إعادة التفكير في الدراسات السودانية بعد انفصال جنوب السودان عن شماله .. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
Rethinking Sudan Studies: a Post – 2011 Manifesto
H. Sharkey, E. Vezzadini & I. Seri-Hersch هيزر شاركي والينا فيزا ديني وايريس سيري - هيرش
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لشذرات مما جاء في مقال لثلاثة من الأكاديميات المتخصصات في شؤون السودان يتضمن تقويما لوضع الدراسات السودانية بعد انفصال جنوب السودان عن شماله في عام 2011م ونشر في عام 2015م بالعدد التاسع والأربعين من المجلة الكندية للدراسات الإفريقية Canadian Journal African Studies.
وتعمل هيزر شاركي أستاذة مشاركة بجامعة بنسلفانيا الأميركية ولها عدة كتب ومقالات عن السودان ومصر منها كتاب "العيش مع الاستعمار: الوطنية والثقافة في السودان الإنجليزي المصري"، وكتاب "الإنجيليون الأمريكيون في مصر"، و"الهوية والمجتمع في الشرق الأوسط المعاصر"، و"تاريخ الصحافة العربية في السودان". أما الينا فيزا ديني في تعمل الآن باحثة في معهد الدراسات الإفريقية بفرنسا، وكانت قد أجرت بحثها للدكتوراه عن حركة 1924م من جامعة برجن بالنرويج. وأستلت تلك المؤلفة عددا من الأوراق البحثية من رسالتها للدكتوراه منها ورقة "برقيات وطنية: الكتابات السياسية ومقاومة الاستعمار في السودان بين عامي 1920 – 1924م". وتعمل ايريس سيري – هيرش أستاذة مساعدة في جامعة مارسيليا بفرنسا، وتخصصت في التاريخ الحديث للسودان وفلسطين / إسرائيل، وكانت اطروحتها للدكتوراه عن تاريخ التعليم بالسودان بين عامي 1945 و1960م، ومنها استلت عددا من الأوراق المنشورة في عدد من الدوريات العالمية.
المترجم
**** **** ****
مسارات جديدة …اتجاهات جديدة
يتلخص الغرض من هذا المقال هو الإجابة عن سؤالين: أولهما: كيف كان حال "الدراسات السودانية"، وكيف عليها أن تتغير، أو هل يجب عليها أن تتغير؟ وثانيا: هل يجب علينا أن نواصل الحديث والكتابة عن ساحة واحدة لـ "الدراسات السودانية" والسودان قد انفصل قبل سنوات قليلة إلى دولتين؟
إن إحدى نقاط الضعف التي تحسب على "الدراسات السودانية" هي ميل المشتغلين بها لوصف السودان والأقاليم السودانية بأنها "متفردة unique" وتختلف عن غيرها من الأماكن والأنظمة والكيانات السياسية (polities) الأخرى في العالم. ولعل مرد ذلك الميل هو إصرار المسئولين البريطانيين في النصف الأول من القرن الماضي الذي تَلَّى عام 1898م على أن السودان هو "دولة ثنائية الحكم"، وليس مستعمرة، وهو في ذلك فريد في نوعه. وقد أخترع البريطانيون في المبتدأ تلك الصيغة "الثنائية" لحكم السودان بحسبانه تكتيكا بلاغيا rhetorical tactic لإحباط مخططات الفرنسيين أولا، ثم المصريين لاحقا، لاحتلال السودان، ولكن ظل مصطلح "الحكم الثنائي" قائما.
وطفق المسئولون البريطانيون يؤكدون "فرادة" السودان على نحو أثر على الكتاب والمثقفين عندما أنشأوا مجلة "السودان في رسائل ومدونات" في عام 1918م. وبقيت تلك المجلة هي عمدة الدراسات السودانية، وظلت تنشر العديد من المقالات للمسئولين البريطانيين عن حيوانات المنطقة (funa) والعادات والغرائب (quirks) والفلكلور السوداني. وكان كثير من هؤلاء المسئولين البريطانيين من دارسي التاريخ، وصار عدد قليل منهم فيما أقبل من سنوات من كبار علماء الأنثروبولوجيا في بريطانيا مثل إي. إي. ايفانز – بريتشارد. وبقيت مجلة "السودان في رسائل ومدونات" في سنواتها الممتدة بين 1918م و1968م هي المجلة العلمية scholarly الأكثر موثوقية في السودان. وبنظرة إستعادية لما كانت تنشره تلك المجلة، يتضح أن كثيرا مما نشر بتلك المجلة ظل يؤكد دوما على أن علمي التاريخ والأنثروبولوجيا يدينان بالكثير للأنظمة الاستعمارية التي تبنت كثيرا من الدراسات في هذين العلمين في غضون سنوات أخريات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وعضدت مجلة "السودان في رسائل ومدونات" الإحساس العام بـ "الاستثنائية السودانية exceptionalism “Sudanese، والذي فسر على أنه وعي – وربما حتى قلق – من جانب الكتاب والمثقفين بأن السودان ليس قطرا "عربيا" أو "أفريقيا" خالصا.
وشخص خبير العلوم السياسية علي المزروعي في ورقة ألقاها في جامعة الخرطوم عام 1968م (نشرت في كتاب من تحرير بروفيسور يوسف فضل صدر من دار نشر جامعة الخرطوم عام 1969م. المترجم) وضع السودان ووصفه في عبارة جناس جاذبة بأنه بلاد "تهميش متعدد multiple marginality " على تخوم العرب والأفارقة. وردد الكثيرون بعد ذلك مقولة علي المزروعي تلك، والتي ألمحت أيضا إلى أن السودان له "وضع خاص" عند المقارنة مع دول أفريقيا والشرق الأوسط الأخرى. والتزم الآخرون، فيما يبدو بذلك "الوضع الخاص". فكثير من كتب التاريخ الأمريكية والبريطانية في الشرق الأوسط وأفريقيا لا تأتي للسودان على ذكر، ولا تتضمن مناهج الجامعات الأمريكية والبريطانية منهجا منفصلا للسودان. ويجد من يتخصص / تتخصص في تاريخ ذلك القطر (المقصور فيما يبدو على فئة معينة esoteric country) عسرا شديدا في الحصول على وظيفة في تخصصه / تخصصها بحسب ما يقوله الذين تخصصوا باكرا في تاريخ وأنثروبولوجيا السودان للذين أتوا بعدهم من أجيال شابة. وتعني قلة أعداد المؤرخين المتخصصين في تاريخ السودان عمليا قلة أعداد الأقسام والمعاهد التي تكون على استعداد لتأهيل طلاب دراسات عليا في هذا التخصص، وغياب المنح الدراسية التي تتيح لهؤلاء الطلاب عمل رسائل دكتوراه تحت اشراف أساتذة مؤهلين ومشهود لهم.
ويمكن إجمال وضع السودان هنا بأنه لم يسقط على الحافة فحسب، بل وقع من بين الشقوق. وفسرت تلك العوامل سبب إصرار المتخصصين في الشأن السوداني على أن "الدراسات السودانية" فرع مهم وضروري من فروع المعرفة، وربما أكثر من "الدراسات الكاميرونية" و"الدراسات النيجيرية" و"الدراسات الأنجولية"، وأيضا "الدراسات السعودية" و"الدراسات التونسية" و"الدراسات الأردنية".
لقد نظم وأسس حقل الدراسات السودانية عن طريق إنشاء عدد من التجمعات الأكاديمية التي تضم علماء وكتاب ونشطاء ومثقفين مهتمين بالسودان، ويشمل هؤلاء بعض أفراد سوداني الشتات. ولعبت الجمعية السودانية – الأميركية للدراسات السودانية SSA (والتي تكونت في رود آيلند عام 1981م) دورا مهما في حقل الدراسات السودانية، مثلها مثل نظيرتها البريطانية "جمعية دراسات السودان وجنوب السودان SSSUK"، ومركزها لندن. وظلت الجمعيتان، وعلى مدى سنوات طويلة، تعقدان مؤتمرات سنوية راتبة وغير راتبة تناقش فيها، دون قيود، موضوعات مهمة عن ماضي وحاضر ومستقبل السودان في مختلف الجوانب التاريخية والثقافية. غير أن هاتين الجمعيتين كرستا أيضا خرافة "استثنائية الدراسات السودانية"، لذا فأن تأثيرهما يظل غامضا.
وتوسع الإطار حول الدراسات السودانية في تسعينات القرن الماضي بإصدار الأكاديميين في جامعة برقن بالنرويج لمجلة اسموها أفريقيا السودانوية Sudanic Africa. ويستحضر اسم هذه المجلة مفهوم "بلاد السودان" عند الجغرافيين العرب/ المسلمين في العصور الوسطى لحزام منطقة جنوب الصحراء الممتدة من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر. غير أن تلك المجلة توقفت عن الصدور في عام2009 م وتحولت للولايات المتحدة، بعد أن غيرت اسمها إلى أفريقيا الإسلامية Islamic Africa، ويكمن أن نقول أيضا، بعد أن فقدت "سودانويتهاSudanicity " المحددة.
وتطورت "الدراسات السودانية" لتضم تخصصات منفصلة وأخرى متداخلة لم تكن تنل حظا من الاهتمام في السابق. ويشمل ذلك شؤون الاقتصاد والتاريخ الزراعي، والاقتصاد والعلوم السياسية، أو التاريخ والاقتصاد والأنثروبولوجيا واللغويات الاجتماعية والتعليم والقانون وغير ذلك. ويستخدم المؤرخون أحيانا الأدوات البحثية لعلماء الأنثروبولوجيا، مثل ما فعلت ساندرا هيل في بحثها عن الحركة اليسارية النسائية بالسودان. وصارت كثير من الدراسات السودانية المعاصرة تنتقد النماذج/ الأمثلة الاستعمارية colonial paradigms.
غير أن هنالك المزيد مما يمكن عمله في هذا الجانب.
الدراسات السودانية بعد انفصال السودان لدولتين
جعل انفصال جنوب السودان في عام 2011م إعادة التفكير والنظر في "الدراسات السودانية" أمرا لازما، ولا غرو إذ أن ذلك الانفصال حطم الإطار الذي شكل الأراضي المستعمرة التي غدت في دائرة المعرفة colonial – territory - turned – knowledge – chamber، وظهرت حديثا بعض الدراسات التي تحاول الوصول لفهم أفضل للأسباب التاريخية التي أفضت لذلك الانفصال وجذوره وأسبابه. غير أن حقل "الدراسات السودانية"، بوضعه الحالي، يحتاج إلى إعادة نظر وتدبر حتى من غير التفات لتلك التطورات السياسية، إذ أن البحث يتقدم مع مرور الأزمان.
معلوم أن البحث يتطلب في نهاية المطاف أمورا تتعلق بالجدوى والإفادة (feasibility)، وبعبارة أخرى فإن الكاتب لا يستطيع كتابة إلا ما يقدر على كتابته. وتعكس الاهتمامات البحثية الحالية أيضا تغيرات في اتجاهات البحث. فقد أغلقت في السنوات الأخيرة أبواب بعض أنواع البحث. فعلى سبيل المثال فقدت أو خربت معظم الوثائق في غضون الحرب الأهلية، بينما انفتحت أبواب أخرى بعد فتح أرشيف بعض المواضيع ذات العلاقة، وغدا البحث والتنقيب عن بعض المواضيع والمعلومات أمرا يسيرا بفضل توفر الشابكة (الشبكة) العنكبوتية. وتعكس البحوث المنشورة اليوم بعض التوليفات combinations لهذه الفرص والتوجهات المتغيرة، مع قرارات تدور حول ما هو الأكثر أهمية وإثارة من هذه الأبحاث، وما هو الجدير بالدراسة فعلا.
وتعكس البحوث الحالية حقيقة أن الكتابة العلمية / الأكاديمية ليست حوارا ذاتيا (مونولوج) ولكنه حوار مستمر مع الآخر. ويعني ذلك أنه حتى في حال تغير الشخوص والمواضيع والطرق والمقابلات، فسيظل الكتاب والبحاث في حالة حوار مع النصوص التي كتبها من قبلهم تحت ظروف أقسى، ويدينون لها بالفضل. لذا فإن الأعمال التي نشرت عن السودان قبل 2011م أو بعد ذلك تحمل نفس ملامح ما سبقها من دراسات وتحمل أيضا ذات التبعات الموروثة من الأبحاث القديمة.
ومما لا شك فيه فإن أي بحث منشور يعكس اهتمامات واتجاهات الكاتب بمفرده، ولكنه يحمل أيضا الآثار المتغيرة لروح العصر zeitgeist والتقلبات السياسية – خاصة في حالة السودان، في سياق الحروب الأهلية.
وتتضح هذه الاختلافات بين الأجيال والظروف عند المقارنة والنظر في أعمال المؤرخين وغيرهم من الأكاديميين الكبار الذين نشروا غالبا أعمالهم المهمة في حقبة الخمسينيات والستينيات، حيث لم تكن هنالك عوائق أمام الحصول على تأشيرة دخول للبلاد (كما هو حادث الآن)، ولا أمام الاطلاع على الوثائق والأرشيف، ولا في العمل مشرفين لطلابهم الذين يجرون أبحاثهم الميدانية في "مناطق شدة" وفي أوقات عصيبة. وتتضح أيضا هذه الاختلافات بين الأجيال عند مقارنة المشرفين الأكاديميين مع طلابهم في أزمان مختلفة.
يبقى السؤال: "ماذا ينبغي علينا فعله في "الدراسات السودانية" الآن؟ وتكمن صعوبة السؤال في أن الأكاديميين يرتبون مشاريع أبحاثهم على تركيبات الدولة القومية (nation – state constructions)، لسبب بسيط، ألا وهو أن الدولة (القومية) كيان بيده السلطة والقوة، وهي من تصدر تأشيرات الدخول، وتصريحات التجول والبحث، وحق الاطلاع على الوثائق والأرشيف (الذي تنظمه الدولة، وأحيانا تختار منه بحسب ما تشتهي). ويزيد انفصال جنوب السودان ذلك السؤال صعوبة فوق صعوبته، وتعقيدا فوق تعقيده. ولا يزال الباحثون في الشأن السوداني يجاهدون لفهم تأثيرات ذلك الانفصال على أبحاثهم وعلى مجمل توجهات ومسيرة أبحاث "الدراسات السودانية"، وهم واعون أيضا لعوزهم لـ "المسافة" الضرورية والمطلوبة لإنتاج تحليل متعمق وناقد.
وهنالك سؤال آخر له علاقة بما ذكرناه آنفا: بالنظر إلى السلطات العملية التي تتمتع بها الدول (القومية)، هل يجب علينا أن نبرز/ نمد (project) حدود السودان الجديدة (بعد 2011م) إلى الماضي، وأن نبدأ في كتاباتنا بتحديد هل نكتب عن السودان (الشمالي) أم السودان (الجنوبي) حتى ونحن نبحث في أمر أحداث تاريخية حدثت مثلا في 1885م أو 1924م، عندما كان هنالك "سودان واحد"؟ غالب الظن أن الإجابة ستكون "لا"، ولكنها ستغدو في المستقبل "نعم". وعلى كل الأحوال فإن ما يعوزنا الآن هو نظام/ "بروتكول" للتعامل مع هذه الحالة. ويحسن بعلماء الدراسات السودانية النظر في تجربة الدول التي انفصلت عن بعضها بعد الاستقلال (مثل إثيوبيا وأرتيريا فيما بعد عام 1991م).
ويمكن لنا أن نقدم "خارطة طريق" محتملة. دعنا نفترض الآن أننا أبقينا على تقسيم ما بعد الاستعمار للسودان الموحد، والذي يعنيه مصطلح "الدراسات السودانية"، ربما بسبب أن السودانيين يتشاركان في الحدود والتجارب والموارد الطبيعية (من مياه وبترول) وحتى البشر (ويشمل ذلك جماعات المهاجرين واللاجئين وذرياتهم). يمكننا هنا أيضا الحديث عن السودان باعتباره منطقة (zone) واستخدام كلمة "السودان" باعتبارها "بلاد السودان" بحسب الفهم التاريخي القديم لذلك المصطلح، وليس "السودان" بحدوده المعروفة الآن.
قال محرر هذه العدد من المجلة إن التاريخ فعل وليس اسم، ذلك لأن كتابة التاريخ تتطلب وتستتبع: "عمليات مقصودة تتضمن تشكيل وفهم المعنى intentional processes of shaping and meaning - making "، ويمكننا قول ذات الشيء عن الأنثروبولوجيا والعلوم السياسية وعلوم أخرى كثيرة.
alibadreldin@hotmail.com