لنبدأ من أهل " هارفارد "عندما ترجم لنا المفكر الضخم ( جمال محمد أحمد ) أقوال رواد جامعتها التي تأسست عام 1636 م :
{هارفارد و بوسطن على ضفتي نهر شارلز طرفا شارب على شفة . دخلا التاريخ معا : بوسطن على نحو سمع العالم أصداء أحداثه ، هارفارد قرية بالقرب غير ذات شأن . هارفارد مشت مع الأيام . ازدادت صيتا و فسحة ، بوسطن أعياها ثقل التأريخ ، بلت . لو لم تكن هارفارد لأضحت بوسطن مدينة يروحها عشاق الآثار والباحثون عن أنساب أهل العُلا ، المتخيرون طعامهم وشرابهم من مطاعم و مشارب في مجتمع أوصد الأبواب على نفسه وقنع بالذي كان . هارفارد باعثة الحياة فيها بأساتذتها وطلابها و زائريها . لكنهما يحتاجان لبعض ، حاجة الزوج والزوجة يعرفان انهما لا " يلفقان " ، " كارهان معا يعيشان"} .
اليزابيث هاردوك
" بوسطن " نوفمبر 1959 م
*
{ يقولون عن هارفارد إنها عن نفسها راضية ، وبها مزهوة . كثيرون يرمونها بهذا وهي كمن لا يعي بالقالة ماضية شأنها ، بعض الأحايين تضع في يد القائلين المُبرر . فعلت هذا وهي تحتفي بمن تخرجوا عام 1935 م منها . كان حافلا برنامج الحفاوة وشملت محاضرة عنوانها " واستوت في السماوات هارفارد " قصد الذين قاموا على الحفل أن يروحوا عن أنفسهم وأنفس زوارهم بعنوان كهذا للمحاضرة ، ولكن ما كان بد من أن يتساءل الناس ، قالوا ، أتصدر النكتة إلا عن فئة من الناس تكاد تقول لغيرها أنظروا هاهُنا نحن القلة السعيدة ، لا يرقى لقمم سعدنا إلا المصطفون}
ماكس كنلف " هارفارد "
يوليو 71
(1)
أنأمل أن نحذو حذو الأمم المتقدمة ، أم نبني الجسور من الكُتب لتعبر عليها جيوش الهدم ؟
تأسست جامعة الخرطوم عام 1902:
لن نقُل تاريخها أو نسرد مسيرتها المعروفة ، ولكنها بدأت مدرسة أولية ثم متوسطة وثانوية . انضمت لها مجموعة من الكليات ثم ألحقت بها كلية الطب التي تأسست عام 1924. وانتهت مع استقلال السودان جامعة عام 1956.
منْ يريد أن يهزم منارة العلم الأولى؟!
عجباً ، فهي علمٌ يرفرف فوق سارية تعليم السودان الجامعي وفوق الجامعي. وأثرٌ طامح تتسمى بها مدينة الخرطوم وتتزين. إن انخفض الأداء فإن أسبابه عداء آخرين للجامعة ومكانتها العلمية وأعملت فيها معاول الهدم. تماماً كما يفعل " التكفريون الجُدد " بالعلم وبالآثار . بدأ إعادة تخطيط المدينة منذ مطلع القرن الماضي وسارت إلى عهد المهندس اليوناني المشهور "دكسيادس " في الخمسينات حيث أعاد هيكلة التخطيط وتطويره في المدينة. وإلى السقوط العظيم للمدينة والتخطيط كما نشهده اليوم، غرائب لا تكاد تتآلف. لا ذوق ولا ذائقة فن ولا علم تخطيط ولا نظافة ولا بنية تحتية ...!!. بل مصادرة للباحات التخطيطية العامة في المناطق السكنية ، فتحولت الأحياء لمعسكرات خلايا نحل لا علاقة لها بالإنسان أو البيئة .
(2)
انظر لسور جامعة الخرطوم المكسو بالطوب الأحمر والحجارة البارزة والحديد المطاوع قديماً : من قام بطلائه في تسعينات القرن الماضي ؟!!. أنظر لتصميم مدخل مجمع وسط جامعة الخرطوم على الطريق الرئيس. تجد تصميم المدخل لا علاقة له بالأبنية التاريخية والأثرية التي تمت عبر مراحل تطور عمارة جامعة الخرطوم !.
يمكنك أن تتعرف على صناعة الألفة المعمارية في استنبات الزهور البنائية اليانعة الجديدة على ذات البتلات والتيجان الأولى، فيعم التناسق كل نسيج البناء. ادخل أنت رواق كلية القانون القديم، أو كلية الاقتصاد قبل التشويه الذي حدث ،فتجد الامتداد الطبيعي لفن العمارة الجامعية. ولكنك في المقابل ، شاهد أنت إنجازات " مؤسسة الهدم " ماذا فعلوا بفن العمارة الجامعية !!!.
*
تطور العمران في جامعة الخرطوم يصلُح لمباحث في الدراسات العليا في العمارة التاريخية الهندسية.
(3)
لم تزل آثار البناء باقية في جامعة الخرطوم. حجر الأساس يرقد في أقصى الجانب الشمالي الشرقي من مبنى وسط الجامعة، قرب مبنى مكتبة الجامعة .وهو الجسد الأول الذي افتتحه الجنرال " كتشنر" عام 1902. كان البناء بالطوب الأحمر حسب المقاييس العالمية آنذاك، والمفقودة اليوم في السودان. كان يتم البناء ثلاثة "مدماك" ارتفاعا من الطوب الأحمر. وتُترك يومين للمعالجة بالمياه ، ثم يتم البناء عليها من جديد في اليوم الثالث. للطوب الأحمر قوالب "الكنيزر " للأنصاف والثلثين والأرباع والشبه المنحرف والقوالب المستديرة وتراكيب القبو المروحي والقبو المتقاطع والقبو الشراعي والقبو المقبب والقبو نصف الدائري والقوالب الزخرفية. والأقواس المتقاطعة وأشباه القِباب. لم تُستخدم الخرسانة المسلحة حين التأسيس، وقد كانت حينها تحت الاختبار ، لذا كانت السقوف ألواح من الخرسانة سابقة التجهيز في الأسقف. هذه من العناصر الأثرية لمباني العهد الاستعماري أواخر القرن التاسع عشر.
من فوق الأساسات يتم فرش طبقة من شرائح النحاس كعازل مائي. لم يزل كامناً هناك في مخبئه إلى يومنا هذا ، رغم مرور (114) عاماً على البناء الأول لكلية "غردون التذكارية "!. وتجد بديلتها اليوم اللفائف الليّنة المغموسة في الأسفلت والمتنوعة التراكيب والألوان. إن أمر "عوازل الماء " قد لا يعرف كيفية استخدامها إلا المختصين. فالرطوبة تنتقل بالخاصية الشَعرية لتتصاعد رأسياً عبر الحوائط وتؤثر إنشائياً على الحوائط الحاملة وغير الحاملة !!. كلها موجودة في العمارة الجامعية الأثرية بجامعة الخرطوم.
(4)
الأقواس المتقاطعة وأشباه القباب والزخارف البنائية والكرانيش ، يمكنك أن تشاهدها في السبعينات في مبنى الجامعة الرئيس في مُجمع وسط الجامعة ، كخلفية لمسرحية " بكيت " على الإنارة الكاشفة ليلاً، فتتعرف على عصر المسرح الشكسبيري بلحمه والدم وممثليه ينقلون العصر بحذافيره . المبني واجهة خلفية للمسرحية الحيّة التي أقيمت هناك ذات ليلة !! ، أو أن تشهد ليلاً مهرجاناً شِعرياً للشاعر الفلسطيني الفخم " محمود درويش " في سبعينات القرن الماضي يمثل مسرحية الرجل الواحد ، ويلقي من قصائده :
*
الرماديّ اعتراف،
و السماء الآن ترتدّ عن الشارع و البحر،
و لا تدخل في شيء،
و لا تخرج من شيء... ولا تعترفين
ساعتي تسقط في الماء الرماديّ .
فلم أذهب إلى موعدك الساطع .
*
وجماهير الطلاب والطالبات يملئون الميدان الغربي لجامعة الخرطوم عن آخره ، وينتهي اللقاء الثقافي في الثانية عشر ليلا.
*
أين نحن الآن من إغلاق البوابات مساء في الجامعات!!!!
ربما أجيال اليوم تربّت على نغمٍ رتيب ، السكن كيفما يكون ، ووسيلة المواصلات أنا تكون .يأتي الطلاب منهكين للدراسة . يقضون اليوم إلى الغروب ثم تغلق الجامعات في بداية الليل . العمر الجامعي الأكاديمي صار قصيراً لا يسع طلاب وطالبات التعليم الجامعي . إذن لا تسأل لماذا !!.
(5)
ليست قنوات التواصل الاجتماعية وحدها التي تتحدث عن أمر جامعة الخرطوم ، ولكن لدينا بصر وبصيرة تجعلنا نتحدث عن السبب الأساس للأزمة . ولماذا قضية جامعة الخرطوم اليوم .
أين " التخطيط العمراني " !؟ ...
ألم يفكر المخططون في إخراج القيادة العامة وقيادات الأسلحة من الشجرة وأم درمان وبحري ، لتصبح الخرطوم مدنية خالية ،مثل كل مدن العالم ؟!.
*
تم ضم الكليات المتخصصة إلى الجامعات الجديدة حسب مسميات الدولة . وهو شعار التعليم العالي مطلع تسعينات القرن الماضي. ومعهد الكليات التكنولوجية التي كانت مكاناً لتعليم الفنيين ومساعدي المهندسين كتجربة أقامتها منظمة التربية والثقافة والعلوم التابعة للأمم المتحدة. وقد تم ترفيعها وأصبحت جامعة. وتم هدم التجربة الوسيطة !!.
(6)
فقدت الدولة المهارات المتوسطة والفنية ومساعدي المهندسين، والحرفيين. من قبل كان معهد تدريب الحرفيين، وسكك حديد السودان في عطبرة والمؤسسة العامة للبناء والتشييد ، وغيرها مكاناً لتخريج المهارات الفنية في أعمال النجارة والبرادة والحدادة. ..الخ . لذا لا نستغرب من العمالة الفنية الأجنبية وهي تقوم " بسد الذرائع " في مسألة الهندسة والبناء، لنقص الكفاءات الفنية والوسيطة " أيام البترول " الذي فقدنا جلّه بفصل الجنوب ( رحمة الله عليه ) !.
لا أحد يهتم للآثار عندهم . ألمْ نر معاول هدم الآثار لدى طالبان أفغانستان عندما كانت تحكم ؟.و كيف هدمت تمثالاً لبوذا الذي تم نحته في جبل قبل 3000 عام، أو معاول " داعش " كيف هدموا آثار العراق ، أو " دواعش مالي " كيف هدموا آثار " تمبكتو "!!.
ولا أحد درس جدوى نقل جامعة الخرطوم ، نظير التصرف في المباني الأثرية أوهدمها أو غير ذلك . كثير من المباني الأثرية والتراثية ، تظل تعمل ، وتقام الاحتياطات اللازمة لتظل في عين الرعاية .
(7)
إن الجامعات التي تُبنى بعيداً، يتم تجهيز مدن جامعية لها وقاعات المحاضرات والمعامل والمختبرات والمكتبات والمعينات الإلكترونية ، ومن ضمنها المباني الإدارية وسكن الأساتذة والطلاب والطالبات. وتوفير الخدمات لها تماماً ككل جامعات العالم. لا أن يتسول الطلاب والطالبات سكن الطلاب !!، وهو سجن لا يصلُح لطلاب الدراسة الجامعية، دعك من النشاطات الرياضية والثقافية المعدومة في زمن الغلو والتشدّد. فهذا مشروع لن يستطع دراسة جدواه أحد أو إنجازه في السودان بالتصور العصري لقضية التعليم العالي.
(8)
تمتلك جامعة الخرطوم في ثمانينات القرن الماضي أرضاً في منطقة " سوبا " بمساحة وقدرها (2700) فدان جنوب منطقة مستشفى سوبا الجامعي وجنوب خط السكة حديد وبقرب قرية " عِد حسين " القديمة . تم تخصيصها لجامعة الخرطوم بقرار جمهوري أيام " 25 مايو" عام 1975 في عهد المدير البروفيسور " عبد الله الطيب ". خصصت الدولة عدد(9) قسائم زراعية مملوكة لجامعة الخرطوم ومكتوب على شهادات بحثها بالقلم الأحمر (لا يحق للجامعة التصرف فيها بالبيع أو الهبة). وبعد سرقة (2000) فدان من أصل ( 2700) أوائل ثمانينات القرن الماضي ،تم رفع دعوى قضائية ضد المشتركين في سرقة أراض جامعة الخرطوم تلك منذ 1983 .
ماذا تبقى من مساحة (2700) فدان ؟
ماذا تمّ بشأن 36 فدان المملوكة لجامعة الخرطوم في منطقة " شمبات " ؟
ماذا تمّ بشأن مجمع داخليات " البركس " ؟
كانت جامعة الخرطوم تمتلك (605000) متراً مربعاً من المساحات المسقوفة: قاعات محاضرات ومختبرات ومساكن أساتذة وداخليات طلاب وطالبات ومطاعم ومباني إدارية ومستشفى "سوبا" الجامعي ومستشفى الحوادث" بسوبا "وكليات الطب وكليات الزراعة والبيطرة والمستشفى البيطري وكلية التربية وكلية الصحة. تم ذلك وفق إحصاء أصول الجامعة كاملة ، الذي قامت بتنفيذه خلال عامين لجنة البروفيسور الراحل طيب الله ثراه " عمر الأقرع "، قبل أن يعلن هو استقالته المشهورة بعد إقالة مجموعة من أساتذة جامعة الخرطوم للصالح العام 1992 !!!!
ماذا بقي من تلك المساحات ؟! ومنْ يعرف ؟!
(9)
بسبب الأمطار والسيول عام 1988 ، طفحت الجُثث من مشرحة كلية الطب بجامعة الخرطوم ، وتم تخصيص ميزانية من المعونة الأمريكية وتم تقديم العون السلعي ( القمح الأمريكي ) للسودان ليتم بيعه لتمويل مجمع كلية الطب ( سبعة طوابق لتضم كل أقسام كلية الطب ). ( وامتداد كلية الهندسة) ، و امتداد مبنى كلية البيطرة( سبعة طوابق ومستشفى بيطري ومبنى إداري ) . وخصصت منظمة الصحة العالمية كامل معدات معمل التشريح لكلية الطب بجامعة الخرطوم : ( عملي ورقمي ). وسافر ممثلين عن جامعة الخرطوم للاختيار من النماذج المتوفرة في الولايات المتحدة مطلع 1989. واستمر أمر التمويل السلعي إلى أن جاء انقلاب 1989 . وتم إغلاق مكتب المعونة الأمريكية بالعمارة الكويتية . وانتهى أمر التمويل وأمر البناء وأمر المعدات !!.
(10)
قد لا يعلم كثيرون أن " مدرسة غرورون التذكارية " التي تم افتتاحها عام 1902، قد توسعت على مرّ السنوات، وتم ضم ثكنات الجيش البريطاني لتصبح داخليات للطلاب بعد رحيله .وتوسعت مع السنوات وشارك بناء داخليات الطلاب بها مكتب استشاري الأجنبي " بتر مولر ". ولاحقاً تم بناء داخليات بتصميمات المهندسين المعماريين الوطنيين في تطور عمارة مجمع داخليات " البركس " . ويرجع الاسم لمجمعات سكن الجيش البريطاني قبل الاستقلال . .
منذ تكوينها كانت كلية غردون التذكارية ، ثم جامعة الخرطوم يتم تمويلها والصرف عليها عملاً خيرياً، تم إقامته في المملكة المتحدة تخليداً لذكرى غُردون باشا! ، ولكن انقطع سيل الأموال الخيرية منذ بداية السبعينات برغبة الدولة السودانية آنذاك!! . وصارت نفقات الجامعة تدفعها الدولة، وجزء آخر هو ريع ممتلكات الرجل الخيّر "أحمد محمد هاشم البغدادي " الذي أوقف الكثير من الأراضي في وسط الخرطوم ووسط أم درمان ريعاً لطلاب كلية الطب التي تأسست عام 1924.
(11)
نحن لا نكتُب مساهمة في الهرج العام، ولكنا نكتُب ليعرف الآخرون أن ماضينا دون شعوب العالم أفضل من حاضرنا. ومستقبلنا إن تفاءلنا خيراً سيصبح تماما كما تؤول إليه الأرض من بعد ارتطام نيزك بها، فتختفي الديناصورات ويبدأ عالمنا من الصفر!
عبد الله الشقليني
7 أبريل 2016
alshiglini@gmail.com