(درب العافي) للقاص: سيد أحمد العراقي

 


 

 

لابد من الفعل ولو طال أمد الانتظار والقراءة وحدها ، تظل بتراء إن لم تلحق بها الكتابة ، وهما جسدا توازن المبدع . 

لن تستريح عزيزي القارئ أو القارئة إلا حين يكون الكتاب بين يديك ، وتذهب بعيداً تتخلل ضفائر تلك المجموعة ، فيروق لك المكان والزمان ، وتمتلئ طمأنينة .
(1)
(درب العافي ) مجموعة من ستة عشر أقصوصة، ومقدمة جليلة تُفتِن القراء بقلم البروفيسور "عبد الله علي إبراهيم" ، ومقتطفات من حوارات الإنترنيت وقطوف من ذهب كتابة الدكتور حسن محمد موسى ودكتور النور حمد .وشكر وعرفان خصّه القاص للذين نظروا لمسيرته أن تُزهر بالكتابة.
*
الكتاب من القطع المتوسط : 79 صفحة ، تعادل الصفحة فيها أرتال من الورق والحبر المسكوب في ميادين الكتابة الأخرى . اتبّع القاص "سيد أحمد العراقي " نهج الإيجاز ، فكل جملة أو كلمة تحمل جينات الأرض والبشر الذين استوطنوا انحناءة النيل الشمالي للسودان . أرض يزعم كثير من المؤرخين أن نهيراً كان يأتي من "كردفان" شرقاً ليرفد النيل من بعد انحناءة النيل تلك ، لكنه غطس في باطن الأرض . وتلك الجغرافيا هي التي ربطت الأرض والماء والهجرات القديمة والتداخل بين أهل "كردفان" وأهل "شمال السودان" بالمراعي ، قبل أن تمُد السكك الحديدية شرايين الوصال لاحقاً . الأرض كانت غنية بالغابات في عهد الحضارات القديمة واحترقت حسب الزعم تحت مواقد صهر الحديد في ممالك السودان القديمة ،في حين كانت مصر في العهد البرونزي وحضارتنا سابقة لها في سلم التطور !. وتلك المزاعم في حاجة للحفر عميقاً وصولاً للجذور . وتلك الأرض الجرداء حول المنطقة من أثر تلك الصناعة في تاريخنا القديم ، وتلك ربما سلبيات العلاقة بين الإنسان والبيئة في التاريخ القديم .
(2)
في تلك البقاع جاء حفر القاص " سيد أحمد العراقي " في المجتمع وفي الأرض وفي الناس بتراتبهم إن لم نقُل رماد معارك الطبقات المتشكلة في الريف . فنزع الكاتب مادة قصصه من تلك التخوم . وأعاد الاشتباك بين القص والواقع والتاريخ وقضايا زاخرة بالمحبة التي لها لونها الغامض. ونقل ذكاء وفطنة المتحدثين . نزع من الوقائع مادة للقص عميقة الدلالة وزاهية وجذابة ، حتى تكاد أن تصيبك الدهشة : أين كان يختبئ " سيد أحمد العراقي " طيلة هذا الزمان ؟ حتى جاء العام 2014 وقام بنشر تلك المجموعة في مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي ؟.
(3)
بدأت الرواية والقصص القصيرة ، تأخذ حيزاً في القلم الإبداعي للذين ينتسبون لموطننا السودان ، رغم الشروخ البائنة على البنى الاجتماعية في المراكز وفي الأرياف النائية . وبلادنا قارة مصغرة . ويرى كثيرون نظرات سوداوية ليحيلوا هذا التنوع الثقافي الكثيف من مادة ثرية إلى براكين تأكل اليابس وكل الخضرة المتبقية .
والبقع التي تناولتها أرضية القص هي في مناطق الرقعة الزراعية التي تُشاطئ نهر النيل ، ومنابع الحضارات القديمة . وكيف صار إليها الآن مآل التاريخ وشروخه الغائرة في المجتمع والشجر والحجر والناس .بناء على هذا التاريخ ، نهضت الحضارة من مرقدها ، بشكل جديد . ورأينا رأي العين مبدعين في الرواية والقص والشِعر لا يمكن حصرهم .
بدأ الكاتب " سيد أحمد العراقي " في الصحافة في سبعينات القرن الماضي . ثم غفى برهة زمان ، قصيرة في مسار التاريخ ، ولكنه نوم طويل لكاتب كُنا ننتظر بهاء طلعه منذ زمان . ولكن كما يقول أهل المنطقة ( راقِدلو فوق راي ) .
(4)
من أهم الأسئلة التي سألها الكاتب الدكتور "محمد يوسف نجم " في سِفره " فن القص " هل ترك النص في نفس القارئ أثراً لا يُنسى ؟
وقد فعلت المجموعة فعلها في نفوسنا كقراء . نتج عن تسلسل الحوادث وعن ملامح الشخصيات أو الشخصية التي رسمها القاص . سيادة الحوادث وسيادة الشخصية وسيادة البيئة والمناخ وسيادة الفكرة التي تصنع عالم القص ، بل وأين موقع الكاتب ، أهو متفرج أم صاحب ايدلوجية تختبئ من وراء القص ؟
والقص حوادث يخترعها الخيال ، وهي لا تُعرض لنا الواقع ولا هي سجل مواليد ولا هي كتاب تاريخٍ أو كتاب سيّر .إنها دون شك صور مموهة تقوم على تصوير البناء درامي الذي يقطر دماً . ويقول جيمس في دراسات في الأدب الأمريكي:
(إن الحياة فضاء واسع مضيّع ، يقف الروائي أو القاص وسطه لينتخب ما يمكن أن يفسر به الحياة ويهدي به السبيل . إن مادة الروائي ملزمة وقيمة المستندات لا تُنكر ، ولكن إرادة الكاتب في كيفية تصرفه في المواد التي بين يديه ، وتلك بلا شك ميّزة فن القص ، ويتعين على القاص أنت يخضع مواده لفنه ، وألا يكون لها عبداً مُطيعاً همه النقل الأمين .)
وهذا الحديث ينطبق على الرواية وعلى شرائح القص الأخرى .وهذا ما تميَز به الكاتب والقاص " سيد أحمد العراقي "
(5)
لقد استخدم الكاتب اللغة الدارجة الفصيحة في بعض الأحايين ليكون النص حميمياً وبارداً في الحرّ ، ودافئاً حين يرتعد المرء في ليالي الشتاء بالمنطقة الشمالية .
لقد انتبه " العراقي " إلى شجرة الذهب الخفيّة تحت أرض الواقع . حفر فيها واستخلص السبائك ونقش فيها الحلي والأسورة السردية بلغة عربية فصيحة ، مُحلاة بالعامّية . نفض الغبار عن سيرة الطيبين ، الرماديين . وأقام من طينتهم بنياناً عظيماً *
المجموعة القصصية جديرة بأن تتصدر المكتبة القصصية عامة والسودانية خاصة .
تحية للكاتب على الثراء والتصوير والسرد الناعم والتشويق .
(6)
سيرة مختصرة للكاتب :
- من مواليد منطقة نوري شمال السودان.
- ليسانس الفلسفة في جامعة القاهرة – فرع الخرطوم.
- ماجستير الإدارة العامة في جامعة بتسبيرج – بنسلفانيا -الولايات المتحدة الأمريكية .
- كتب في الصحافة السودانية في سبعينات القرن الماضي .
- من رموز المجموعة التي حملت مشروع الشاعر حميد الخيري .

عبدالله الشقليني
12 يونيو 2016


alshiglini@gmail.com

 

آراء