ثورة 17 نوفمبر 1958م … ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
ثورة 17 نوفمبر 1958م
The November 17 Revolution
Peter K. Bechtold بيتر كي. بيشتولد
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لبعض ما ورد في الفصل السادس من كتاب Politics in the Sudan المعنون "ثورة 17 نوفمبر"، من تأليف بيتر كي. بيشتولد. ويتكون الكتاب من ثلاثة أجزاء في كل جزء منه 3 – 4 فصول، تتناول الحكم البرلماني والعسكري لدولة نامية في أفريقيا (السودان). صدر الكتاب في عام 1976م عن دار نشرPraeger Publisher.
ويعمل المؤلف بحسب سيرته الذاتية المختصرة في موقع جامعة بورتلاند أستاذا للعلوم السياسية في تلك الجامعة. وكان قد قدم رسالة دكتوراه عن الحكم البرلماني والعسكري في السودان (بعد زيارة بحثية له في الستينيات). وللمؤلف بالإضافة لهذا الكتاب نحو 20 مقالا وعددا من المشاركات الأكاديمية الإعلامية المتنوعة في شئون الشرق الأوسط
المترجم
**** **** ****
بعد إذاعة بيان الفريق إبراهيم عبود عبر راديو أم درمان في 17 نوفمبر 1958م أدرك السودانيون تصورات الحكام العسكريين الجديد عن حال البلاد، وكيف أنها كانت مواجهة بأزمة وطنية عميقة، لم يكن ليخرجها منها سوى تدخل سريع وحاسم للجيش لاستلام السلطة. ولعل كل المراقبين السياسيين في السودان كانوا على اتفاق تام حول الشطر الأول من ذلك البيان (وهو أن السودان كان مواجها بأزمة وطنية عميقة). بل لقد قوبل إنهاء الحكم البرلماني (مؤقتا على الأقل) بارتياح شعبي شديد. غير أن قدرة وخبرة الحكام العسكريين الجدد على حل الأزمات التي تكتنف البلاد كان موضع خلاف غير معلن بين كثير من الناس. وإن كان ثمة اتفاق بين أفراد وجماعات الشعب السوداني فهو أنه لم يكن بمقدور أي حاكم جديد أن يخلق مثل تلك الفوضى وذلك الارتباك الذي صنعته الحكومات السابقة لظهور نظام 17 نوفمبر في كل مناحي الشئون العامة، وقد يكون من الخير أن يجرب الشعب هذه المرة رجال الجيش. فما الذي سيخسرونه على أية حال؟
وكان أحد العوامل في ذلك القبول هو أمثلة الانقلابات الناجحة التي وقعت في عدد من الدول العربية مثل انقلاب مصر (والذي قاده ضابط نصف سوداني) وانقلاب العراق (1958م) وانقلاب الباكستان (لا سيما وقد كان لبعض الضباط السودانيين علاقات مهنية قوية ببعض ضباط أيوب خان قائد ذلك الانقلاب). وكانت الثورة المصرية في عام 1952م في نظر كثير من السودانيين هي (الحركة) العسكرية الوحيدة الناجحة في أفريقيا في عهد ما بعد الاستعمار، والتي تركت أثرا عميقا عند الشماليين في السودان، والذين كانت تمثل مصر بالنسبة لهم نافذة على العالم الخارجي.
ولن نتعرض في هذا المقال لتفاصيل حدوث ذلك الانقلاب، ولكن سنركز على أداء الحكام الجدد في مجالي الاقتصاد والاستقرار السياسي، وفي الطرق التي حاولت الطغمة العسكرية (military junta) اتباعها لحل المشاكل في هذين المجالين، وعلاقتها بالأحزاب السياسية القائمة.
كان مثال الانقلاب العسكري المصري في وقت الاضطراب السياسي ماثلا في عقول السودانيين عندما وقع الانقلاب العسكري السوداني (الأول) في نوفمبر من عام 1958م. غير أنه من الواجب أيضا تذكر الفرق الجوهري بين الانقلابين. لقد ظلت الطغمة العسكرية في مصر تخطط لانقلابها ضد الحكم الملكي قبل سنوات عديدة من تنفيذه، إلا أن عسكر السودان لم يكن يخططون أو يستعدون لأي انقلاب. لقد كان هنالك دليلا ظرفيا قويا (دون إثبات قاطع) على أن رئيس الوزراء عبد الله خليل قد دعا صديقه القديم (الفريق) إبراهيم عبود للسيطرة مؤقتا على مقاليد الحكم بالبلاد حتى تهدأ ثائرة أزمات البلاد السياسية والاقتصادية (أشار الكاتب هنا لرأي مخالف أدلى به محمد عمر بشير يتعلق بتورط حزب الأمة في قيام ذلك الانقلاب، وذلك في كتاب "تاريخ الحركة الوطنية في السودان بين 1900 و1969م المترجم عن كتاب "Revolution and nationalism in the Sudan" المترجم). وكان عبد الله خليل على علم بطبيعة تفكير العسكريين ونظرتهم للسياسة المدنية، فقد عمل من قبل ضابطا في الجيش لأكثر من ثلاثين عاما. وهنالك دليل آخر على صحة نظرية عملية "التسليم والتسلم"، ألا وهو توقع عبد الله خليل أن يتم تعيينه في مجلس وزراء النظام الجديد (هو وإسماعيل الأزهري وسياسيين آخرين). ولكنه أصيب بصدمة قوية عندما أودعه النظام الجديد السجن (لفترة قصيرة)، وعندما علم بتوزيع كل الحقائب الوزارية المهمة على أعضاء المجلس العسكري الأعلى. ورغم كل تلك المعطيات فإن الثابت هو عدم تحضير الجيش السوداني لذلك الانقلاب، والذي حكم قادته لستة أعوام قادمة. وربما يصدق ذلك القول كذلك على الثورة التي أطاحت بنظام الانقلاب الأول في أكتوبر 1964م.
وحكم السودان لست سنوات بمجلس عسكري أعلى برئاسة الفريق إبراهيم عبود، وكان ذلك المجلس (كما يدل عليه اسمه) هو السلطة الأعلى بالبلاد. وتقلص عدد أعضاء ذلك المجلس من 13 في نوفمبر 1958م إلى 8 عند سقوط النظام في أكتوبر 1964م. وكان هنالك مجلس للوزراء يشارك في الحكم ووضع سياسيات الحكومة.
وتميز عهد عبود بثبات تركيبة مجلس الوزراء وشغل كبار الضباط للوزرات الرئيسة. وقام النظام بتغييرات في تركيبة المجلس العسكري الأعلى ومجلس الوزراء في أعوام 1959 و1960 و1963م. وكان مجموع عدد الوزراء في طوال ذلك العهد 16، ظل نصفهم في الوزارة دون تغيير، بينما بقي أربعة منهم في مجلس الوزراء مع تغيير في وزاراتهم. وبهذا يمكننا أن نعد ذلك العهد أكثر عهد شهد ثباتا في الحكم منذ عام 1953م حتى اليوم (أي حتى عام صدور الكتاب في 1976م. المترجم). واحتفظ عبود برئاسة مجلس الوزراء ووزارة الدفاع طول فترة حكمه، بينما ظلت وزارات الداخلية، والاستعلامات والعمل، والتجارة، والصناعة والتموين قصرا على كبار الضباط في المجلس الأعلى. واحتفظ حسن بشير نصر بمنصب نائب القائد العام للقوات المسلحة، ومقبول الأمين الحاج بمنصب سكرتير المجلس الأعلى. وكانت الوزارة السيادية الوحيدة التي تركت لمدني هي وزارة الخارجية، والتي شغلها أحمد خير المحامي. ولعل تركها لرجل مدني كان القصد منه هو إعطاء الدبلوماسيين الأجانب بالخرطوم، وللعالم الخارجي على وجه العموم "صورة/ صبغة غير عسكرية" للنظام.
وعلى الرغم من الفصل (الظاهري) بين السلطات في نظام عبود، فقد كانت هنالك دوائر صغيرة ومحددة في المجلس الأعلى كانت هي من بيدها عمليا صنع السياسيات بالبلاد. وأفلح هؤلاء في إدارة الاقتصاد بكفاءة عالية. غير أن نجاحاتها السياسية كانت موضع شك. فمن القرارات الاقتصادية التي أتخذها ذلك المجلس الأعلى هو منع الإضرابات والمظاهرات والنقابات والتنظيمات السياسية، الأمر الذي أفضى لنوع من الاستقرار الداخلي، وزيادة احتياطي النقد الخارجي 12 مرة في أقل من عامين، وتشجيع العالم الخارجي لتقديم المنح والقروض وزيادة الاستثمار الخارجي من أجل المساهمة في نمو الاقتصاد المخطط له. وتحسن وضع الاقتصاد السوداني وتصنيفه الائتماني للحد الذي جعل البنك الدولي يمنح السودان قرضا بلغ مقداره 15.5 مليون دولار في يونيو 1959م لإنشاء امتداد لمشروع الجزيرة بالمناقل.
وعزا الخبراء ذلك النجاح الاقتصادي إلى سياسة أكثر واقعية لتسويق القطن، مقارنة بما كان ممارسا في العهد النيابي السابق، حيث كان السودان يصر على أسعار ثابتة لقطنه رغم تناقص الطلب العالمي عليه. وكان لتحسن الاتصالات والمواصلات الداخلية (البرية والجوية)، وإنشاء الكثير من المشاريع الجديدة مثل توزيع القطع السكنية، وتنويع المحاصيل الزراعية كبير الأثر في تحسن الاقتصادي في ذلك العهد.
وارتفعت مستويات الحياة لكثير من السودانيين بصورة غير مسبوقة. إلا أنهم، رغم ذلك، بدأوا يضيقون ذرعا، وبصورة متسارعة، بالحكم العسكري. وكان وراء ذلك سببان: أولهما هو أن نجاح مشاريع الحكومة وهي في بدايات حكمها قد أغرى خبراء الاقتصاد بعمل خطة خمسية، ثم عشرية قدرت تكاليفها بخمسمائة مليون جنيه إسترليني. وفي أثناء تنفيذ تلك الخطط تم ارتكاب الكثير من الأخطاء نسبها البعض لمحدودية خبرة من قاموا على تلك الخطط الضخمة، ولتسرب داء الفساد، ولشغف العسكر بالإنفاق البذخي على المشاريع التي تكسبهم شعبية وسندا سياسيا (pork – barreling) دون أن يكون وراءها دراسة أو نفع مؤكد. وبدأ كثير من المتعلمين السودانيين في التساؤل عن مصدر تمويل تلك المشاريع الضخمة مثل سدي خشم القربة والروصيرص (مول السد الأخير جزئيا من البنك الدولي والولايات المتحدة وبعض بنوك المانيا الغربية). وسرت الشائعات عن قرب انهيار الاقتصاد السوداني.
وكان السبب الثاني لضيق السودانيين بالحكم العسكري هو قلة ثقتهم في ذلك النظام. وظهر ذلك في الرفض الشعبي لإسناد الفضل في ذلك التقدم الاقتصادي للعسكر، ولعل هذا هو سبب انتشار الشائعات بقرب انهيار الاقتصاد السوداني.
واتسعت الشقة بين النظام والشعب ربما – جزئيا على الأقل – بسبب تعود قادة النظام على صلاحيات السلطة (power prerogatives) وامتيازاتها المغرية، وبسبب تأبيهم على قبول نصائح المدنيين. وبدا أن هؤلاء القادة العسكريين لم يحسنوا تقدير هشاشة القاعدة التي بنى عليها الشعب قبوله بحكم عسكري (ديكتاتوري).
وتسنم العسكر سدة الحكم في 17/11/1958م، بموافقة ضمنية من قادة الأحزاب الرئيسة بالبلاد، خاصة من زعيمي طائفتي الختمية (السيد/ علي الميرغني) والأنصار (السيد/ عبد الرحمن المهدي). بل طالب كل واحد منهما ضمانا بالمحافظة على مصالح طائفته بأن يكون لها "ممثلين" عسكريين مباشرين في المجلس الأعلى. وفي الواقع استمد النظام العسكري شرعيته الابتدائية (initial legitimacy) تحديدا من قبول الطغمة العسكرية بذلك الشرط. ومن أمثلة هؤلاء الأميرالاي (القوي) أحمد عبد الوهاب، والمعروف بصلاته بحزب الأمة، والأميرالاي محمد أحمد عروة، والمشهور بصلاته بطائفة الختمية.
غير أن ذلك الاتفاق غير المكتوب لم يكتب له الاستمرار بسبب حدوث أمرين:
1. الأمر الأول هو الصراع في داخل المجلس الأعلى، والذي أفضى لطرد بعض أعضائه (أبرزهم الأميرالاي أحمد عبد الوهاب)، وتغيير تركيبة المجلس بصورة لم ترض القيادات المدنية الطائفية والحزبية، وتململ الجيش من الأوضاع، والذي ظهر في ثلاث محاولات للانقلاب في مارس ومايو ونوفمبر من عام 1959م. وشارك في الانقلابين الأولين الأميرالاي عبد الرحيم شنان (القائد العسكري في الشمالية) والأميرالاي محي الدين عبد الله (القائد العسكري في كسلا) بعد عزلهما من عضوية المجلس الأعلى. وبدأ الانقلاب الثالث في التاسع من نوفمبر من مدرسة المشاة بأم درمان. وأعتقل مدبرو ذلك الانقلاب وحكم عليهم بالإعدام علنا، ليكونوا عبرة للآخرين. ورغم قيام رجل المجلس القوي الأميرالاي حسن بشير نصر بتطهير الجيش من العناصر المعارضة للنظام، إلا أن التضامن (الظاهري) للجيش وتوحد عناصره كان قد بدأ بالفعل في التآكل، ولم يعد لسابق عهده قط.
2. والأمر الثاني هو عدم إبداء الطغمة العسكرية الحاكمة، مع مرور الوقت، أي اهتمام بالمصالح السياسية لشركائهم المدنيين، أو أي اهتمام حقيقي بمصالح البلاد، بل وإهمالها تماما. لذا بدأت الأصوات المنادية بالعودة للحكم المدني تتعالى بوتيرة وقوة كبيرتين. ومن أحد الأمثلة على ذلك هو الاتصالات الشخصية الخاصة للساسة بالحكام العسكريين، والمذكرة التي رفعها قادة الأحزاب السياسية الكبرى بالبلاد والتي دعوا فيها الفريق عبود للإيفاء بوعده في العودة بالبلاد إلى نظام / حكومة برلمانية كاملة.
وكانت ردة فعل الطغمة العسكرية متوقعة. فلقد لجأت لسياسة القمع حتى تسكت أصوات منتقديها، خاصة وهي لم تكن قد أقامت لها تنظيما شعبيا أو حركة بمقدورها تعبئة الجماهير المساندة لسياساتها، وبعد أن تقلص التأييد المدني غير الرسمي لها. ومنعت الحكومة قيام الأحزاب السياسية ونقابات العاملين، وفرضت حظرا شديدا على حرية الصحافة. ولم ينج من ذلك التضييق سوى حرم جامعة الخرطوم. ومع تصاعد حركات الاحتجاج من المهنيين والطلاب في تلك الجامعة على سياسات النظام أصدرت الحكومة قانونا لجامعة الخرطوم في فبراير من عام 1961م، يضعها تحت سيطرة الحكومة مباشرة. وفي عام 1963م أتبعت الجامعة لوزارة التربية والتعليم. ولم تفلح تلك السياسة إلا في زيادة عزلة النظام من الشعب، ودفعت بالمعارضة كي تعمل بصور سرية (تحت الأرض)، وهو الأمر الذي زاد من صعوبة ملاحقتها. وأخذ النظام في تشديد قبضته الأمنية فأمر باعتقال 12 من زعماء الأحزاب السياسية (الوطني الاتحادي والأمة والشيوعي) في يوليو من عام 1961م، ولم يطلق سراحهم من معتقلهم في جوبا إلا في يناير من عام 1962م. ولعل تجربة الاعتقال الجماعي لهؤلاء الزعماء السياسيين قد ساهمت لاحقا في إذكاء روح التعاون والائتلاف بينهم في غضون ما أقبل من سنوات. (من أسرار حادثة ذلك الاعتقال للساسة هو اعتقال رجل غير سياسي معهم هو القطب الرياضي المعروف شاخور!؟ المترجم). ويجب أن نذكر هنا أن الحزب الشيوعي قد كان في طليعة المعارضين السياسيين لنظام عبود، وغدا هو الهدف الأول للحكومة في صراعها مع المعارضة المدنية.
وتبع كل ذلك مظاهرات (غير مصرح بها) وتوزيع للمنشورات المعادية للحكومة، والقيام بحملات لنشر ما يدور همسا عن سوءات النظام، وقيام تنظيم لصغار الضباط متعاطف مع تطلعات المهنيين والطلاب للحكم المدني. وعجل انحياز صغار الضباط في أيام نظام عبود الأخيرة لجانب المدنيين بإسقاط ذلك النظام. وفي الشهور التي سبقت سقوط النظام في أكتوبر 1964م كان من الشائع والمثير للطلاب وصغار المثقفين توزيع منشورات الحزب الشيوعي رغم رفضهم الشخصي للماركسية، ربما فقط لنيل بعض الرضا النفسي من المشاركة في الطريقة الوحيدة المتاحة للمعارضة السياسية.
وكان للخدمة المدنية دورا مهما أيضا. فقد كان كثير من كبار الإداريين غير راضين عن وضع النظام العسكري لكبار الضباط على قمة الهرم الإداري في الأقاليم من دون علم أو خبرة. فقد كانت قرارات هؤلاء الضباط حكام الأقاليم تتسم في كثير من الأحيان بالاعتباطية. ولجأ كبار الإداريين إلى مقاومة النظام العسكري بطرق سلبية، منها عدم الاستجابة (أو تأخير) تنفيذ قرارات الحكام العسكريين.
وكان من الممكن للحكومة العسكرية أن تتفادى سلبية الإداريين ومعارضة المتعلمين السودانيين لو أتاحت لهم فرصا حقيقية للمشاركة السياسية. ولقد حاول النظام العسكري بالفعل الحصول على تأييد شعبي عن طريق إنشاء مجالس محلية. غير أن تلك المحاولة أثبتت إخفاقها في المحتوى والتوقعات. وأقامت حكومة عبود تلك المجالس المحلية على غرار ما نفذ في الباكستان تحت مسمى "الديمقراطية الأساس Basic Democracy"، مع بعض التعديل الذي أبتدعه رئيس القضاء محمد أحمد أبو رنات عندما ترأس لجنة عهد إليها بدراسة "أفضل الوسائل لتمكين المواطنين من المشاركة في حكم بلادهم". فبدأت 84 من تلك المجالس المحلية عملها في الأول من يوليو 1961م. وكان ثلثا أعضاء تلك المجالس منتخبين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، بحسب "نضج maturity" المصوتين في الانتخابات بكل منطقة. وكان من المؤمل أن تكون تلك المجالس المحلية هي القاعدة لهرم على قمته "مجلس مركزي". وبالفعل صدر قانون ينظم إنشاء "المجلس المركزي" في 1962م. وتقرر إقامة انتخابات الحكومة المحلية في بداية عام 1963م.
وتوجد بالفعل الكثير من الإشارات الدالة على صدق نوايا النظام العسكري في السعي نحو منح الشعب قدرا محسوبا من الديمقراطية، غير أنه لم يكن متأكدا من تعريف القدر الكافي من معايير تلك الديمقراطية، ومن قدرته على التعامل مع متطلبات ومصالح الجماعات المختلفة. وكانت النتيجة هي مقاطعة رؤساء الأحزاب السياسية لتلك الانتخابات من غير إعلان (discreetly). ورغم ذلك فقد أيد أو شارك في تلك الانتخابات عدد من الأسماء المعروفة في قيادات تلك الأحزاب (كان من بينهم على سبيل المثال أحمد سليمان المحامي من الحزب الشيوعي، والذي أخفق في الفوز بمقعد في ذلك المجلس. المترجم). وانعقدت أول جلسة لذلك المجلس في نوفمبر عام 1963م، وتواصلت أعمال المجلس في عام 1964، وهو العام الذي سقط فيه النظام. واختلفت آراء جماهير الشعب في "المجلس المركزي". فقد عد المثقفون نواب ذلك المجلس سدنة للطغمة العسكرية، ومجموعة من الانتهازيين الذين لا هم لهم سوى الحصول على امتيازات عضوية المجلس ومرتبها الضخم، دون أن تكون لهم أي شرعية أخلاقية. وفي جانب آخر أثار بعض أولئك النواب قضايا هامة منها ضيق هامش الحريات الصحفية، وغياب سياسة واضحة تجاه مشكلة الجنوب، وعدم كفاءة وفساد الإدارة بالبلاد. ووجدت تلك الانتقادات الجريئة – للغرابة- تغطيات صحفية عديدة، وأفلحت تلك التقارير الصحفية بلا شك في إيقاظ الرأي العام.
ورغم كل ما يقال عن سلبيات نظام عبود، فلا ريب أن له كما ذكرنا آنفا بعض الإنجازات، خاصة على صعيد الاقتصاد والثبات والنجاح (النسبي) في السياسة الخارجية مع دول الجوار والغرب. ويجب أن نذكر أن الطغمة العسكرية نجحت فيما أخفقت فيه الحكومات السابقة من الوصول لصيغة مرضية في اتفاقية مياه النيل مع مصر عام 1959م، وهذا مما يجب أن يحسب لها (يرى كثير من الخبراء السودانيين عكس ما أتى به هذا المؤلف. المترجم). غير أنه عندما يسقط نظام ما في أعين الجماهير، فإن الأسباب عادة لا تكمن في سياساته المختلف عليها فحسب، بل في عدم قدرته على تقديم نفسه في صورة (image) شعبوية وديناميكية. وتضافرت كل تلك العوامل لإسقاط نظام عبود. فمع مرور السنوات أحس المواطنون بأن البلاد بأسرها يحكمها بالفعل أربعة رجال (عبود وحسن بشير وأبو رنات وأحمد خير)، بينما لم يكن الضباط أو الوزراء الآخرين يفعلون شيئا غير تنفيذ سياسة هؤلاء "الأربعة العظام". وزاد الأمر تعقيدا أن هؤلاء الأربعة جميعهم كانوا من قبيلة واحدة (الشايقية) ويتعاطفون مع طائفة واحدة (الختمية)، وهذا مما يعزل طائف الأنصار (وحزب الأمة) وإلى حد ما إسماعيل الأزهري. ومما عزز ذلك الانطباع هو اعتقال قادة أحزاب الأمة والوطني الاتحادي والشيوعي في جوبا بين عامي 1961 و1962م، واستثناء زعماء حزب الشعب الديمقراطي (الذي يرعاه زعيم الختمية) من الاعتقال.
كذلك عانى النظام من "فجوة أجيال" فعبود (الذي دخل مجال الجندية في 1918م) كان ينظر له بحسبانه والدا عطوفا لين الجانب، لا يمكنه ولا يرغب في إيذاء أحد من الناس، ولم يختار/ يدع لقيادة ذلك الانقلاب إلا لأنه تصادف أن كان القائد الأعلى للجيش في عام 1958م، ولم يكن له أي طموح للرئاسة. وفي المقابل كان أعضاء مجلسه أصغر عمرا (فقد بدأوا الخدمة العسكرية بين عامي 1937 و1942م)، وكان لهم فيما يبدو مصالح (مطامع) سياسية وشخصية. ونسب الناس إلى بعضهم – في المجالس الخاصة - الكثير من تهم الفساد بأنواعه المختلفة. وظلت صورة عبود عند العامة، حتى لوقت طويل بعد سقوطه، هي صورة "الأب الحنون"، والذي كان جاهلا بسلوك ضباطه الفظيع.
لم يكن نظام عبود مؤهلا للتعامل مع القضايا والمشاكل السياسية المختلفة التي واجهته. ولعل من أوضح المشاكل العويصة التي واجهته هي إعادة توطين نوبة وادي حلفا بعد إقامة مصر للسد العالي، ومشكلة تمرد بعض الجنوبيين ضد ما كانوا يرونه من هيمنة للشمال عليهم. وتعامل النظام في الحالتين بصورة عنيفة وعديمة الخيال (unimaginative) لم تجلب للنظام سوى مرارات واحتجاجات كان بعضها عنيفا ودمويا (مثلما حدث في الجنوب).
(بعد ذلك تناول المؤلف مشكلة جنوب السودان في أربع صفحات، أسبابها ونتائجها، وما فعلته حكومة عبود حيالها. المترجم).
وما أن حل شهر أكتوبر عام 1964م حتى كانت القيادة العسكرية قد حازت على عداء الطلاب والأساتذة والسياسيين وموظفي الخدمة المدنية، والصحفيين، والمحامين وقادة النقابات، وحتى صغار ضباط الجيش. وفي الختام، وفرت حدة المعارك المستمرة في جنوب السودان الشرارة التي أشعلت نيران ثورة أكتوبر 1964م.
alibadreldin@hotmail.com