حول كتاب “تاريخ السودان” للمدارس الأولية بين عامي 1949 و 1958م .. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
A Sudanese History Handbook for Elementary Schools, 1949 - 1958
I. Seri-Hersch ايريس سيري - هيرش
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لشذرات مما جاء في أحد فصول كتاب ألماني عنوانه " Freund- und Feindbilder in Schulbüchern " (صور الأصدقاء والأعداء في الكتب المدرسية) صدر عام 2010م، وشارك فيه عدد من الكتاب بفصول عما جاء في الكتب المدرسية من صور وآراء عن الأصدقاء والأعداء في دول وثقافات وحقب تاريخية مختلفة في ألمانيا (النازية)، وألمانيا الشرقية (الديمقراطية)، والبرازيل، وإسبانيا، واليابان، وكوريا الجنوبية، والسودان.
وتعمل مؤلفة هذا الفصل أستاذة مساعدة في جامعة مارسيليا بفرنسا، وتخصصت في التاريخ الحديث للسودان وفلسطين / إسرائيل، وكانت اطروحتها للدكتوراه عن تاريخ التعليم بالسودان بين عامي 1945 و1960م، ومنها استلت عددا من الأوراق المنشورة في عدد من الدوريات العالمية.
أشكر المؤلفة على إرسالها لي بعض مقالاتها المنشورة.
المترجم
**** **** ****
"أُلف هذا الكتاب في عام 1949م. ومنذ ذلك التاريخ تطورت الأحوال والظروف (بالبلاد)، وكان أهم تغيير حدث هو نيل السودان لاستقلاله (في 1956م). وغيرت تلك الظروف من النظرة التاريخية لماضي البلاد، وتقويم بعض ما مر بها من أحداث. وصوبت نحو ذلك الكتاب (الصادر في عام 1947م)، بناء على ما استجد من أحداث، الكثير من سهام النقد. لذلك قام قسم التاريخ بالنظر الفاحص في محتويات كتاب تاريخ السودان، وأكد على ضرورة إصدار طبعة جديدة منه تناسب الظروف والأحوال الحالية".
ذلك ما ذكره إبراهيم النور أحد أعضاء الفريق المسؤول عن مناهج التاريخ في المدارس السودانية في عام 1958م معلقا على التعديلات التي أجريت على الكتاب المدرسي المعد لمدرسي الفصل الرابع للمدارس الأولية. وأقر الرجل بأن إصدار كتاب جديد بالكلية غير متيسر الآن بالنظر إلى صعوبات عملية عديدة، لذا استقر الرأي على تعديل طبعة الكتاب الصادر في عام 1949م باعتباره حلا مؤقتا (وضروريا كذلك).
جاءت مقدمة إبراهيم النور لذلك الكتاب (والذي أتى بعد نيل السودان لاستقلاله بعام ونصف) متسقة تماما مع النظام / المخطط المألوف لما حدث ويحدث في الدول التي نالت استقلالها حديثا من تمكين ثقافي (cultural empowerment): إعادة كتابة (وبث/ نشر) تاريخ وطني / مملوك للأمة (nationalized) بحسبانه عاملا ديناميكيا رئيسا في عملية الاستقلال السياسي والثقافي. وكان من الواجب تعديل القصص التاريخية المروية في الكتب المدرسية كي تساهم في تماسك اللُّحَّمَة الوطنية (national cohesion)، ولتؤكد على المواطنة الموالية (loyal citizenship)، ولتعضد من شرعية الدولة المنشأة حديثا عقب نيل الاستقلال. غير أن السؤال عن مدى تأثير الاستقلال على حقيقة الشخصيات التاريخية التي تمثل "الأصدقاء" و"الأعداء" في الكتب المدرسية ما زال قائما.
خلفية تاريخية: سياسة التعليم في سودان ما بعد الحرب العالمية الثانية
حكمت بريطانيا ومصر السودان – نظريا- بين عامي 1899 و1956م حكما ثنائيا. غير أن السلطات الحقيقية بالبلاد (ومن ضمنها شؤون التعليم) كانت في يد البريطانيين. وكانت هنالك سياسة تعليمية خاصة بشمال السودان تختلف عن تلك التي كان يدار بها التعليم في الجنوب، والذي ترك أمر التعليم فيه، وإلى أربعينيات القرن الماضي، بيد البعثات التبشيرية. وأعقبت الحرب العالمية الثانية تغيرات مهمة في السياسة الدولية والسودانية، فقد نشأت في الدول المستعمرة حركات معادية للاستعمار عملت على هز "شرعية" وجود الإمبراطورية البريطانية في تلك المستعمرات. وأعلن البريطانيون، ومنذ عام 1943م، عن سياستهم "التقدمية" القاضية بمنح المستعمرات الحكم الذاتي، الذي سيعقبه – بعد حين- الاستقلال التام. وكان منح الاستقلال السياسي يعتمد اعتمادا وثيقا على إحداث إصلاحات اجتماعية واقتصادية. وأتبع غالب متعلمي السودان في تلك السنوات أيدولوجيتين وطنيتين، أحداهما تتبع لـ "المهدية الجديدة" والتي تنادي باستقلال السودان التام بالتعاون العملي مع البريطانيين، بينما كانت الأخرى تنادي بشعار "وادي النيل" والاتحاد مع مصر. وفي تلك السنوات بدأت سودنة الوظائف، وفي ديسمبر من عام 1948م أنشئت وزارة للمعارف (التعليم) تحت قيادة عبد الرحمن علي طه.
وعقب سقوط الملكية في مصر عام 1952م قبل الرئيس المصري محمد نجيب بمبدأ تقرير المصير للسودان. وتم في 12/2/1953م التوقيع على ذلك. ثم فاز الحزب الوطني الاتحادي بزعامة إسماعيل الأزهري بأول انتخابات في السودان، وقاد السودان في نهاية المطاف لنيل استقلاله التام في 1/1/1956م. وحُكم السودان بعد ذلك حكما حزبيا ديمقراطيا حتى يوم 17/11/1958م حين وقع أول انقلاب عسكري على السلطة الشرعية بقيادة إبراهيم عبود.
وصدرت في عام 1949م الطبعة الأولى من كتاب "تاريخ السودان" المعد لمدرسي مادة التاريخ لتلاميذ الفصل الرابع بالمدارس الأولية. وكان ذلك الكتاب هو واحدا من سلسلة من الكتب المدرسية التي صدرت بين عامي 1948 و1950م. وجاء في مقدمة ذلك الكتاب أنه أعد (ربما للمدارس الحكومية في الشمال فحسب) ليلبي حاجة التلاميذ لمعرفة تاريخ بلادهم. وصادفت أيام صدور ذلك الكتاب قيام عبد الرحمن علي طه برحلة في الجنوب استغرقت ستة أسابيع دعا فيها لإدخال اللغة العربية كمادة أساس في المناهج، وجعلها لغة للتعليم في كل مدارس الجنوب، وتوحيد كل المناهج (ربما جعلها شمالية Northernization (. غير أن نفوذ مدارس المبشرين وقلة أعداد مدرسي اللغة العربية قللت من تأثير ما كان عبد الرحمن علي طه عازم عليه.
أما بالنسبة للجندر، فقد كان واضحا أن ذلك الكتاب كان قد أعده مدرسو مادة التاريخ الذين يدرسون في مدارس البنين الأولية، وليس في مدارس البنات. وتمت مراجعة الكتاب في أغسطس عام 1957م وتوزيعه لكل المدارس الأولية بالسودان، وشمل ذلك المدارس الأهلية ومدارس المبشرين (بعد تأميمها). وأصدرت وزارة المعارف في عام 1957م نشرة تعرف بأهداف الوزارة جاء فيها: "... تقوية الصلات بين شطري الوطن: شماله وجنوبه عن طريق نشر اللغة العربية في الجنوب، وإعطاء السودانيين الجنوبيين نفس الإمكانات التعليمية التي تعطى لرصفائهم في الشمال".
وكان سياسيو الشمال من المؤمنين بإمكان تحقيق "الوحدة الوطنية" يرون بأن التعريب أداة مهمة من الأدوات اللازمة لتخطي الفروق الثقافية والإقليمية. وحدثت بين عام صدور الطبعة الأولى (1949م) من كتاب "تاريخ السودان" وعام صدور الطبعة الثانية المنقحة من الكتاب (1957م) الكثير من التطورات والتغيرات في السياسة السودانية، أولها (لأغراض هذا المقال) هي عملية سودنة الوظائف الحكومية، وثانيها هو تحول تركيز سياسة القوى في السودان وصراع الهوية من علاقات السودان بمصر إلى صراعات داخلية بين الشمال والجنوب. ومما لا ريب فيه أن تلك التطورات قد أثرت على محتويات التوجهات الأيديلوجية / الفكرية لذلك الكتاب.
إسماعيل باشا والملك نمر: ديناميكية علاقات المنتصر – المهزوم
أظهر كتاب "تاريخ السودان" الصادر في عام 1957م استيلاء الجيش المصري – التركي على السودان في عام 1820م على أنه غزو أجنبي أمر به حاكم طموح كان يتطلع لإنشاء إمبراطورية كبيرة تشمل "كل الأراضي الإسلامية". ويسرد الكتاب قصة ذلك الغزو ويذكر أن محمد علي باشا أمر ولده إسماعيل بغزو السودان بجيش قوامه 4000 جندي مزودين بالأسلحة الحديثة. ولم تجد تلك القوات صعوبة كبيرة في إلحاق الهزائم السريعة بجنود القبائل المحلية. وتوجت تلك القوات الغازية انتصاراتها بإسقاط "سلطنة سنار" التي كانت قد قامت في بدايات القرن السادس عشر. وبالنسبة للمستعمرين البريطانيين والاستقلاليين السودانيين في أربعينيات القرن الماضي مثل ذلك الاحتلال المصري – التركي للسودان تدخلا أجنبيا أحدثا انقطاعا مؤثرا في التاريخ السوداني. كانت تلك هي الصورة التي عرضتها الطبعة الأولى (في 1949م)، وهي ذات الصورة التي عرضتها الطبعة المنقحة (في 1957م). وكان تلاميذ الفصل الرابع في الخمسينيات يستمعون لمدرسيهم يروون لهم ذلك التاريخ شفاهة، ويعطى كل تلميذ منهم أيضا صورا لرسومات للشخصيات والأحداث التي وردت في حصص ذلك التاريخ. ومن تلك الصورة صورة لرجل سمين يجلس متربعا على كرسي مريح يدخن "النارجيلة/ الشيشة" بينما يتحدث معه ولده إسماعيل. وتعج تلك الصورة بكل ما هو غريب عن العيون السودانية من ديكور وبلاط منقوش وملابس وطرابيش وأحذية لتؤكد "أجنبية foreignness" و "غيرية/ اختلاف otherness " المصريين – الأتراك بشواربهم الكثة المنحنية وسمنتهم المفرطة. ومن أكثر مشاهد الغزو المصري – التركي التي يحكيها المدرسون بروزا هي المقابلة التي حدثت بين المنتصر إسماعيل والمهزوم ملك الجعليين المك نمر، حين طالب إسماعيل المك بكميات ضخمة من الذهب والرقيق. ولما طالب المك بمهلة من أجل جمع ما طلب منه معتذرا بأن غالب تجار المدينة (شندي) كانوا قد غادروها، تطور اللقاء إلى صراع، حين غضب إسماعيل وقذف بغليونه في وجه نمر. وكانت تلك إهانة شنيعة لم يجد إزائها نمر غير الانتقام. فبعد تلك الحادثة بأيام دعا نمر إسماعيل (وحاشيته) إلى مأدبة فخمة ووعده بتقديم كل ما طلبه منه عقب انتهاء المأدبة. وبينما كان إسماعيل وجنده يأكلون ويشربون ويصخبون أشعل جنود نمر النار فيهم فماتوا حرقا (أو اختناقا). وبعد ذلك قام محمد الدفتردار بالانتقام من الجعليين، فأحرق قراهم وهدم شندي. أما نمر فقد فر مع أهله وأتباعه ولجأوا إلى إثيوبيا المجاورة.
وتطورت تلك الحكاية المروية بين عامي 1949م و1957م عن بطلي الرواية الرئيسيين (نمر وإسماعيل). ففي الطبعة الأولى من كتاب التاريخ ينتهي الدرسان عن الغزو المصري – التركي ومقتل إسماعيل بمسرحية عنوانها "مقتل إسماعيل" يقوم التلاميذ بأدائها، ومن خلالها يتعرفون على الشخصيات التاريخية التي وردت في الدرس. وفي تلك المسرحية صور إسماعيل بحسبانه "ضحية" لاقى ميتة قاسية على يد المك نمر. لذا فإن التناقض/ الانقسام dichotomy بين المنتصر والمهزوم قد "خفف" بعض الشيء في تلك المسرحية، والتي ترسخ في أذهان الأطفال بأن طرفي النزاع كانا في وقت ما غزاة وضحايا. غير أن طبعة 1957م من ذلك الكتاب حذفت تلك المسرحية، واستعاضت عنها بمسرحية أصغر عن ذلك المشهد الذي يقوم فيه إسماعيل بإساءة نمر وبقذفه بالغليون. وهنا تبدو صورة مانوية (Manichean) للمنتصر والمهزوم، حيث يصور إسماعيل باعتباره المثال الأصلي (architype) لمحتل أجنبي قاس وسخيف، بينما صور نمر على أنه يمثل الزعيم القبلي الذي يقوم بأعمال بطولية ومقاومة ناجحة.
تركز طبعة 1957م على الفجوة الأخلاقية moral gap) ) بين الشخصيتين، حيث يظهر إسماعيل باعتباره أجنبيا له طباع غريبة وطرق عيش تختلف عن السودانيين. وكان يتطلب لأداء دوره في المسرحية وجود سيف و"شيشة" وملابس خاصة واكسسوارات، بينما كان أداء دور نمر لا يتطلب أي ملابس خاصة أو اكسسوارات. وبهذا تتماهى وتتطابق مشاعر التلاميذ بيسر مع الزعيم القبلي الذي يرتدي نفس ملابسهم، في مقابل غاز أجنبي يرتدي ملابس غير معتادة. وإضافة لذلك صور إسماعيل بحسبانه شخصا مترددا وضعيف الدواخل (internally weak) يحاول بسط سيطرته على العالم الخارجي. وفوق كل ذلك فهو لا يكن غير الاحتقار والاشمئزاز لخدمه وأعدائه، وينعت نمر بـ "الغبي" و"شرير العقل"، وبأنه لا يستأهل إلا "درسا قاسيا" لعدم دفعه ما فرض عليه. وأتهمه بالغش والخداع لطرده التجار الأثرياء من شندي، حتى يتفادى جمع المال منهم. وفي ذروة تصاعد أحداث المسرحية يثور غضب المنتصر ويقذف بغليونه في وجه المهزوم. ويسَوَّدَ المشهد أيضا تصرف وسلوك جنود إسماعيل، ويشير إلى أن حرق نمر لهم بالنار يخرجهم من كونهم "ضحايا" عمل إجرامي إلى كونهم عصاة سكارى تمت معاقبتهم تنفيذا لمشيئة إِلهيّة. وفي المقابل، صورت المسرحية نمر باعتباره حاكما وطنيا مهذبا حكيما ومحكما للسيطرة على نفسه، حيث كان يخاطب إسماعيل بقوله: "السلام عليكم يا صاحب السعادة"، ويظل هادئا مهذبا طوال المقابلة. ولا يعد فراره من "الوطن" دلالة على الجبن أو الخيانة، بل هي عمل شرعي بالنظر إلى ما هو متوقع من انتقام رهيب للترك منه.
ربما كان للتغير في تفاصيل قصة إسماعيل ونمر بين الطبعتين علاقة بالعلاقات المصرية – السودانية. فالطبعة الأولى (1947م) تقدم صورة أقرب للدقة (وربما) التوازن، فتلك كانت سنوات نقاش وتمحيص لطبيعة العلاقة بين البلدين والخيارات المتاحة لهما في تحديد نوع العلاقة بينهما. وما أن تحدد في 1955م مصير السودان بالاستقلال التام، حتى تلاشى الاختلاف أو كاد حول علاقات السودان التاريخية بمصر، وغدت حكومات ما بعد الاستقلال تسعى لتعضيد الشعور بالوحدة الوطنية في أوساط المواطنين في الشمال والجنوب كذلك. واستخدمت قصة إسماعيل ونمر في ذلك الكتاب المدرسي لترسيخ مفهوم غربة وبعد وقسوة من غزوا السودان، في مقابل بطولة وحكمة المقاومة السودانية.
الزبير باشا رحمة ومعضلة تراث تجارة الرقيق
خصص الكتاب المدرسي عن "تاريخ السودان" درسين عن الزبير باشا رحمة، تاجر الرقيق الشمالي الذي أصبح حاكما لمديرية بحر الغزال في 1873م، وأحتل دارفور بالإنابة عن الحكومة المصرية – التركية بالسودان في 1874م. ولمس الكتاب وهو يستعرض سيرة الرجل في مجالات التجارة والقيادة العسكرية والسياسية بعض شئون الوحدة الوطنية والعلاقات الشمالية – الجنوبية، والرق وتجارته، تلك القضية الشائكة المثيرة للنزاع. ويدين الكتاب تجارة الرقيق بحسبانها أكثر الجرائم افتقارا للإنسانية، ويحث التلاميذ على الشعور بالتعاطف مع ضحايا تلك التجارة البربرية (المقصود هو سكان جنوب السودان) حيث ورد فيه ما نصه:
"لا يمكن لنا تخيل بشاعة تجارة الرقيق دون أن نضع أنفسنا في مكان هؤلاء الأبرياء الأحرار الذين هاجمهم الأشرار بأسلحتهم النارية واصطادوهم دون رحمة أو شفقة".
ويجب علينا ملاحظة التشابه والقرب الصوتي (phonetic proximity) بين كلمتي "الأحرار" و"الأشرار" والذي يؤكد التضاد بينهما. غير أن التعاطف من على البعد يصبح مماثلة ذاتية محضة (sheer self - identification)، لأن الضمير المستخدم للدلالة على الضحايا يتحول من "هم " إلى "نحن" في الجملة التالية:
"تخيلوا أنفسنا والخوف يغمرنا بسبب انهمار لا يتوقف لطلقات الرصاص. قتل بعضنا، وأسر الغزاة القساة بعضا منا لجعلهم عبيدا".
وبهذا يتوقع من تلاميذ المدارس في كل أنحاء السودان أن يتماهوا (identify with) مع السودانيين الجنوبيين بحسبانهم "ضحايا"، على الرغم من أن هؤلاء الجنوبيين أنفسهم يوصفون بصورة نمطية بأنهم أناس "سذج" و"ضعفاء" يكرهون تدخل الآخرين في شؤونهم. ولكن من هم "المعتدون" بحسب ما جاء في ذلك الكتاب؟ من اللافت للنظر في ذلك الكتاب عدم ورود أي إشارة إلى "الشماليين" أو "السودانيين الشماليين" أو "الأتراك" أو "المصريين" أو "العرب"، بل وردت فيه كلمة عامة ومحايدة العرق هي "التجار" عند الإشارة لتجار الرقيق (أشارت الكاتبة في الهامش إلى أن من شاركوا في تجارة الرقيق بين عامي 1840 و1870م كانوا من الأوربيين والمشرقيين Levantines والمصريين والأتراك، وعرب السودانيين من دناقلة وشايقية وجعليين. المترجم). ويقع عبء الاسترقاق الأخلاقي وتجارته على أكتاف تجار غامضي الهوية والتصنيف لا يتماهى معهم التلاميذ.
ويؤكد هذا الدرس قطيعة تاريخية بين ماض بغيض وحاضر مثالي idealized))، ويعد استغلال التجار القساة للجنوبيين في الماضي أمرا "خطأ " تقع مسئوليته على "آخرين"، أو كما جاء في الكتاب: (فما لنا والخطأ أرتكبه غيرنا في الماضي). ويخاطب الكتاب التلاميذ مباشرة ويحث "الأخوة" السودانيين على العيش معا بروح من التعاون، وأن "أبناء السودان" يرتبطون بوطن واحد وجنس واحد، وأنه لا فرق بين شمالي أو جنوبي.
ربما كانت الإدانة القوية لتجارة الرقيق المذكورة في طبعة الكتاب الصادرة في 1957م موجودة أيضا في الطبعة الأولى التي صدرت في الأربعينيات.
يظهر الزبير في الكتاب بحسبانه شخصية معقدة. ويقدمه الدرس الأول باعتباره "أحد عظماء السودان" الذي اشتهر ببطولاته في الجنوب، وأنه قد استطاع بفضل حنكته العسكرية ومهارته الحربية حماية زملائه التجار ضد الهجمات المحلية بتكوينه لجيش (خاص) من السجناء الذين اشتراهم، وفتح طرقا تجارية جديدة تربط بحر الغزال بكردفان عبر جنوب دارفور. وقرظه الكتاب لفتح قواته دارفور في 1874م. غير أن الكتاب ألقى باللوم الأخلاقي على الزبير لولوغه بصورة نشطة في تجارة الرقيق. وعلى الرغم من ذلك وصفه ذات الكتاب بأنه "واحد من أبطال السودان الذين نفتخر اليوم بهم"! كيف يكون الزبير بطلا وطنيا من أبطال السودان إذا كان قد ولغ في تلك التجارة الذميمة؟ كيف لنا أن نفسر التناقض (الظاهري) في ما ورد في ذلك الكتاب؟ تفسيري / نظريتي في هذا التناقض هو أن درسي الزبير يتكونان من عدة قطع متداخلة. وكما ذكرنا آنفا، فإن الجزء الخاص بإدانة تجارة الرقيق كان موجود سلفا بالكتاب في طبعته الأولي الصادرة في عام 1949م. أما الجزء المادح للزبير، والذي رفعه لمقام بطل سوداني قومي، فقد أضيف على ما يبدو عام 1957م. ونتيجة لتلك المراجعة الجزئية لذلك الكتاب، وجد التلاميذ الذين درسوا في سنوات ما بعد الاستقلال أنفسهم يواجهون الزبير باعتباره بطلا له وجهين (ambivalent)... ليس بالعدو وليس بالصديق.
alibadreldin@hotmail.com