الأيديولوجيات الملتبسة والتقييدات في السجون السودانية في عهد الاستعمار (1898 – 1956م) .. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

Ambivalent ideologies and the limitations of the colonial prison in Sudan, 1898 - 1956

W. J. Berridge دبليو. جي. بيريدج
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لبعض ما ورد في مقال طويل حول السجون السودانية في عهد الحكم الثنائي بقلم البريطاني دبليو. جي. بيريدج، نشر في عام 2012م بالعدد السادس من مجلة دراسات شرق أفريقيا Journal of Eastern African Studies، والتي يصدرها معهد شرق أفريقيا البريطاني.
ويدور المقال حول إخفاق الدولة الاستعمارية في إنشاء نظام سجون إصلاحي وواسع الطيف، مقام على النمط المثالي الأوربي، وذلك لأسباب لا تتعلق بنقص الإمكانات المادية فحسب، بل لأسباب توسعت في ذكرها الكاتبة في مقالها.
حصل الكاتب على درجة الدكتوراه من جامعة درم البريطانية عام 2011م بأطروحة عنوانها: "تحت ظل النظام: تناقضات العمل الشرطي في السودان بين عامي 1924 و1989م".
Under the Shadow of the Regime: The Contradictions of Policing in Sudan, c.1924-1989
ونشر منها عددا من المقالات المحكمة عن أجهزة الأمن والشرطة والسجون في السودان.
أشكر الكاتب لتكرمي بمدي بنسخة من هذا المقال.
المترجم
**** **** ****
يعد السجن عند الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي ميشيل فوكو ذروة "الجهاز العقابي" المثالي الذي طوره عصر التنوير، ذلك العصر الذي "تكفي نظرة واحدة منه لرؤية كل شيء باستمرار". غير أن عين المستعمر للسجون في أفريقيا كانت حسيرة البصر، ولم تكن لها قط تلك "القدرة النظامية" التي تتمتع بها السجون الأوربية التي يتحدث عنها فوكو. ووصف لورو فورشارد السجون الأفريقية بأنها "رمز جمود القوة الاستعمارية، وموقع للعصيان والفساد والعدوان الأفريقي". ويبحث هذا المقال، متخذا من السودان المستعمر مثالا، في أسباب إخفاق الدول الاستعمارية في أفريقيا في إنشاء نظام سجون محكم يتم فيه إصلاح وتهذيب شخصيات / خلق نزلائه كما هو منتظر في نموذج العقوبات الأوربية. فقد سعت الدول الاستعمارية من جانب إلى "إصلاح" من تعدوا على القانون الاستعماري عن طريق غرس القيم الأوربية، وتزويد نزلاء السجون بالمهارات التي تتيح لهم الانخراط في الاقتصاد الاستعماري. ومن جانب آخر فقد حاولت تلك الدول الاستعمارية تقليل تأثير الحبس على السكان، وإيجاد بدائل للسجن لمدد طويلة، وإعادة خلق حياة القرية و"القبيلة" في داخل السجن بقدر المستطاع.
وعكست تلك الازدواجية السياسات المتضاربة لأجنحة منفصلة في وسط الدولة الاستعمارية. فبينما سعى مِهنيّو النظام القضائي (مثل رجال الشرطة وضباط السجون والقضاة) لإدخال نظام قانوني في السودان يحول المجتمع السوداني للمثال الأوربي، كان رجال الإدارة الاستعمارية يفخرون بفهمهم للمجتمعات المحلية وعاداتها وتقاليدها وسبل تحقيقها للعدالة.
السجن: إصلاح وتهذيب
لم يكن الإداريون الاستعماريون يبدون حماسة تذكر لفكرة إصلاح شخصيات الطبقة الدنيا من المجتمع (subaltern)، وكانوا عادة ما يقسمون المساجين السودانيين في قوالب جاهزة (stereotypes) إلى صنفين: إما مجرمين عتاة مترددي سجون، لا أمل في لإصلاحهم بعد أن ولغوا في فساد وخطايا المدينة الحديثة، أو ريفيين يتصفون بالبراءة والسذاجة، ولا حاجة لبذل أي جهد في إصلاحهم، بل يحتاجون للحماية من الصنف الأول من المساجين. وفي ذات الوقت كان مِهنيّو النظام القضائي يبدون ضيقا شديدا من عوز النظام العقابي الاستعماري من أي قدرة على إصلاح نزلاء السجون. وأكد على ذلك ليزيلي وجيمس قمندان بوليس الخرطوم في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية حين كتب ما نصه: " كان دخول البعض للسجن أمرا متكررا مما يدعو المرء للشك في أن السجن أو العقاب البدني سيؤدي إلى أي نوع من الإصلاح في نفوس هؤلاء". وتزايدت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية أعداد المترددين على السجون بصورة متكررة فاضت بها السجون، وأرهقت السلطات التي عجزت عن نطَر ومراقبة سلوكهم لكثرة أعدادهم.
وكان الإداريون في الأقاليم يتشككون في الفائدة المرجوة من إرسال من يقتلون الناس أو ينهبون بهائمهم إلى السجن. بل كانوا لا يؤمنون أصلا بفعالية السجون كأداة للحكم الاستعماري colonial governance))، وكانوا يحاولون إقناع القضاة بأن تتم تسوية قضايا القتل بالطرق القبلية المعتادة (أي بقبول الدية)، وأن تعاقب القضايا اليسيرة الأخرى بالجلد. ولخص أحد الإداريين الاستعماريين في تقرير له عن الإدارة الأهلية رأيه في السجون بقوله: "ما أن يقضي المحكوم عليه مدة محكوميته، فمن شبه المؤكد أنه سينبت قبليا بسبب سجنه، ولن يكون بمقدوره العودة إلى قريته ليعيش فيها كمجرم (تائب) اِنصلحَ حاله".
وكانت رغبة الإداريين في الحفاظ على روابط القبيلة تتوافق مع الأجندة السياسية للدولة. فبعد مساندة المتعلمين السودانيين في عام 1924م لحركة "اللواء الأبيض"، تلك الحركة الوطنية المؤيدة لمصر، حاولت الإدارة الاستعمارية خلق أشكال محلية للهوية، وإنشاء إدارة أهلية (من زعماء وشيوخ القبائل) من أجل تعطيل عملية تكوين وعي وطني. وكجزء من تلك السياسة عمد الاستعمار لمنع تمدد الإسلام (دين الشماليين) جنوبا. بل لقد أمر في عام 1926م أحد الإداريين البريطانيين بمديرية أعالي النيل بعدم إرسال المساجين (الجنوبيين) إلى السجون الكبرى بمدن الشمال إذ أن أولئك المساجين يعودون لقراهم بعد انقضاء محكوميتهم وهم "منبتين قبليا، وعلى الأقل نصف مسلمين".
وكان كثير من الإداريين الاستعماريين لا يخفون إعجابهم بأخلاق القتلة وسُرّاق البهائم (الهمباتة) الذين كانوا قد تعاملوا معهم، لدرجة أن أحدهم تعجب من سبب سجن أمثال هؤلاء! كتب ايدوارد هايد ماكنتوش (الإداري في الخرطوم ودارفور وبحر الغزال والاستوائية بين عامي 1921 – 1945م. المترجم) في مذكراته التالي:
"معظم القتلة المحكوم عليهم بسنوات طويلة في السجن هم أكثر المساجين موثوقيّة. أدركت ذلك من تعاملي مع المساجين القتلة من الزاندي، والذين نستخدمهم عمالا في الحدائق. لقد وجدتهم (معلمين) في غاية اللطف".
وجاء في تقرير حكومي عن السجون صدر في عام 1904م أن غالب المساجين السودانيين ليسوا مجرمين بـ "المفهوم الأوربي المتعارف عليه" لأنهم ارتكبوا ما ارتكبوه من جرائم بسبب "الجهل". ولحماية هؤلاء من الإصابة بعدوى طبقة "مترددي السجون"، تم عزل أولئك المساجين في "معسكرات حبس خاصة" وعوملوا بحسبانهم "مضمونين" في محاولة لإعاشتهم في مجتمع يشابه "المجتمع القبلي" الذي كانوا يعيشون فيه. ففي سجن "أب قوتة" الذي أنشئ عام 1942م مثلا تم عزل مئة من المساجين (البسطاء unsophisticated) من المساجين العاديين ليعيشوا معيشة تشابه معيشتهم السابقة في قراهم. وكتب ماكنتوش أن المساجين كانوا يجمعون بحسب قبائلهم (دينكا يضمنون الدينكا، وزاندي يضمنون الزاندي وهكذا) ويعيشون في قرى منفصلة. وهذا العمل الاستعماري المحافظ يخالف تماما رأي الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي ميشيل فوكو عن "الجهاز العقابي" المثالي في عصر التنوير (الذي بدأ به هذا المقال).
ولم تفلح محاولة "إصلاح السجون" في السودان التي حدثت بعد الحرب العالمية الثانية إلا في تثبيت نظام السجون كما كان العهد بها. فقد أعيد ترتيب سجني بورتسودان والخرطوم المركزيين ليستقبلا غالب مساجين السودان، وأمرت كل السجون في المديريات المختلفة بإرسال كل مترددي السجون فيها لسجن الخرطوم أو بورتسودان المركزيين بأعجل ما تيسر. وحاول جورج بريدين مدير مديرية النيل الأزرق بين عامي 1941 و1948م القيام بعملية إصلاح في سجون مديريته فقام بنقل مئات من المساجين من ذوي "السلوك الحسن" للعمل في حواشات "عبد الماجد" نظير أن يمنحوا "عطلات قصيرة" لزيارة عائلاتهم، و"حتى لا تنقطع علاقاتهم القبلية مع أهاليهم". وطلب ذلك المدير من إمام مسجد مدني الكبير أن يقوم بزيارات منتظمة للسجن لوعظ وإرشاد المساجين. وقد وقعت تلك الزيارات وقعا حسنا عند معظم هؤلاء المساجين. غير أن المدير، بناء على نصيحة تلقاها من مأمور السجن، قصر دعوة إمام المسجد على المساجين "العاديين" ومنعها عن "عتاة المجرمين الأوغاد miscreants))". وكان تفسير ذلك المأمور لنصيحته تلك بسيطة جدا، إذ قال للمدير: "إن رأيت مركبا في عرض النهر يغرق. أوليس من الأولى أن تحاول إنقاذ من هم على سطح الماء ويجاهدون كي يبقوا على قيد الحياة، عوضا عن محاولة استخراج من ماتوا غرقا في قاع النهر؟". يلخص تفسير ذلك المأمور لفلسفة العقاب والإصلاح نظرة الحكم الاستعماري الكلية للسياسة العقابية بالسودان. كان المترددون على السجون يتركون جانبا ويهملون تماما، بينما كانت سياسة الحكومة تجاه المساجين الريفيين (السذج) لا تهدف لإصلاحهم وتقويم ما أعوج من سلوكهم، بقدر ما كانت تهدف لمنع الضرر الذي يمكن أن يصيبهم من تجربة الحبس.
وينطبق ذلك النهج والتوجه غير الطموح في شأن السجون على المصابين بأمراض عقلية (lunatics). فالسياسة الحكومية كانت موجهة لتقييد حركة هؤلاء أكثر منها معالجتهم. فقد جاء في تقارير حكومية صدرت في عام 1937م أن كثيرا من هؤلاء المرضى كان يتم حجزهم قسرا في أوساط المساجين، ولم تكن هنالك في بعض السجون زنازين منفصلة لعزل أولئك المرضى. وفي بعض الأحايين كان بعض أولئك المرضى يخرجون من السجن تحت ضمانة أهليهم أو اصدقائهم، ويصرف لضامنيهم قيد حديدي لربط المريض إن أظهر بعض العنف والعدوانية. وأبرزت الصحيفة البريطانية John Bull صورة لصبي من قبيلة البارا اسمه "كوشي" وهو مقيد على عامود مرفوع على قمته العلم البريطاني، وذلك عقابا له على سرقاته المتواصلة. وثبت لحاكم منقلا بعد فحص ذلك الصبي أنه مختل العقل. وذكر الصبي للحاكم أن أهله كانوا يسيئون معاملته لأنه ولد بخصية واحدة، والبارا يتشاءمون بالأطفال الذين يولدون بتلك العاهة الخلقية. لا ريب أن سوء معاملة الأهل كانت هي التي أثرت على نفسية (وعقل) ذلك الصبي. لذا أطلق الحاكم سراح الصبي وبعث به لأهله مع التشديد عليهم بضرورة الاعتناء به وحسن معاملته. ولم تتحسن أوضاع المصابين بأمراض عقلية أو نفسية إلى عام 1951م، حين أفتتح التجاني الماحي أول عيادة لهؤلاء المرضى في الخرطوم بحري، كانت ترعى نحو 2000 من المرضى بأمراض نفسية وعقلية.
ولاحظ المسؤولون البريطانيون تزايدا كبيرا في حالات جنوح الأحداث، خاصة من أبناء النساء اللواتي تم تحريرهن من قيد العبودية وغادرن مواقعهن في مختلف أنحاء الأرياف ليقمن بالمدن. وسعت السجون لفصل هؤلاء عن المساجين البالغين وحمايتهم منهم. فأنشأت في عام 1925م "إصلاحية" قرب السجن المركزي بالعاصمة ضمت نحو عشرين من الجانحين كانوا يتلقون مختلف أنواع المهارات الحرفية. غير أن قرب الإصلاحية من ذلك السجن المركزي (بما فيه من مجرمين عتاة مترددي السجون) ووجود "أولاد المدن" بتلك الإصلاحية جعلت المحاكم الإقليمية تحجم عن إرسال الجانحين من الأحداث لتلك الإصلاحية، وتؤثر عوضا عن ذلك أن ترسلهم للخلاوي أو مدارس المبشرين.
وقامت السلطات في واد مدني في عام 1945م بتجربة ناجحة للقضاء على الأمية في أوساط نزلاء السجن، وكانت ترسلهم في نهاية العام الدراسي للجلوس للامتحانات في المدارس الأولية. ثم أفتتح في الأبيض معسكر للبنين في عام 1948م. ثم تم بعد ذلك افتتاح إصلاحية للأحداث الجانحين في الجريف في عام 1950م. وأنشئت بعد ذلك عدة مراكز للكشافة لتشجيع الصبية والشباب على الاستقامة الخلقية والبعد عن الانحراف.
ورغم كل تلك المجهودات، إلا أن قلة أعداد الصبية الملتحقين بتلك الاصلاحيات جعلت من أهميتها أمرا مشكوكا فيه. ولا عجب إذن إن زادت أعداد الأحداث الجانحين الذين مثلوا أمام المحاكم من 922 في عام 1947م إلى 1481 في عام 1948م.
استخدامات المساجين
كانت السياسات (المحافظة) للسجون تقضي بأن يكون عمل المساجين داخل السجون عاملا مهما لتغيير مستقبل حياتهم. وظل هدف التعليم المقدم في السجون هو اكتساب مهارات يدوية عملية، كان المستعمرون يعدونها أكثر أهمية من أي نوع آخر من المعرفة. فقد كان المساجين في عام 1932م بسجن بورتسودان المركزي يتعلمون النجارة وصنع المفارش الأرضية والسروج وأعمال الحدادة والبناء والجلود والخياطة والتنظيف ورصف الطرق. وبالفعل كان العمل في فترة المحكومية في السجن أمرا مفيدا للمسجون بعد انتهاء فترة سجنه، إذ تتيح له الانخراط مباشرة في العمل والاختلاط بالمجتمع مجددا والمساعدة في تطوره وبنائه. وإن كان لنا أن نصدق التقارير الحكومية فإن أحدا ممن تعلموا حرفة ما في السجن لم يعودوا إليه البتة.
غير أن هنالك من يرى أن تدريب هؤلاء المساجين على الأعمال اليدوية لا يخلق منهم سوى "أذناب lackeys" للدولة الاستعمارية، إذ أن كثير منهم كانوا يعينون، بعد انتهاء فترة سجنهم، عمالا في مصلحة الأشغال العامة بمرتبات زهيدة جدا، وهذا مما يساعد الحكومة، خاصة في سنوات الركود الاقتصادي. وأشار جراهام لامبن (والذي عمل إداريا في دارفور بين عامي 1924 – 1932م. المترجم) في مذكراته إلى أن إداراته كانت في حاجة ماسة للمال، وأنه لولا عمل المساجين (الذين كانوا يقومون بأعمال البناء ومياه الشرب والصحة العامة) لما استطاعوا تقديم الخدمات للمواطنين في دارفور. وأشار توماس اوين الإداري برشاد في عام 1942م إلى أن المساجين في مدينته كانوا يؤدون (مجانا) نصف الأشغال العامة فيها. بل لقد كان الاداريون يستخدمون (يستغلون) المساجين للعمل خدما في منازلهم من دوم مقابل. وفي ذلك يقول أوين مفتخرا: "لم يمت الإقطاع بعد ... من مزايا العمل في وظيفتي باشمفتش أو مأمور أن يعطى لك واحد أو اثنين من الخدم لخدمتك الشخصية... ولهذا تجد سارق ماشية (همباتي) مرح يغسل لي ملابسي، وسارق متجر قوي البنية يقطع الخشب لسعد الدين أفندي، وقاتل موثوق به ينام في النادي لحراسته من السرقة ... فلتعش مزايا الوظيفة الحكومية!".
وكان قوين بيل (الإداري البريطاني في شرق السودان وجبال النوبة ومناطق أخرى في كردفان بين 1931 – 1938م. المترجم) يجلس على الفراندا وأحد المساجين (المضمونين) يحرك الهواء أمام وجهه يدويا (مستخدما "هبابة"). ولم يقتصر ذلك الاستغلال للمساجين على كبار الموظفين، بل كان يشمل بعض رجال الإدارة الأهلية مثل الناظر علي التوم.
وسعت إدارة السجون بعد حصولها على بعض الاستقلالية في 1947م لإيقاف ذلك الاستغلال للمساجين، وعدم تشغيلهم في الخدمة الشخصية لكبار الموظفين، والذي كان يستخدم من قبل الحكومة كوسيلة من وسائل تخفيف أعباء المعيشة على أولئك الموظفين. وصدرت بالفعل بعض التوجيهات في هذا الشأن لم تلق طريقها للتنفيذ. وتوقفت محاولات إدارة السجون عن دمج المساجين في الحياة العامة سوى في بعض حالات قليلة منها إقامة المساجين لعروض مسرحية في مناطقهم الأصلية، أو لتعليم مواطنيهم عمليا طرق التصويت في انتخابات عام 1953م.

حياة السجن
كان بعض الإداريون البريطانيين يزعمون بأن السودانيين يسعدون بالسجن، حيث يجدون فيه المأوى والملبس والطعام. ولعل مرد ذلك شظف العيش الذي كان يكابده كثير منهم قبل دخولهم السجن. غير أن بعض هؤلاء الإداريين كان يرون أن أي فترة طويلة للحبس تمثل لدي السوداني القروي عقوبة أقسى من الموت.، إذ أنها تبعده عن جذوره وقبيلته ولغته. وكان بعضهم يرى أن السجن وسيلة ردع أقوى من السجن عند بعض السودانيين، لأن من يتم إعدامه ينسى بسرعة، ولكن من يخرج من السجن يروي لأهله ما قاساه في السجن من عذاب البعد عن الموطن والعشيرة، فيكون ذلك رادعا لهم عن ارتكاب الجرائم. وهذا مما يؤكد أن فريقا من المستعمرين البريطانيين لم يكونوا يعدوا السجن أداة "إصلاح وتهذيب" بل أداة "ردع وتخويف". ولعل سوء الأحوال في تلك السجون كان يدعوا بالفعل للخوف من دخولها. فقد كانت مباني السجون في بعض المدن متهالكة وسيئة التهوية وشديدة الازدحام مما يجعلها ضارة بالصحة وناقلة للأمراض. وكان البريطانيون يطلقون على سجن نيالا مثلا "ثقب نيالا الأسود" من فرط سوء الأحوال به.
المسامية الاجتماعية لحدود السجن
يؤمن محمود محمداني بأن القوانين الاستعمارية في أفريقيا شمال الصحراء تفرق في المعاملة بين المواطنين "غير الأصليين non - natives" و"الأصليين natives ". ولم يكن النظام القضائي السوداني مخالفا لتلك القاعدة. غير أن سلوك المستعمرين هنا لم يخالف ما كان مستقرا من نظم التفريق الاجتماعي colonial distinction الذي كان قائما من قبل بالبلاد. وظلت التراتيبية الاجتماعية السودانية قائمة حتى بين أسوار السجن.
ضرب الإداري البريطاني أوين لتلك التراتيبية الاجتماعية بحالة أحد أصدقائه (الشيخ إبراهيم المليح) والذي حكم عليه بالسجن سبعة أيام لتجارته في "السوق الأسود". ونظرا لشبكة علاقات المليح الواسعة مع أعيان المجتمع أعطى الشيخ المليح غرفة منفردة في السجن، حمل له فيها بعض الأثاث والملابس والمنقولات الأخرى من المنزل، وأمر الشاويش بأن يلبي طلباته من القهوة وغيرها. وهنا تبرز بجلاء الفروقات الاجتماعية بين "الشيوخ" و"عامة الناس".
وأوضحت تعليمات السجون الصادرة في عام 1929م أن المساجين يصنفون على ثلاثة مراتب: فمساجين الطبقة الأولى والثانية يقيمون في زنازينهم (الخاصة)، بينما يعفى مساجين الطبقة الأولى من العمل في داخل السجن، ويسمح لذويهم بجلب الطعام والملابس لهم. ولم يلغ هذا التمييز إلا في عام 1951م، وترك للمحكمة أن تقرر أن كان المسجون يستحق "معاملة خاصة". غير أن ذلك التمييز ظل عملا تجميليا شكليا فحسب.
وبقي اليسر الذي كانت تعبر به المعلومات والبضائع والأسلحة والبشر حيطان السجن دليلا أكيدا على محدودية قدرة الدولة الاستعمارية على بسط سيطرتها على المجتمع السوداني، وتأبيها على التوسع في إصلاح البنية التحتية للسجون. وكانت نقطة ضعف السجون الرئيسة هي ضعف قوة حراستها. فقد كان هؤلاء يعينون من رجال الجيش والشرطة المتقاعدين ومن كبار السن (ضرب الكاتب لذلك مثلا بقائد حراس السجن في السجن المركزي بالعاصمة عقب حركة 1924م والذي كان في التسعين من عمره. المترجم)، وكانت مرتباتهم تقل كثيرا عن مرتبات رجال الجيش والشرطة.
وكات هنالك أمثلة عديدة لعدم احترام المساجين وحراس السجن لقوانين السجن (الاستعمارية). فعلى سبيل المثال اكتشفت السلطات الاستعمارية ذات مرة وجود جهاز لتقطير "العرقي" في مساكن الحراس في داخل سجن الخرطوم المركزي. وورد في تقرير حكومي صدر في عام 1942م أن حراس سجن لقاوة كانوا قد شاركوا بعض نزلاء السجن في كسر خزانة السجن ونهبها. وجاء في أحد التقارير عن سجن الخرطوم المركزي في أيام حركة اللواء الأبيض أن مساجين تلك الحركة كانوا يقيمون الحفلات الغنائية وندوات نقاش سياسي كان يشارك فيها الزوار وموظفو السجن والمساجين المحكوم عليهم (حتى من الطبقة الثانية والثالثة). وكان علي عبد اللطيف يتحدث لأصدقائه من هاتف مكتب مدير السجن، بمساعدة من حراس السجن.
وكما هو الحال في الهند وجنوب شرق آسيا، فقد كان المساجين السياسيين في السودان يستخدمون سجنهم لبناء وتطوير "شبكات مقاومة". وكان عدم معرفة المسئولين البريطانيين باللغة العربية أو ضعفهم فيها من الأسباب التي ساهمت في تجاوزات القوانين واللوائح التي ظلت تحدث بانتظام في السجون السودانية.
ولجأت السلطات الاستعمارية في سبيل الحفاظ على قدرتها في حفظ "الضبط والربط" في السجون إلى المراوحة بين التفاوض مع المساجين (بالحسنى) وبين استخدام العنف المفرط معهم.
وتكاثرت محاولات الهرب من السجن في سنوات حكم الاستعمار. فقد استخدمت القيود الحديدة في أرجل كل نزلاء سجن واو في الثلاثينيات بعد تكرر حالات الهرب. وأوردت تقارير سجن الأبيض 32 حالة هرب من السجن بين عامي 1951 – 1952م. وبلغت تقارير سجون دارفور عن حالات الهرب فيها مئات الصفحات.
وشهدت السجون السودانية الكثير من حالات الاحتجاج والتظاهر والعنف، مما يؤكد مجددا عدم قدرة السلطات الاستعمارية على الحفاظ على "الضبط والربط" في تلك السجون. وكانت أشهر تلك الحالات هو ما حدث في أيام حركة "اللواء الأبيض" في 1924م، وهو ما دعا السلطات للنظر في إحداث "تغيرات بنيوية" في نظم السجون، ظلت كلها دون فعالية.
وشهد عام 1951م مظاهرتين كبيرتين في سجن الخرطوم المركزي في أيام إضراب شرطة الخرطوم أوضحتا بما لا يدع مجالا للشك عدم قدرة السلطات على التحكم في السجون التي تديرها، ليس رفضا أو تأبيا على الأيديولوجيات الحديثة حول السجون فحسب، بل بسبب ضعف الرغبة والإرادة السياسية، وعدم الرغبة في الانفاق على تحديث البنية الأساسية للسجون وعلى الإصلاح فيها، وضعف القوة العاملة بها.
--------
يمكن الاطلاع على مزيد من آراء الكاتب حول الشرطة والسجون في عهد الاستعمار في مقاله المعنون: "إضراب شرطة الخرطوم عام 1951م والنزاع حول السيطرة الإدارية". المترجم.

 

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء