أَنا وَحْدي كُنْتُ أَسْتَجْلي مِنَ العالَمِ هَمْسَهْ
وأَسْتَبْطِنُ حِسَّهْ
أَسْمَعُ الخَطرَةَ في الذَّرِّ
واضْطِرابَ النُّورِ في خَفْقَتِهِ أَسمعُ جَرْسَهْ
وأَرى عِيدَ فَتىَ الوَرْدِ وأَسْتَقْبِلُ عُرْسَهْ
وانْفِعالَ الكَرْمِ في فَقْعَتِهِ أَشْهَدُ غَرْسَهْ
*
التجاني يوسف بشير من قصيدة " الصوفي المُعذّب "
(1)
قرأت كثيراً في ورق السماوات الذي يسَّرته الحدّاثة وصُنّاعِها . تقرِّب البعيد وتجمِّع الذين تشتّتوا في أركان المَعمورة . قرأت حواراً لا يتخذ طريقه الموضوعي كما كُنا نظُن ونعتقد ، بل راوح بين اختلافات في رؤى الشخصية حول " هل من الممكن الموافقة على قوانين حقوق الإنسان الدولية " أم "أنها تخرج عن دائرة الفكرة الجمهورية ؟".
لا رغبة لي في مصادرة الخلاف بينهم ،بل ليتمكّنوا من استعادة حيوية أفكارهم بالعرض على الرأي العام ، وليدخل الكثيرون ليطرحوا التساؤل في متون الفكرة وأفرُعها والهوامش. ولا أرى من بأسٍ أن يحاول الجميع استعادة حرية فكرية في ظل سيادة نظرات متعددة للأمر في فضاء مفتوح. ولكن عدم صبر البعض على تحمُل الحوار القائم في مدونة " سودانيزأونلاين" الإلكترونية ، رشح عنه ما هو شخصي ، وهو أمر لا يفيد في تطوير البعض أنفسهم، وفق ما أرى . وليس الموضوع الكتابة عن الفكرة من داخل الجماعة أو من خارجها ، ولكنها قضية فكرية يتعين على الآخرين الاطلاع عليها ، لا أن تمس الشخوص والأفراد ونتهرب عن الحوار الفِكر تحت عنوان ( عدم نشر غسيل الخلاف على الجميع )، وما أسهل ذلك. ليت زمان الآراء والحوار الذي اعتدناه منذ سبعينات القرن الماضي يعود ، وليت دائرته تتسع لتعميق التأويل ونفض الغبار عن الفكرة الجمهورية وإعادتها للحيوية ، بتطوير التأويل . مثل الذي كانت منهجاً منذ سالف العصر والأوان.
(2)
عرفنا أيضاً أن أصحاب الفكرة الجمهورية، اعتادوا الصبر على الخلاف مع غيرهم ، فكيف اليوم لا يصبرون على بعضهم!؟ .كان معلمهم صاحب الرؤية الأستاذ "محمود محمد طه" ، يقول " نحنُ نحتفي بالفكر المُخالف " . ووفق رأيه أن الفكر المُخالِف يبيّن للجماعة ما غفلت عنه النفوس ، لتُصحِح المسار الفكري وتنهض لتواصل ، حتى تكتمل المُخرجات المُثمرة . وقد شهدنا في تاريخهم الكثير مما كانت تُسمى " أركان النقاش " في ثمانينات القرن الماضي إلى أن هجمت عليهم عاديات السياسة وأهلها . وتم تحريم كُتبهم ، بل إحراقها . وجعل بعض الجمهوريون من المنافي وطناً بديلاً ، بعد أن شقَّ عليهم غضب السلاطين ومكر الكارهين. كانوا في الماضي أهل الحوار وأربابِّه وصُنّاع نهضته . وعندما يكاد الحوار أن يأتي بثماره ، كان الطرف الآخر الذي يتبحر في تفاصيل النقل عن اجتهادات السلف كأنها مُسلمات مقدسة ، لأن مفردات لغة صاحب الفكرة الجمهورية عميقة الإبحار لا تشبه الطافحين على النصوص والمقلدين السلف دون إعمالٍ للذهن الناقد. و هو ليس ذلك بغريبٍ. يخرج المُتعصبون ضد عباءة التسامح بالضرب ، والجمهوريون لا يستجيبون ، فليس لديهم في عُرفهم رد العُنف بالمِثل.
(3)
خرجت مؤسسة تقليد اجهادات العصور الماضية من مقابرها العميقة . أعملت المعاول عملها في إخراجها من قبور التاريخ ، لتنال ممن ينتمون للفكرة الجمهورية بالعِصي أولاً ، وامتدّ لكسر العظام. وهو ما شهدنا في السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي . كانت الحقيقة العارية هي أن " الفكِر يقف في وجه مؤسسة القمع" . و وصل نهايته المعروفة : " القتل بسبب الخلاف على الفكر " ولا يصلُح تسميته " تطبيق حد الردّة" ولا يحزنون . وهي قضية معروفة للجميع انتهت بقتل الأستاذ "محمود محمد طه "ودفن قبره في مكان مجهول في الصحراء غرب أم درمان في منطقة تبعد عن مركز المدينة ما بين ( 20- 30 كيلومتر) حسب شهادة قائد الطائرة التي أقلت الجثمان من بعد إعدامه في ذات يوم تنفيذ القتل من شهر يناير 1985 .لا أحد يمكنه الآن أن يتعرف على قبره !.خصومة جافية ، وتحلُل من كافة المُثل الأخلاقية القيمة .
(4)
لقد تمَّ لاحقاً نقض الحُكم، من قِبل المؤسسة القانونية. وأثبتت خطأ الحُكم أثناء حكم الديمقراطية السودانية الثالثة. إذ إن تحويل الاتهام أمام المحكمة من تهمة "إصدار منشور مُعارض" إلى تهمة "الردة "بواسطة " قُضاة الطوارئ " في 1985 ، كان خطأ جسيماً . هل تلقى أهل الأستاذ " تعويضاً " ؟ ، رغم أن الرَّوح من أمر ربي . وقضاة الطوارئ ، موجودون و يفخرون بأن لهم سابقة قضائية !!! .
(5)
ما الذي يظلّل الجمهوريين من الهجير . لا سقف يحمي من وهج الشمس الغضوب ولا يدٌ تُربِّتْ. فجماعتهم لاقت العنّت في موطنها ولم تزل .وأسلحة التكفير تواجههم أينما تكون متوفرة ممنْ يعرِف وممنْ لا يعرِف ،فمؤسسة التقليد الأعمى هو ديدن العامّة ، فسوق التكفير رائجة لا سيّما هذه الأيام . والإنسان هو الوحيد الأضحية بلا أدنى اعتبار ، وقتله أصبح عادة في زمن . لا أحد يعرف معنى " الصبر الجميل " الذي ورد في الذكر الحكيم .
(6)
فليستنير الجمهوريون في محاولتهم تقفي أثر النبي أكرم الأكرمين، وينهلون كما تنهل المتصوّفة . فهناك قدرة على تمرين العقل البشري على الصفاء ، فيرفع القدرة على الفرح العميق بالتأمُل، في ظل ما نشهد من ظلم يعم المعمورة . وعرض الأحاديث النبوية على الأنوار القرآنية ،هو منهاج يناقض مؤسسة التقليد في انتهاج " العنعنة " وأحكامها . وفي تاريخنا أن مؤسسة التقليد قد قامت بفصل الشاعر الفذ " التجاني يوسف بشير" . وقصته مع سدنة " المعهد العلمي في أم درمان" ، من أزهريي المراجع ، وسدنة مؤسسات النقل ، قصة مشهورة .ولنا من الأسباب المُضمرة في إيرادنا جزء من قصيدته أعلى المقال .
(7)
جلّ لقاءات الجمهوريين سابقاً كانت في بطون الجامعات وأماكن استراحتهم. وفي تقاطُع الطرقات يعرضون كُتيباتهم بأثمان زهيدة ، فطريقهم مُيسر للقراءة . وبعض المدائن وأشباه القرى التي زارها أستاذهم " محمود محمد طه " مُبلَّغاً تأويله الجديد ، وكتبه ومقالاته وحاضراته كلها مبذولة لمن يشاء في موقع الفكرة الإلكتروني ، الذي صار منهلاً للتعرف على فكرهم ، وبديلاً عن الكُتب التي تم حرقها بعد اغتيال المفكر " محمود محمد طه " ،و التي لم نزل نعتبرها واحة من واحات الاستنارة في زمانٍ تعِس. فضاء الحريات الفكرية وقتها كان موارباً على فضاءات الرأي والرأي الآخر، بقدر سعة "عيون" السلطان في المعرفة . على الأقل توفرت داخل حرم الجامعات إن استعصّت على كثير من الأمكنة. ولم نكُن نحسب أن تنقلب على الجمهوريين السلطة فجأة ، ومن خلفها أعداؤهم التاريخيين ، يُمسكون بخيوط عرائس الحُكام ، ومن ثمة خرج التكفير إلى العلّن ،خوف سحب البِساط عن أصحاب الدعوة السلفية . وتحولت تُهمة "إصدار منشورٍ مُعارِض" إلى تهمة "الردة عن الإسلام" ، بل وكان من ضمن الحيثيات أن المتهم : الأستاذ " محمود محمد طه " قد فات على استتابته أكثر من خمسة عشر عاماً ، وليس هنالك من استتابة لثلاثة أيام أُخر ، مما جعل " المتهم " يرفض المحاكمة يتنبأ بما سيحدث من بدء المحاكمة الصورية . ووصف قضاتها حينها بأنهم مأجورون للسلطة التنفيذية ، ولم يمتنعوا أن يكونوا مطيّة لها .
(8)
و تمّ التصديق من رأس الدولة حينذاك في يوم الخميس وتم التنفيذ يوم الجمعة 18 يناير عام 1985. لا إجراءات جنائية ولا فقه قانون ، كانوا من قضاة شرِعة الأحوال الشخصية ، ذات الأصول الدينية في معاملات الزواج والتطليق والإرث ومعاملة النواشز من النساء . تحولوا بين يوم وليلة إلى منصة قضاة جنايات !!. وقرروا الإعدام ، ولم يتركوا لرأس الدولة من سبيل سوى التوقيع ، فقد أوضحوا له إنهم حكموا وفق الشريعة ، وهو أمر رباني، لا سبيل إلّا طاعته بالتوقيع . ونسأل نحن هل توقيع " رئيس الدولة " يجوز في شرعهم ؟!.
نعلم أن الثلاثة معروفون بصنّاعة هذا القانون. اختاروا اجتهاداتٍ بعينها كمصادر تخيروها من نثير اجتهادات الأولين لصناعة مواد القوانين " الشرعية " .وأفرغوا هيكل القوانين الجنائية التي كانت موجودة في السودان حينذاك ، وصرنا نستمع للهرج :
الشهود العدول " يتسلقون الحوائط ليشهدوا على جرائم الزنا !!
(8)
هذه قطرة مما يسميها البعض " قوانين سبتمبر " . وتمّ ذبح الأضحية " محمود محمد طه " من فوق هيكل حديدي صنعته الدولة في ذاك الزمان ، لتُظهر عملية " الشنق " قبل التنفيذ وبعده للمشاهدين ، حسب متطلبات الجهة التي تقوم بتنفيذ الأحكام .وكانت تجربة إقامة هيكل حديدي لهذا الغرض لأول مرة في تاريخ السودان . تم قياس الأحمال وطول حبل الشنق ونوعه ووزن الأضحية ، حتى يكون السقوط وفق الجاذبية يُكسر فقرة تفصل النخاع الشوكي ولا تُفصل رأس الضحيّة!!. منصة سينمائية نَزلت إلى الواقع . قتل ثم تشفي . آلاف الشهود تجمعوا في اليوم الحزين، ظهراً قبل صلاة الجمعة . غطى المشهد كل منطقة سجن " كوبر " وما حولها .يومٍ كالح السواد أطلّ في زمانه ذاك، ولكنه أصبح اليوم عادة تصورها كاميرات الفيديو وتشهدها حقيقية في جهاز " الرائي " !.
(9)
الآن مؤسسة القسوة أطلقت العنان للموتورين ليس إلا ، ومن خلف ذلك " فتاوى " يصنعها البشر، تسندهم وينفذون وفقها !.لم نكُن نعرف أن إزهاق الأرواح صار سُنة التابعين من أهل التكفير. يتجدد بمرور الوقت، وتغيُّر الأزمان لمصلحة مؤسسة النقل. بعد التعذيب أو القتل، يقوم القتلة إلى الصلاة ،إذ لم تنههم صلاتهم عن المُنكَّر والفحشاء.
يظهر أرباب الجمود العقدي وأهل الصَّمدية من طرف ، لا يرون غير تنظيمهم هو الصواب .ومنْ يناقشهم أو يحاورهم ، يعتقدون أنه قد خرج عن المّلة أولاً ، ثم يؤدبونه كما يظنون بما يتيسر من عنفٍ جسدي. وبعد " محاكم الطوارئ " حلّ التضييق على المنتمين للفكرة الجمهورية منذ 18 يناير 1985 وما بعدها . هم يرفعون راية الحوار ، في حين يرفع الآخرون راية التكفير. واستمر الحال .
(10)
انتقل العُنف من الذين يريدون أن يستعيدوا الماضي منهجاً ومسلكاً . يدعون لعودة الخلافة الراشدة .كانوا يظنونها مثالاً يُحتذى ، وأن أهلها ملائكة أطهار ،مُبرءون من ضيّم السياسة و سلبيات الحُكم . ولكنهم جميعاً يصمتون أمام حقائق التاريخ وسلطة الحُكم وطغيان السياسة . فقد كادت واقعة اجتماع " سقيفة بني ساعدة " عقب رحيل النبي الأكرم ، أن تجُّر الصحابة الأجلاء إلى الحِدة و الخلاف حتى كادت ألفاظ الجاهلية أن تسود خلال تنازع الخلافة بين المهاجرين والأنصار والنبي الأكرم لم يٌدفن بعد!.
(11)
ومن بعد مقتل الصحابي " الزبير " والصحابي " طلحة " وهما من المُبشرين بالجنّة في " معركة الجّمل " ،بين جيش الصحابي "عليّ "وجيش أمنا وأم المؤمنين " عائشة "، التي قال عنها النبي الأكرم في مراجع أهل السنة والجماعة " خذوا نصف دينكم من هذه الحُميراء "!.
ما هو الحصاد ؟!
لم يختلف الصحابة في أمر الدِّين ، ولكنهم اختلفوا في أمر السياسة والحُكم . وهي قصة حاول الكثيرون محوها من الذّاكرة . هي عِبرة لمنْ يعتبر من الكوارث التي تزجّ بأمر الديّن في أمر السياسة و الحكم. أما النص القرآني ( منْ لم يحكم بأمر الله ) فهو خاضع للتفسير والتأويل والاجتهاد . والاجتهاد أمرٌ بشري بامتياز. فليست الحزبية للجمهوريين - وفق ما أرى - منهاجاً طيباً لنشر الفكرة الجمهورية ، فكُتبُها منشورة على الملأ ، فما الهدف من تكوين الحزب !؟ . أيبتغون منبراً حُراً للفكر أم سلطة يدخلونها عبر السياسة ؟! . ليست الفكرة الجمهورية معصومة من النظر عميقاً في قضية التأويل . لا انتهت القضية ولا رُفعت عنها الصحائف والأقلام ولا اكتملت المسيرة الفكرية برحيل الأستاذ "محمود محمد طه " . فقد كان أستاذهم يرى أن شرعية النشر للفكرة واجتماعات أصحابها وفق ما تُيسّره ظروف المرحلة. لم تكُن السلطة ولا الدولة الدينية هدفاً - وفق ما أرى - ، أما دستور الحزب الجمهوري فقد كتب صاحبه صفحاتٍ قليلة في الأربعينات ، ثم في بداية الخمسينات من القرن الماضي ، فكيف نحن الآن من تطور الدساتير، بأنواعها ، وطرائقها في فقه القانون الدستوري ؟
(12)
وما جرّبه أهل السلف من المخالفين للفكرة الجمهورية ، صيَّر تاريخهم إلى ملكٍ عضود ،يرثه الأبناء عن الآباء ، حتى أن أحد كتبة الوحي وهو الصحابي " معاوية بن أبي سفيان " ،كان يُرغِم بعض الصحابة من كِبار السن ، ليبايعوا ابنه " يزيد "، فيُرسل إليهم البِغال ومعها الحراسة وعدة السفر لتأخذهم للبيعة!!. و التاريخ عبرة لمنْ يعتبر . فأي فكرٍ يطمح إعلاءه الراكضون للسياسة طريقاً إلى الحُكم ؟ .
أيبتغي الجمهوريون وجهاً آخر من وجوه " الدولة الدينية "؟ . إذا لماذا إعلان الحزب الجمهوري؟. الأحزاب من التجمعات التي تقود الوصول إلى السلطة . ولأن الفكرة الجمهورية تنهل في فكر ديني ،فإن طريقها سيكون إلى الدولة " الدينية " ،إن صَدَق النظام الذي منحهم ترخيص قيام الحزب . وتجربة " الدولة الدينية " ماثلة للعيان . يتلظى منها الجميع ، بمن فيهم الذين قفزوا خارج المركب عندما هبّت ريح صرصرٍ تُزلزل.
عبدالله الشقليني
10 مايو2016
alshiglini@gmail.com