقليني
3 أبريل 2016
alshiglini@gmail.com