من سيرة ما يُسمى “المعارضة” (1-2)

 


 

د. النور حمد
25 August, 2016

 

لا توجد في السودان، إلى اليوم، معارضة تستحق اسمها. ومن يحلمون بأن تقف المعارضة على رجليها فجأة، لتصبح عملاقًا يُعوَّل عليه في احداث التغيير، واستدامة حراكه، إنما هم واهمون. فالتغيير الجذري لا يأتي فجأةً، وإنما يُبنى لبنةً، لبنة، عبر ثورةٍ فكريةٍ حقيقية، تنخرط فيها النخب في عمليةٍ نقديةٍ شفافةٍ كبرى، تضع التاريخ السياسي السوداني على الطاولة، وتشبعه تشريحا. وكذلك، عبر ثورةٍ ثقافية تسير على خطى الثورة الفكرية، تعيد موازين القيم التي اختلت، من جديد، إلى حيث ينبغي. ولو أننا نظرنا إلى تاريخ العمل المعارض لدينا في السودان، لوجدنا أن المعارضة ترعرعت، منذ أن وُلدت، في ذات المهد الذي ترعرعت فيه الحكومات. فكلاهما، في حقيقة الأمر، من معدنٍ واحد. فهما شقِّان متشابهان من كيانٍ واحٍد يتبادلان الأدوار، وتمثل المصالح الخاصة المحور الرئيس لعراكهما. والأمثلة في هذا الباب، من التاريخ السياسي لحقبة ما بعد الاستقلال، كثيرةٌ جدا.

ظهرت أمراض العمل السياسي السوداني، أول ما ظهرت، مع شروق شمس الاستقلال مباشرة. فقد اتضح أن النواب المُنتخبين يمكن شراؤهم. فقد ظهر منهم قبيلٌ مستعدٌّ أن يصوِّتَ لمصلحةِ الحزبِ الآخر، نظير المال، إن اقتضى الحال. وفي تجلٍّ آخر، ذكر الراحل محمد خير البدوي، في كتابه القيّم "قطار العمر"، أن الصاغ صلاح سالم، عضو مجلس قيادة الثورة المصرية الناصرية، كان يهبط ومعه حقائب مليئة بالأوراق المالية في مطار وادي سيدنا، فيتجه نحو حي العرضة بأم درمان للعب القمار مع أصدقائه السودانيين، ثم ينصرف إلى مهمته التي أتى من أجلها، وهي شراء ذمم السياسيين السودانيين.
من الأمثلة الغريبة في لعبة الحكومة والمعارضة في السودان، ما جرى من السيدين إسماعيل الأزهري وعلي عبد الرحمن. كانت الحكومة المنتخبة ديمقراطيًا، قبل انقلاب الفريق عبود في نوفمبر 1958، حكومةً ائتلافيةً مكونة من حزب الأمة، الذي يمثل الواجهة السياسية لطائفة الأنصار، وحزب الشعب الديمقراطي الذي يمثل الواجهة السياسية لطائفة الختمية. وكان الوطني الاتحادي، بزعامة إسماعيل الأزهري، يقف حينها في المعارضة. فرأت مصر الناصرية أن تجمع الحزب الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي في تحالفٍ تخرج به غريمها التقليدي، حزب الأمة، من دست الحكم. وترى مصر، بطبيعة الحال، أن هذا الإجراء سوف يسهِّل عليها خدمة مصالحها في السودان، بعد أن فشلت مساعيها في ابقاء السودان في قبضتها تحت خدعة وحدة وادي النيل. ولقد استغلت مصر في تلك المناورة السياسية القبيحة، قلِّة صبر الزعيم إسماعيل الأزهري على البقاء بعيدًا عن كرسي الحكم.
استدعى المصريون السيد إسماعيل الأزهري، زعيم الحزب الوطني الاتحادي، والسيد علي عبد الرحمن، زعيم حزب الشعب الديمقراطي، إلى القاهرة، لإتمام تلك الصفقة. ولكي يقدم السيد اسماعيل الأزهري للمصريين ما يغريهم كي يدعموه ليعود إلى دست الحكم، تسرَّب حينها أنه بادر، فاعترف للمصريين، وهو في القاهرة، باتفاقية 1929، التي سبق أن رفضتها حكومة السودان بسبب منحها السودان نصيبًا مجحفًا في مياه النيل. وقد كان السودان، غائبًا عن اتخاذ القرار، حين إبرام تلك الاتفاقية. فهو قد كان في قبضة الاستعمار. ومن ثمَّ، فقد جرى التقرير في مصير مياهه، نيابةً عنه، بواسطة السلطتين الاستعماريتين؛ البريطانية والمصرية.
أيضًا، أعلن السيد علي عبد الرحمن، في القاهرة، في نفس تلك الزيارة، أن حزبه (حرب الشعب الديمقراطي) يقف في المعارضة! ولكي ندرك مدى المفارقة وفداحتها، علينا أن نعرف أن السيد علي عبد الرحمن كان يشغل، حينها، منصب نائب رئيس الوزراء، ووزير الداخلية في حكومة السيدين الائتلافية، التي كانت لا تزال ممسكةً بمقاليد الحكم في الخرطوم. بل، وكان السيد علي عبد الرحمن حاملاً لمسمياتها الوظيفية. ومع ذلك، جرؤ السيد علي عبد الرحمن، رغم ذلك، على أن يقول للمصريين إن حزبه يقف في معارضة تلك الحكومة التي هو نائب رئيس وزرائها، ووزير داخليتها! فإلى هذا الحد وصلت اللا مسؤولية، والفجاجة، والعبث، لدى الآباء المؤسسين للدولة السودانية المستقلة.
ليس من الممكن، بطبيعة الحال، أن نسرد كامل سيرة المعارضة السودانية المتسمة بالفجاجة، واللا مبدئية. فهي كثيرة وقد ظلت فصولها تتابع منذ الاستقلال. لكننا، سوف نعرض منها لطرفٍ يسيرٍ، يفي بالغرض من كتابة هذه المقالة. ومن ذلك، نمط المعارضة الذي واجهت به ما سميت بـ "الجبهة الوطنية"، نظام الرئيس السوداني الأسبق، جعفر نميري.
تكونت الجبهة الوطنية من أحزاب الأمة، والاتحادي، والإسلاميين. وبدأت تلك الجبهة معارضتها لنظام جعفر نميري في الجزيرة أبا، حيث حشدت السلاح الذي تدفق من جهة إثيوبيا، وأشرف قياديو الإخوان المسلمين على تدريب الانصار الموجودين بها، (راجع إفادات القيادي الإخواني، مهدي إبراهيم في برنامج "مراجعات"). غير أن الإمام الهادي رفض، فجأةً، إدخال مزيد من السلاح وأبدى رغبةً في التفاهم مع جعفر نميري. لكن سلسلة من الأخطاء، وربما عدم ايصال رسالة من الإمام الهادي إلى نميري، والاساءات التي تعرض لها الوفد العسكري المفاوض بقيادة أبو الدهب، قادت، مجتمعةً، إلى المواجهة المسلحة في الجزيرة أبا، وخسران المعارضين معركتهم المسلحة الأولى مع نظام مايو، ومن ثم، خسران الإمام الهادي حياته في نهاية تداعيات تلك الحوادث المؤسفة.
ما يسم تجربة هذا التحالف المعارض لنميري، الذي بدأ في بداية السبعينات واستمر حتى المصالحة الوطنية في يوليو 1977، أنه كان واقعًا، في كل مراحله، في يد القوى الإقليمية. فقد هرع أهل الجبهة الوطنية، منذ الوهلة الأولى، إلى النظامين، الملكي السعودي، والإمبراطوري الإثيوبي، بدعوى خطر نظام نميري، شيوعي التوجه، على استقرار المنطقة. لكن ما لبث أن انقلب نميري على الشيوعيين، عقب انقلاب الرائد هاشم العطا، في يوليو 1971. وقد جرى ذلك بعد عامٍ وبضعة شهور من أحداث الجزيرة أبا.
تحولت السعودية من كارهةٍ لنظام نميري إلى داعمةٍ له. كما دخل نظام الامبراطور هيلاسلاسي في أزمات حكمٍ طاحنة في سنواته الأخيرة، انتهت بإطاحته في عام 1974. بذلك فقدت المعارضة السودانية لنظام جعفر نميري، الدعم السعودي والدعم الإثيوبي معًا، فطفقت تبحث عن حليفٍ خارجيٍ جديد. (راجع وقائع حوادث الجزيرة أبا وملابساتها، وقصة لجوء المعارضة السودانية إلى الملك فيصل والامبراطور هيلاسلاسي في إفادات القيادي الإخواني، أحمد عبد الرحمن، التي نشرتها صحيفة "الانتباهة"، في يوم الأربعاء، 19 مارس 2014 م – حوار أمينة الفضل. وراجع أيضًا، إفادات قيادي حزب الأمة، عبد الرسول النور لصحيفة "الصيحة"، في 6/4/2015).
من أكبر محطات العمل المعارض لهذا التحالف، ما سمي عام 1976، بالغزو الليبي. فقد انتقل العمل المعارض، عقب فشل تمرد الجزيرة أبا، من الدعم السعودي والإثيوبي إلى الدعم الليبي. أنشأ العقيد القذافي المعسكرات في الصحراء الليبية، لما سمي بـ "الجبهة الوطنية"، ومدها بالسلاح، والمال. وجرى، بعد فترةٍ قصيرةٍ من الحشد والتدريب ما سُمِّي في السودان بـ "الغزو الليبي". فشلت تلك المحاولة لانتزاع الحكم من جعفر نميري بسبب تآمر بعض أطراف هذا الحلف، على بعضها، وتبييت بعض أطرافها؛ السياسية والعسكرية، نية الغدر بالأطراف الأخرى، كما ورد في شهادات صانعي تلك الأحداث. وقد سرد قياديو الإخوان المسلمين بتفصيلٍ وقائع التهميش الذي حاق بهم في مجريات تلك المحاولة. فالجبهة الوطنية التي بدت للناس متحدة، كانت تحفل، في حقيقة أمرها، بتناقضاتٍ داخليةٍ حادة. وقد وصف القيادي الإخواني، أحمد عبد الرحمن حال أهلها، الذين لا ينفكون يتآمرون على بعضهم، بأن: "بأسهم بينهم شديد".
جاءت المصالحة الوطنية بعد سنةٍ واحدة من فشل الغزو الليبي. باع الإخوان المسلمون، في رمش العين، حلفاء الأمس في "الجبهة الوطنية"، وانخرطوا، بمفردهم، في العمل لتقويض نظام مايو، من داخل بنيته. ولقد تمثّلت بداية نهاية نظام نميري في إصداره، تحت تأثير الترابي، الذي أصبح نائبًا عامًا، قوانين سبتمبر 1983، ومن ثم مبايعته له، إمامًا للمسلمين. وقد قرّظ القيادي الإخواني الراحل، يس عمر الإمام، الذي كان وقتها رئيسًا لتحرير صحيفة الأيام، تلك البيعة، أيما تقريظ، فألحقها ببيعة الأصحاب للرسول صلى الله عليه وسلم، (صحيفة الأيام 24/8/1984). وانتهى الأمر بالسيد الصادق المهدي، الذي أصبح في بداية المصالحة الوطنية، مجرد مبعوثٍ للرئيس نميري، إلى سجينٍ في كوبر، من سبتمبر 1983، حتى ديسمبر 1984، بسبب خطبة في صلاة عيد الأضحى، ألقاها في معارضة قوانين سبتمبر.
أفضى تربص قوى المعارضة ببعضها، في حقبة الديموقراطية الثالثة، إلى تسلم الإسلاميين، في يونيو 1989، السلطة بمفردهم. وهكذا أصبح طرفٌ من أطراف "الجبهة الوطنية"، حاكمًا مطلقًا، عن طريق الانقلاب العسكري، وأصبح الطرفان الآخران "الأمة" و"الاتحادي" في "المعارضة"، وإلى الحالة القائمة اليوم، من الانهاك السياسي، وضياع البوصلة. وقد أصبح من العسير جدًا أن نصفهما بأنهما طرفٌ في الحكم، أو طرفٌ في المعارضة.
في عام 1996 تسلل السيد الصادق المهدي، بحكم موقعه كمعارضٍ للإسلامين، إلى إرتيريا، في ما سُمِّي بعملية "تهتدون. وقال القيادي في حزب الأمة عبد الرسول النور، إن حزب الأمة رأى أن يخرج السيد الصادق المهدي من السودان، حتى لا يستخدمه النظام رهينةً. وأضاف، أن الهدف الآخر من خروجه، هو أن "يلجم ناس التجمع في الخارج"، حتى لا يقوموا بحركة غير محسوبة، وكذلك، لتأسيس جيش الأمة بالخارج، ولإعادة الحلفاء الإقليميين والدوليين للحزب. (موقع النيلين، 17/5/2015، على الرابط: goo.gl/qeJLWr).
لكن، في واحٍد من منعطفات التراشق الكلامي الحادة، بين الاتحاديين وحزب الأمة، قال القيادي الاتحادي، علي السيد إن خروج الصادق المهدي إلى أسمرا كان بترتيب من نظام الإسلاميين الحاكم، نفسه، ولم يكن تسللا كما أشيع عنه. (الراكوبة 11/3/2013، على الرابط: goo.gl/xOE0v). خلاصة الأمر، أن السيد الصادق المهدي لم ينجح في أيٍّ من مهامه التي قيل أنه خرج لينجزها. فهو لم ينجح في تأسيس جيش الأمة، كما لم ينجح في لجم المعارضة وفقًا لمنظوره. بل انتهت المعارضة المنطلقة من أسمرا، هذه المرة، في نهاية تداعياتها، إلى موت ما سُمي وقتها بـ "التجمع الوطني"، وولادة مسلسل مشاكوس/نيفاشا، ومن ثم، بروز الشراكة الثنائية الحصرية، بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني. وهي شراكةٌ، كما نعلم جميعا، انتهت، بعد ست سنواتٍ من التدابر الممض، بمأساة فصل جنوب السودان عن بقية القطر. وهذا ما سنعرض له من سيرة ما يسمى بـ "المعارضة" في الجزء الثاني من هذا المقال.

elnourh@gmail.com

 

آراء