الجهاد والحروب الصليبية في السودان من 1881م – الآن (2)

 


 

 

Jihads and Crusades in Sudan from 1881 to the Present (2)

Heather Sharkey هيزر شاركي
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص للجزء الثاني والأخير من مقال الدكتورة الأميريكية هيزر شاركي نشر ضمن كتاب من تحرير سهيل هاشمي كان قد صدر عن دار نشر جامعة أكسفورد في عام 2012م تحت عنوان: "الحروب العادلة والحروب المقدسة والجهاد: مواجهات وتبادلات المسيحيين واليهود والمسلمين"
"Just wars, holy wars and jihads: Christian, Jewish and Muslims encounters and exchanges"
ويدور المقال حول الأسئلة العسيرة التي نتجت عن تاريخ طويل من الانتصارات والثورة والحكم الاستعماري بالسودان، وعن الصراعات بين الاسلام والمسيحية فيه، وبين المسلمين أنفسهم حول طبيعة الحكومة الإسلامية والمجتمع.
تعمل الكاتبة (الحاصلة على درجة الماجستير من جامعة درم البريطانية، والدكتوراه من جامعة وبريستون الأمريكية) أستاذة مشاركة بقسم لغات وحضارات الشرق الأدنى في جامعة بنسلفانيا حيث تقوم بتدريس تاريخ ولغات وحضارات الشرق الأوسط والأدنى. ولها عدة كتب ومقالات عن السودان ومصر منها كتاب "العيش مع الاستعمار: الوطنية والثقافة في السودان الإنجليزي المصري"، وكتاب "الإنجيليون الأمريكيون في مصر" و"الهوية والمجتمع في الشرق الأوسط المعاصر" و"تاريخ الصحافة العربية في السودان". وكنت قد عرضت بالترجمة والتلخيص لعدد من كتابات الدكتورة شاركي في مقالات سابقة منها مقال بعنوان "سجلات التقدم: نساء شمال السودان في عهد الإمبراطورية (الإمبريالية) البريطانية".
المترجم

***** ********* ********
الحروب الصليبية المسيحية
هل ألهمت الخطابات الجهادية (Jihadist discourses) في السودان الحديث بالمقابل حروبا صليبية استعمارية؟ زعم بيرنارد لويس في كتابه "أزمة الإسلام" أن ترجمة كتب تاريخ أوربا في نهاية القرن التاسع عشر للغة العربية جددت اهتمام المسلمين بالحروب الصليبية (التي جرت بين عامي 1096 – 1271م) وقدحت زناد اهتمام مضاد بالجهاد. غير أنه يمكن القول بأنه في السياق المحلي المحدد بالسودان، فقد حدث العكس. أي أن خطابات تأكيد الحرب الإسلامية المقدسة في داخل الحركة المهدوية هي التي شجعت الخطابات المسيحية المضادة، خاصة في أوساط المبشرين البريطانيين.
ولا ريب أن المبشرين الإنجيليين Evangelicals البريطانيين، وإلى حد ما الأمريكيين، قد سعوا بقوة بعد ثمانينات القرن التاسع عشر (أي عند احتلال بريطانيا لمصر) لتنصير المسلمين في أرجاء العالم، من المغرب إلى جنوب شرق آسيا. وفي تلك الفترة كان المبشرون البريطانيون يتبنون منهجا خطابيا قويا يعكس لغة المستعمرين العدائية. وفي بريطانيا نفسها حافظت الامبريالية الشعبية (popular imperialism) والوطنية الشعبية (popular nationalism) على ابعاد بروتستانتية انجيلكانية قوية. واتخذ المبشرون، ردا على الثورة المهدية، لهجة حادة في وقت كان يتوقع فيه البعض منافسة قوية بين المسيحية والاسلام في استقطاب أرواح وأفئدة الناس. وبحلول عام 1898م كان المبشرون الأمريكيون والبريطانيون يهللون لتقدم القوات البريطانية – المصرية في سودان المهدية، بينما عبر المبشرون البريطانيون العاملون في الجمعية الكنسية التبشيرية (CMS) عن رغبتهم في تنصير المسلمين بحسبان ذلك انتقاما من مقتل غردون قبل سنوات (للكاتبة مقال يفصل في تلك النقطة بعنوان: "مسيحيون في أوساط المسلمين: الجمعية الكنسية التبشيرية في السودان الشمالي" سبقت لنا ترجمته. المترجم). ويمكن القول على وجه الإجمال أن السلطات البريطانية الاستعمارية لم تعلن قط عن سياسة صليبية رسمية مثل تلك التي أعلنها المهدي للجهاد، إلا أن بعض البريطانيين بالسودان (خاصة من مبشري الجمعية الكنسية التبشيرية) كان يصرحون علنا في نهاية القرن التاسع عشر بخطاب صليبي تبشيري. وكانوا يفعلون ذلك في الغالب من باب التَحْمِيس والتأييد والتعضيد للمسيحيين الأنغليكانيين في كنائسهم الأم (الرئيسة) والتي كانت هي المصدر الرئيس لتمويلهم.
ولعل إدراك ذلك الخطاب المسيحي المتشدد (militant rhetoric) هو الذي دعا جانيس بودي في كتابها الموسوم " تمدين النساء": الحملة الصليبية البريطانية على السودان المستعمر" للقول بأن السياسات البريطانية في السودان عقب عام 1898م كانت قد بلغت حد "الاستعمار الصليبي". وزعمت أن تلك الروح الصليبية لم يقف من ورائها المبشرون البريطانيون فحسب، بل سائر الموظفين البريطانيين العاملين في خدمة النظام الاستعماري، والذي كانت لديهم أجندات مسيحية مسبقة. وذهبت إلى القول بأن الجهود البريطانية بدأت بحملة صليبية ضد المهدية، ثم تطورت في بدايات القرن العشرين إلى حملة صليبية ضد العادات السودانية، شملت عادة الخفاض. ووصفت بودي المسئولين البريطانيين بأنهم كانوا يتصورون أنفسهم "فرسان الإدارة" وهم يساوون بين المسيحية والتحضر / التمدن، ويدخلون في صراع يمكن وصفه بـ "صراع مبادئ الأخلاقيات Clash of moralities "، وتخريج بعض الأهالي للعمل في القبالة والتعليم الأولي وكأنهم "مبشرين علمانيين secular missionaries". ولا شك أن آراء بودي تلك تتصف بالتعميم الكاسح، إذ تتجاهل تماما الآراء المتباينة لدى المسئولين البريطانيين ودوافعهم المختلفة.
وفي الحقيقة كان كبار المسئولين الاستعماريين البريطانيين (مثل لورد كرومر والسير ونجت باشا) يتضايقون من رجال البعثات التبشيرية المسيحية، ويؤمنون بأن أجندتهم الساعية لتنصير المسلمين ستحفز قيام ثورة شعبية في أوساطهم. لذا كانوا يقابلونهم ببرود وتشكك. غير أنهم لم يكونوا يجهرون برأيهم فيهم خشية من ردة فعل الرأي العام البريطاني المتحمس لعملهم. وبعد زمن قصير من استعادة (غزو) السودان منعت السلطات البريطانية البعثات التبشيرية رسميا من نشر دعوتها في أوساط السودانيين المسلمين، ولكنها سمحت لهم في البقاء في شمال السودان شريطة ألا يتعدى عملهم محيط الأجانب المسيحيين (مثل الأقباط والإغريق والأثيوبيين)، أو تقديم الخدمات الاجتماعية للمسلمين، على ألا يحاولوا تحويلهم عن دينهم. ولم ترض الجمعية الكنسية التبشيرية بذلك الحجر على نشاطها وبذلت ما في وسعها للالتفاف عليه. وقام مناصرو الجمعية الكنسية التبشيرية في المؤتمر التبشيري العالمي المنعقد بأدنبرا عام 1910م بانتقاد السياسات البريطانية تجاه المبشرين في السودان وشمال نيجيريا. وعبر مبشرو الجمعية الكنسية التبشيرية عن انزعاجهم من سماح المسئولين البريطانيين بتدريس مادة الدين الإسلامي فقط في كلية غردون، واستخدام كتب قواعد اللغة العربية التي تنكر العقيدة المسيحية.
غير أنه كان للسلطات البريطانية (مثل وينجت وغيره) تدبير آخر للمبشرين المسيحيين. فقد وجهت السلطات أولئك المبشرين نحو الجنوب، وزينته لهم بحسبانه مجالا بكرا وواسعا لتنصير "الوثنيين". وفي مناورة ذكية أفلحت السلطات البريطانية في اقناع البعثات التبشيرية بتحمل تكاليف فتح المدارس بالجنوب، وتدريب الجنوبيين ليعملوا كتبة في حكومة السودان. وفي ذات الوقت استخدمت الحكومة تلك البعثات التبشيرية لتمثلها في المناطق النائية والتي لم يكن بها وجود فعلي لأي سلطة رسمية.
وهلل المبشرون في عام 1932م للنجاح الكبير الذي أحرزوه في تنصير أعداد كبيرة من الجنوبيين، ووصفوه بأنه "حركة جماهيرية". وقال أحدهم عمل في ياي: "التفت أعداد كبيرة (من الجنوبيين) حول العربة، وهم يطالبون بالكتب والتعميد والتصديق (confirmation) وزيادة عدد المدرسين". وكثيرا ما كان المسئولون البريطانيون يتضايقون من هؤلاء المبشرين حتى في جنوب السودان. ففي عام 1938م قاموا بترحيل أحد مبشري الجمعية الكنسية التبشيرية (واسمه ريتشارد جونز)، والذي كان يداوم على وعظ المتنصرين الجدد بخطب نارية يدعو فيها الخطائين والعصاة المنحرفين للتوبة. ويبدو أن المسئولين كانوا يعتقدون بأن خطب ذلك المبشر قد تلهب المشاعر بأكثر مما ينبغي. غير أن بعض هؤلاء النصارى الجدد أعجبوا بخطب الرجل النارية وطفقوا في تقليدها، بكل ما كان فيها من عبادة شاطحة وعلاج روحي (شفاء إيماني). وظل تأثير ريتشارد جونز قائما لسنوات عديدة بعد رحيله.
وعلى الرغم من أن أعداد الجنوبيين السودانيين الذين قامت الجمعيات التبشيرية بتنصيرهم كانت قليلة بالنسبة لعدد الجنوبيين الكلي، إلا أن خريجي المدارس التبشيرية غدوا هم الأكثر تنظيما وانخراطا في السياسة، وقادوا كل الحروب الأهلية التي بدأت بتوريت في عام 1955م. ومثل هؤلاء الخريجون نواة المجتمعات المسيحية التي توسعت فيما بعد بصورة دراماتيكية في أواخر القرن العشرين، حتى قال أحدهم في تسعينيات القرن العشرين أن المسيحية بجنوب السودان الذي مزقته الحرب قد غدت "حركة جماهيرية، وأداة من أدوات المقاومة الجماعية".
ورغم أن المبشرين البريطانيين لم يتوقفوا - رغم الحظر الحكومي – عن محاولة تنصير المسلمين في شمال السودان كلما سنحت لهم الفرصة، إلا أنهم وحتى عام 1956م (أي خلال نصف قرن كامل) لم يفلحوا في مسعاهم سوى في تنصير شخص واحد فحسب. ولكنهم رغم ذلك تركوا أثرا ضخما في مجال العمل الاجتماعي والتعليمي، خاصة في مدارس البنات، والتي كانت تستقبل التلميذات من أصول مسترقة (للكاتبة مقال بعنوان: "سجلات التقدم: نساء شمال السودان في عهد الإمبراطورية (الإمبريالية) البريطانية"، توسعت فيه في شرح هذا الجانب. المترجم).
وبين فترة وأخرى، خاصة بين الحربين العالمتين، كانت تسري شائعات عن أن المبشرين كانوا يقومون بتنصير صغار البنات اليتامى بشمال السودان. ودفع ذلك الأهالي في عشرينيات القرن العشرين للتجمع وجمع الأموال لبناء مدارس أهلية كبديل عن مدارس المبشرين، إذ أن عدد المدارس الحكومية كان قليلا، ولا يدخلها إلا صفوة الطلاب (نذكر هنا بيت شعر يوسف مصطفى التني:" ما بخش مدرسة المبشر... عندي معهد وطني العزيز". المترجم). وقر عند كثير من مفكري المسلمين أن الحكم البريطاني الاستعماري قد سمح، بل حرض، المنظمات التبشيرية المسيحية على تنصير المسلمين. كذلك تنادت بعض نساء السودان (في المدن) إلى تكوين ما عرف بـ "بيوت الخياطة"، حيث تتعلم الفتيات مبادئ التدبير المنزلي قبل دخولهن لعالم الزوجية. ويعتقد البعض بأن مقاومة نساء السودان وخروجهن في مظاهرة مناهضة للمدارس التبشيرية عام 1946م قد ألهمهن إنشاء "الاتحاد النسائي السوداني" في 1952م، والذي يعد أحد أهم منظمة نسائية مدافعة عن حقوق المرأة.
وتبرز هنا قضية "حملات الاستعمار الصليبية". فقد حفزت سياسات الاستعمار ونشاط البعثات التبشيرية روح المقاومة عند المسلمين، وخير مثال على ذلك هو خفاض البنات ومحاولة الحكومة الاستعمارية والبعثات التبشيرية محاربته. وأقامت السلطات الاستعمارية في أواخر العشرينيات كلية لتدريب القابلات في أمدرمان تحت قيادة أختين هما مابيل وقيرتريد وولف. وعملت الأختان على تعليم القابلات مباديء الصحة العامة وطرق التعقيم، وشجعتا على تعديل طرق التوليد والخفاض (الفرعوني) الذي كان شائعا في تلك السنوات.
وأعلنت الحكومة البريطانية - المصرية في 1946م، مدفوعة من زوج الحاكم العام، بمنع الخفاض الفرعوني. وعارض ذلك بعض رجال الدين مثل محمود محمد طه (الذي أسس لاحقا "الحزب الجمهوري") فقاد مظاهرة (في رفاعة) ضد ذلك المنع جذبت إليها عددا كبيرا من الناس، وانتهت به إلى السجن (للجمهوريين، مثل عبد الله أحمد النعيم، تفصيل في أمر تلك الحادثة في كتابه بالإنجليزية The Second Message of Islam، الصادر في عام 1987م. وهو مذكور في المقال كأحد المراجع. المترجم). غير أن السيد عبد الرحمن ندَّد في خطبة له بالخفاض الفرعوني بإعتباره أمرا مخجلا يحط من قدر المرأة ويخالف صحيح السنة النبوية (ورد ذلك بصحيفة "النيل" يوم 22 /7/ 1944م، بحسب ما ذكرته الكاتبة في مراجعها). وذهب شيخ أحمد الطاهرمفتي السودان إلى أبعد من ذلك حين شكك في صحة ممارسة عادة " clitoridectomy استئصال البظر" من ناحية إسلامية. هل خضع قادة المسلمين أولئك لضغوط من الحكومة لتأييد منع الخفاض الفرعوني؟ أم أنهم كانوا يؤمنون بالفعل بأنها عادة لا تمت للإسلام بصلة؟ لا ينبغي للمؤرخين أن يستبعدوا أن منتقدي الخفاض الفرعوني كانوا يؤمنون بالفعل بأضراره، وبعدم وجود ما يسنده في النصوص الدينية، ولذا عارضوه. وعلى كل، فهنالك الكثير من الشواهد على تعدد آراء المسلمين السودانيين في هذه الأمور وغيرها.

خطاب الجهاد والحرب الصليبية العالق
عند حدوث أول تمرد في الجنوب في عام 1955م اتجهت أنظار ساسة شمال السودان مباشرة نحو المبشرين بحسبانهم أعداء تسببوا في تفتيت اللحمة الوطنية بتنصيرهم سكان الجنوب "الوثنيين". لذا أقدمت الحكومة السودانية في عام 1957م على تأميم المدارس التبشيرية. وتبعتها حكومة الفريق عبود في عام 1964م بإبعادها لجميع المبشرين من أرض الجنوب، وأصدرت مذكرة توضح الأسباب التي دعتها للقيام بذلك الاجراء. وجاء في تلك المذكرة أن البعثات التبشيرية بقيت أداة تعويق للتكامل الوطني، وملجأ ومصدرا لتمويل المتمردين الجنوبيين، ومحرضة لهم للخروج على سلطة الدولة. وأتبعت الحكومة السودانية ذلك القرار بتوطين مناصب قيادات الكنائس. وأدى ذلك القرار بطرد المبشرين الأجانب إلى تسليط مزيد من الأضواء على الصراع المسلم – المسيحي، والذي رأي بعض المحللين السياسيين أنه سيبقى موضوعا دائما في تاريخ السودان الحديث.
وانتهت أو خفتت "الحرب الأهلية الأولى" في عام 1972م بتوقيع اتفاقية أديس أبابا. إلا أنها عادت بصورة أشد في عام 1983م بعد إعلان نميري لقوانين الشريعة (يجب تذكر أن "الحرب الأهلية الثانية" بدأت في مايو من عام 1983م، بينما أعلنت "قوانين الشريعة" بعد ذلك في سبتمبر من ذات العام. المترجم). وخلال سنوات "الحرب الأهلية الثانية" دأبت حكومة السودان على تصوير تلك الحرب الأهلية على أنها جهاد في سبيل الله، وأن قتلاها شهداء. وفي منتصف التسعينيات أطلقت اسماء بعض هؤلاء الشهداء على الشوارع الرئيسة بالعاصمة، وغرست روح الاسلام المتشدد حتى عند تلميذات المدارس بإلباسهن زيا مدرسيا مصنوعا من قماش التمويه (camouflage fabric) (ذكرت الكاتبة في مراجعها أنها رأت ذلك في غضون أيام زيارة لها للسودان عام 1995م).
ووجد سياسيو الخرطوم "الجهاد" ملائما سياسيا من نواح أخرى. فقد أتاح الخطاب الجهادي الفرصة للنظام للحصول على عون أكثر من الدول الاسلامية الغنية لتشييد مزيد من المساجد والمدارس الإسلامية في مناطق بعيدة وربما ليست مسلمة (أوردت الكاتبة مثلا بقرية شالي Chali على الحدود السودانية – الإثيوبية. المترجم). وبصورة عامة، وكما ذكر عبد الله علي إبراهيم في كتابه Manichaen Delirium الصادر عام 2008م، فلم يقدم ساسة شمال السودان إلا عضدا لفظيا lip service للشريعة الاسلامية والقيم الاسلامية من أجل كسب تأييد جماهير المسلمين له، والذين ساءهم ما يرونه من مظاهر الفساد وسوء الإدارة والقتتال الداخلي للأنظمة الوطنية المتعاقبة منذ عام 1956م.
وحاولت الحكومة السودانية، بتركيزها على الأبعاد الدينية للصراعات الداخلية، أن تصرف الأنظار عن المشاكل والتظلمات الاقتصادية والسياسية العميقة التي كانت هي السبب في اشعال نار تلك الحروب ابتداءً. ورفض كثير من الجنوبيين وغير العرب من السودانيين المسلمين (مثل النوبة في جنوب كردفان، وفي دارفور) إهمال مسلمي شمال السودان النيليين المتحدثين باللغة العربية لهم، واستئثارهم بالسلطة ومصادر الثروة، وابقائهم في حالة تخلف اقتصادي واجتماعي منذ عقود طويلة.
وقام الجنوبيون في عام 1983م بالاعتراض على قيام قناة جونقلي بسبب الآثار غير الحميدة التي ستقع على البيئة المحلية، واعترضوا أيضا على استيلاء المركز بالخرطوم على بترول الجنوب. وبالإضافة لما رآه الجنوبيون استغلالا اقتصاديا وبيئيا من الشمال، قاوموا أيضا محاولات المركز لما عدوه فرضا للثقافة العربية الإسلامية على السودانيين من غير العرب وغير المسلمين، يرقى لوصفه بأنه "استعمار داخلي جديد".
وفي خضم الحرب الأهلية الثانية (بعد عام 1983م) وعمليات النزوح لم يلجأ النوبة (تحت قيادة مسلمين مثل يوسف كوة مكي) لاستغلال الخطابات المسيحية، على الرغم من أن المسيحية كانت قد بدأت في الظهور كقوة لها نفوذ ثقافي عظيم في أوساط النوبة. وأعلنت الكنائس أنها لاحظت تزايدا كبيرا في أعداد المسيحيين، خاصة في أوساط النازحين، والجنود كذلك. فقد زادت أعداد القساوسة (Chaplains) في الجيش الشعبي إلى الفين. وعزا بعض علماء الأنثربولوجيا سبب ذلك إلى أن المسيحية ساعدت جنوبي السودان على تجاوز خلافاتهم وانقساماتهم العرقية والتي كانت قد أدت في الماضي لحروب ضروس بينهم، وقدمت لهم أيضا جبهة ايديلوجية موحدة ضد خصم واحد هو "الإسلام الرسمي" لحكومات الخرطوم (يرى البعض أن هذا القول قد غدا موضع شك بعد انفصال الجنوب بدليل الصراع العرقي الدائر هناك من منذ أكثر من عامين. المترجم). ورغم كل ذلك فقد احتفظ الجيش الشعبي بأنصار من المسيحيين والمسلمين، وعزز ذلك التنوع الداخلي من التزام الحركة بمبدأ التعددية الثقافية.
ثم بدأت مفاوضات طويلة في عام 2005م بين الجيش الشعبي وحكومة السودان في نيفاشا بكينيا، انتهت إلى اتفاقية سلام شامل، أعقبها استفتاء على الوحدة بين الشمال والجنوب (أصبح بموجبه جنوب السودان دولة مستقلة في 9 يوليو 2011م. المترجم).
لقد أصبح جنوب السودان الآن دولة مستقلة، غير أن احتمالات الحروب فيه لا تزال قائمة بشدة، إما بسبب الموارد الطبيعية (البترول والمياه) أو معاملة الأقليات الدينية (المسيحيين في السودان، والمسلمين في الجنوب). غير أن هنالك عامل آخر يعد أهم الآن من غيره، ولم يكن له وجود كبير في تاريخ السودان القديم، ألا وهو عامل القوى الخارجية. وقد تتدخل هذه القوى في هذه الصراعات من أجل خدمة مصالحها الخاصة. وتشمل تلك القوى مصر والصين والولايات المتحدة والسعودية وكينيا وأوغندا. ومن شبه المؤكد أن خطابات الجهاديين والصليبيين ستتواصل لتقدم واسطة نقل وحصيلة لغوية مرنة لطرح الأجندة، أو للمطالبة بسلطة، أو للدعوة للتغيير.

 

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء