في اول خطوة شجاعة اتخذت بعد سبعة وعشرين عاما منذ من مجيء نظام الإخوان المسلمين الي الحكم جاء اضراب الأطباء كتطورنوعي ومؤشر قوي علي إسترداد الحركة النقابية عافيتها مستعيدة بذلك تاريخ حافل من نضال دؤوب إمتد منذ بداية معارك التحررالوطني من الإستعمار البريطاني حتي نظاميين عسكريين جري اسقاطهما بواسطة ثورتين شعبيتين كانت النقابات محركها ومحدد بوصلتها ,غير ان تلك الأداة الفعالة والمجربة كوسيلة للتغيير الثوري تم تعطيلها منذ اول وهله عندما اعلنت نقابة الإطباء في بداية الإنقلاب العسكري عام89 الإضراب رفضا له كعمل مخالف للدستور والنظام الديمقراطي , فبادرالنظام برفع فزاعته ليحكم بالإعدام علي نقيب الأطباء مامون محمد حسين الذي دعا الي مقاومة الإنقلاب وفقا لميثاق الدفاع عن الديموقراطية الذي وقعته القوي السياسية بعد نجاح الإنتفاضة التي اطاحت حكم النميري عام 85 . يقود ذلك الي الدورالنقابي في اسقاط نظامين عسكريين حكما السودان في الخمسينات والستينات من القرن الماضي , ففي الثالث عشرمن ديسمبر الشهر الثاني من إنقلاب17 نوفمر كانت ضربة البداية للسلطة العسكرية الجديدة هي حل اتحاد العمال وإغلاق دوره وصحفيته الطليعة وتقديم قادته لأول محاكمة عسكرية في تاريخ البلاد ,ولكن ذلك لم يفت من عزيمة الحركة العمالية فأستمرت المواجهة بين العمال والنظام العسكري تقدما وتراجعا حتي اوستوثق النظام إن الخطر الوحيد يأتيه من النقابات المسنودة من الحزب الشيوعي وليس من الحزبين الكبيريين اللذين ايدا الإنقلاب ,ولإبطال فاعلية اي تحرك عمالي قام النظام بالغاء قانون العمل لعام 1948الذي وضعته الإدارة البريطانية وهوالقانون الذي اعترف بحق العمال في تنظيم انفسهم عبر نقاباتهم . واصلت الحركة النقابية نضالها فتوجته باول اضراب لعمال السكة الحديد في يونيو عام1966 ذلك الإضراب الذي شل حركة النقل تماما من والي الخرطوم والمدن الأخري, فما كان من السلطة العسكرية إلا ان شنت حملة إعتقالات واسعة شملت العديد من القيادات العمالية وحتي تزيل هذا الخطر ولتلافي تكرار مثل هذا الإضراب اسست 17 ما اطلقت علية "الكتيبة الإستراتيجية" قوامها عسكريون من الجيش وفنيون من مصلحة النقل الميكانيكي دربوا علي قيادة القطارات لتقطع الطريق علي اية إضرابات في هذا المرفق الهام , ولكن الخطوة فشلت في تغطية مساحة يبلغ طول خطوطها 4578 كيلومتر, فاستمرت المواجهة مع النظام وتطورت الحركة النقابية لتسقطب الطلاب والمزارعين , والمحامين , والفئات الأخري حتي توجت بإسقاط نظام 17 نوفمبرفي ثورة شعبية في الحادي والعشرين من شهر اكتوبرعام 1964 . في لخامس والعشرين من شهر مايو عام 1969 تغير دور الحركة النقابية في مواجهة الإنقلاب اليساري الذي قام به ضباط يساريون وجدوا في بدايته المساندة من جزء من الحزب الشيوعي , وبدلا من تفعيل الحركة النقابية لتتصدي للإنقلاب لكونه ضد النظام الديمقراطي وينتهك الدستور ,سارع قادة اتحاد العمال بإخراج موكب حاشد تأييدا للنظام العسكري الجديد لمجرد كونه رفع شعارات يسارية تعد بتطبيق الإشتراكية في البلاد وتلك كانت سقطة نقابية كبري لم تتم معالجتها إلا بعد ان اتضح للجميع ان نظام النميري هو نظام ديكتاتوري غارق في الشمولية إتخذ من تلك الشعارات قناعا له ولكنه سرعان ما استبدلها بقناع اسلاموي ضمن لعبته السياسية ,فعادت النقابات مرة اخري تتمرد علي وصاية الإتحاد الإشتراكي حزب السلطة الوحيد وتتصدي لممارسات النظام . في أكتوبر عام 1980 عاشت العاصمة في ظلام دامس قرابة الشهر من جراء الانقطاع المستمر للكهرباء، ناهيك عن انقطاع الماء، ورافق ذلك أنّهيار كامل في الخدمات بسبب انعدام البترول. كانت السيارات تنتظر لمدة أسابيع من أجل جرعة بنزين تحرك أحشائها الساكنة، ويومها وصف تقرير لوكالة رويترز العاصمة السودانيّة بأنّها مدينة أشباح انطفأت فيها الحياة وتكاد تتآكل من الجوع والعطش ,واندلعت تظاهرات طلابية غاضبة تنادي بسقوط النظام، فتصدّت لها قوات الاحتياط المركزي وقمعتها بالقوة مستخدمة عصي كهربائية جلبها نميري من الولايات المتحدةكما جري إغلاق المدارس خوفاً من أنْ تتحول المظاهرات إلى حركة احتجاجات واسعة تشمل قطاعات الشعب الأخرى.
كانت صحف النظام تزيد من استفزاز الناس بتصويرها للأوضاع المتردِّية بأنّها مؤقتة، وأنّ محطات جديدة يجرى تركيبها لتوفير الكهرباء والماء، و مضت هذه الصحافة بأقلام صحفييها تخدع الناس بأن ما يحدث هو حالة مؤقتة, وإثر ذلك سارعت السلطة لتلافي الموقف، فدعا الرشيد الطاهر بكر أمين دائرة الشؤون السياسيّة والمنظمات بالاتحاد الاشتراكي إلى اجتماع حضره ممثلو قادة مختلف النقابات العمالية جرت فيه مواجهة صريحة مع صناع القرارالسياسي حول هذه الأزمات, لكن هذا لم يوقف وتيرة الأحداث المتسارعة عندما قامت نقابات المحامين ,والمهندسين والمصارف,والصحفيين خارج سياق السلطة لتفجر المواجهة في الشارع فذابت نقابات النطام المصنوعة كفص الملح, وهرب قادتها الإنتهازيون خوفا من إنتقام الجماهير الثائرة. ربطا لما جري بين تجربتين ثوريتين وهذه التجربة ,اعادت الإنقاذ سلاح النميري نفسه ولكن هذه المرة بقناع ديني فحلت النقابات الأصلية لتستبدلها بإتحادات كرتونية موالية لها, وبدلا من اتحاد كان علي رأسه قيادات خرجت من وسط طبقة العمال , شهد الناس لأول مرة في تاريخ الحركة النقابية رئيس لإتحاد العمال بدرجة بروفسور وهو ما يكشف عن عملية المسخ المتعمدة لوظيفة النقابة التي ارادوا لها ان تجمع بين المخدم والمستخدم وهي لعبة الإتحاد الإشتراكي نفسها التي داست عليها اقدام الجماهيرفي إنتفاضة ابريل . صحيح إن نظام الإنقاذ تنبه من اول وهلة لخطرالنقابات وكان عليه ضمن عملية ما يسمي بالصالح العام ان يشن حملة تشريد واسعة للقيادات النقابية اغلبها طاله الفصل ,والبعضالأخر فتح له باب الهجرة الي خارج السودان مما عطل عملية التغيير سبعة وعشرون عاما, ولكن مع كل هذا يبرز سؤال مفتاحي هام ,وهو هل نجحت الإنقاذ في تكسير الأدوات النقابية نهائيا ؟,هل استطاعت بالقوانين المقيدة للحريات توفير الأمن لنفسها من عاديات الوضع الإقتصادي الذي يلفظ انفاسه,؟ هل اقتنعت الإنقاذ بأن نقاباتها المصنوعة فشلت فشلا ذريعا في التصدي والدفاع عن مطالب قواعدها ؟إن الإجابة تبرز جلية في تجربة الإطباء التي تجاوزت اتحاد السلطة بل اهالت عليه التراب "كريبوت" لم يعد قادرا علي الحركة امام المتغيرات المفاجئة , كما وجدت السلطة نفسها عاجزة عن إستخدام عنفها المعهود ضد فئة من المجتمع تطالب بتوفير العلاج لكل المجتمع . اتهم وزير الصحة الولائية اضراب الإطباء بأنه إضراب سياسي , ونسي إن وصول المستشفيات الي هذا الدرك من الإنحطاط هو بالمقابل عمل سياسي نفذته دولته بتوجيه اكثر من نصف الميزانية بالصرفع لي حماية نفسها بينما اسقطت نهائيا بند حماية المواطن من المرض. لقد نجحت الإنقاذ في قمع محاولة الأطباء التاريخية الأولي عندما تحدوا النظام في شهره الثاني وذلك باستخدام سلاح الحكم بالإعدام علي نقيب الإطباء يومذاك ,ولكنهم لم ينجحوا مع جيل الأطباء الجدد الذين يطالبون بألا يعدم المواطن بسبب إنعدام ادني مقومات الحياة في شفيات اشبه بالخرابات . تقدم تجربة إضراب الأطباء نموذجا شجاعا لباقي الفئات الأخري لأن تحذوحذوها وفي مقدمتهم فئة المعلمين الذين يعملون في بيئة مثل بيئة المستشفيات ,ولاتختلف البيئتان في الشكل والمحتوي بعد ان تخلت الدولة عن مجانية التعليم ,واطلقت لكوادرها ومحاسيبها بناء المدارس الخاصة كأستثماراسلاموي جديد اثقل كاهل الناس وجعل كثير من اولياء الأمور يعجزون تماما عن مواجهة الأعباء المالية التي وصلت حتي المدارس الحكومية,إن التضامن الذي ابداه المعلمون وتجمعات نقابية اخري تجاه الأطباء هو بدايةعملية تراكم مطلبي سيعزز بالتداعي من عودة الروح الي الحركة النقابية وصولا الي العصيان المدني وما اضراب الأطباء إلا بروفة لذلك اليوم.